مجلة الرسالة/العدد 887/فلسفة الإصلاح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 887/فلسفة الإصلاح

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1950



للأستاذ محمد محمود زيتون

ليس من العجيب أن تكون الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي قديمة قدم الإنسان، فقد كان العالم من قبل غير منسجم مع النزعات البشرية، لأن شيئا جديد طرأ على العالم وهو (العقل) الذي لم يكن شيئاً مذكورا.

أخذ الإنسان بهذا السلاح. وحاول استخدامه، وهو في موقف المقاومه، إزاء جميع القوى المحتشدة عليه، والتي ليس له طاقة بها. حينذاك شعر بأنه أقل من خصمه الحيوان: فالحيوان مسلح بظفره ونابه وقرنه، أما هو فليس له من ذلك شيء، وإذن فهو مضطر إلى تقليده ليدفع عن نفسه كل العوادي بحجر يرمي به أو غصن يتخذه رفيقا له أو ما شابه ذلك مما يقع تحت سمعه وبصره.

وهكذا كان الإنسان في بدء حياته (حيواناً صناعياً) لأنه ألغى سلاح العقل واعتمد سلاح الوحشية، ولا سبيل إلى إنقاذ الإنسان من هذه الوهدة التي تردى فيها والتي كادت تحشره في زمرة الوحوش إلا بالرسالات السماوية تعلو به إلى ما يجب أن يكون عليه من تسام بالروح، وعلو بالعقل، وترفع عن الحيوانية التي أساس العملة فيها الظفر والناب والقرن.

والحكمة من هذه الرسالات السماوية النهوض بالسلاح الإنساني إلى النواحي الإيجابية في الحياة، وتهذيب كل اللغات اليدوية فالروحية والمعاشية، على أحسن وجه وأقوم سبيل.

ولم تكن الرسالات في الحقيقة بدعا من الأمر، وإنما هي من صميم الحاجة الإنسانية وليست منها ببعيد، فإذا ضلت الإنسانية سبيلها، فما عليها إلا أن تعود إلى تعاليم الرسالات، فإذا اهتدت فليس معنى ذلك أنها جاءت بجديد، وإنما هي عادت إلى حيث يجب أن تعود.

وتاريخ الفكر البشري شاهد عدل على ذلك: ففلاسفة اليونان - والقدامى منهم بصفة خاصة - ظلوا ردحاً من الزمن حيارى إزاء ما هم فيه من فوضى في كل مرافق الحياة السياسية والاجتماعية والفردية والروحية. وهم عندما أرادوا لهذه الأحوال إصلاحا بدءوا بإصلاح العقل لأنه السلاح الذي إذا شحذ جيدا كلن أقطع وأمنع مما سواه، بل هو وحده الموصل الجيد للغرض المنشود، وأقرب المسالك إليه.

شاعت السفسطائية قبل سقراط؛ فسادت الفوضى، في الفكر والخلق والدين والسياسة، وإذ بسقراط يرمي أول سهم في هذا الميدان ويعلق تلك الحكمة الخالدة (أعرف نفسك) التي كان قد قرأها على باب معبد (دلف) وعندما سئل عن مبلغ علمه قال (كل ما أعرف هو أني لا أعرف)

وهذا من غير شك بدء طبيعي؛ لأن العارف لا يعرف وإنما سقراط (نبي غير رسمي) أراد أن يبشر برسالة الفكر فحطم كبرياء السفسطائيين وغرورهم وتعاليهم، فهو يعلن أنه لا يعلم شيئا لأنه عالم أما هم فيدعون علم كل شيء لأنهم جهال.

وبلاد اليونان جبال بينها شعاب تقوم فيها مدن منفصل بعضها عن بعض ومنذ ابتليت بالغزو الفارسي ذاعت فيها الفوضى من كل لون. فلما تعمق أثر هذا الجرح السياسي في خواطر المفكرين الأحرار، وضح سبيل الخلاص، وإذا بسقراط (المعلم) الأول يتحدث ويعلم ويمشي في الأسواق ويرتاد النوادي لينشر دعوته مؤمنا بسلاحه القوي وهو العقل فيتفلسف. وأول ما يتفلسف يقيم هيكلا فكرياً للعقل يسميه الفلاسفة (نظرية المعرفة) ويسير على نهجه من بعده أفلاطون وأرسطو، ويكمل اللاحق، منهم ما لم يتح للسابق.

ومن أجل هذا ترى دائما (نظرية السياسة) آخر حلقة من حلقات الفلسفة اليونانية، وقد سبقتها سلسلة طويلة عريضة من تمهيدات فكرية في الطبيعة والنفس والأخلاق).

والسياسة عند اليونان هي غاية الإصلاح، أما العقل فهو نقطة البدء والغاية هي التي تحفز على الحركة، وتبعث على العمل.

وكان أفلاطون أكثر تحمساً للإصلاح، وأغزر إنتاجا في مجاله، فقد رسم في (الجمهورية) رسما تخطيطياً بارعا للمجتمع اليوناني، وذلك بعد عرض لنظرية (المثل) التي محور ارتكازها العقل، والتي توحي بأسبقية الميزان على الموزون، وضرورة (القيمة) في (الحكم).

وليس أدل على نمو هذا الاتجاه، وصدق النية فيه، من إصلاح الفكر الذي نادى به أرسطو إذ وضع (آلة) لعصمة الفكر من الوقوع في الخطأ، وحرص على أن يكون (المنطق) وهو علم هذه الآلة مدخلا لكل علم، وأساسا لكل تفكير.

وما إن انحدرت البشرية إلى هاويتها السحيقة حتى انتشلتها الرسالات تباعاً، ونهضت بها إلى درجات السمو، فلما غفلت عنها أوربا المتخبطة في دياجير الظلم والظلام، عنت نفس الحاجة التي صادفت سقراط إذ خلقت منه ظروف بلاده مصلحا اجتماعيا.

وكذلك العالم الإسلامي في العصر الوسيط، إذ أراد الفارابي أن يقيم دعائم (المدينة الفاضلة) فاتجه إلى حقيقة النبي، والسر في صلاحيته للرسالة، ودرس نفاوت البشر في درجة الخيال وملكة الإلهام، فإذا أراد أفلاطون أن يكون الفلاسفة ملوكا والملوك فلاسفة، فقد أراد الفارابي أن يكون الفلاسفة المصلحون ورثة الأنبياء.

وأحاطت بفرنسا في القرن السادس عشر ظروف سياسية عنيفة كان العقل فيها وقفا على أهل الكنيسة والعلم احتكار الهيئة كبار العلماء. فقام (ديكارت) ليدلي بدلوه في الإصلاح بمناورة فلسفية يتخطى بها كل الحواجز والموانع التي تحول دون غرضه فأحصى في كتاب خاص (قواعد لهداية العقل) لأن شيطاناً ماكراً - على حد تعبيره - يعبث بأفكاره ويضلله ولم يلبث أن وضع كتابه الآخر عن (المنهج للبحث عن الحقيقة في العلوم) وقال فيه أول ما قال (العقل أعدل الأشياء توزعا بين الناس) فكانت هذه الجملة بمثابة القنبلة التي ألقاها (ديكارت) على الأرستقراطية المزعومة فحطم أوكار الاحتكار العلمي، وأخرج العلم من زوايا الأديار والصوامع، إلى ضوء النهار الساطع، ونجحت الثورة الديكارتية.

وجاء (فرنسيس بيكون) فحطم (أصنام العقل) التي لخصها فيما يلي: -

1 - أصنام القبيلة: كناية عما يرثه الإنسان من جنسه البشري كتصديق العرافين والمنجمين الذين إذا صدق أحدهم مرة ظن الإنسان أن النجمين صادقون، وكذب المنجمون ولو صدقوا.

2 - أصنام المسرح: كناية عن تأثر الشخص بالمشهورين قبله مثله كمثل المتفرج الذي يقلد الممثل إذا أجاد دوره.

3 - أصنام السوق: كناية عن العملة التي نتعامل بها في المجتمع وهي اللغة التي تستعبدنا ألفاظها ومعانيها.

4 - أصنام الكهف: كناية عما لكل فرد من مستودع سحيق، في قرارة نفسه تنحدر إليه مؤثرات من الخارج سواء من الوراثة أو البيئة أو ما سواهما.

ولكي نقيم أساس الإصلاح لابد من تحطيم هذه الأصنام التي تستعبد العقل وتستبد به، وتحول بينه وبين التبصر والتدبر مما لا يصلح معه نظام. وبناء المجتمع لا ينهض قوياً متيناً إلا إذا أتينا عليها من القواعد.

هذا عرض سريع لفلسفة الإصلاح منذ أقدم العصور وهو تاريخ جدير بالنظر والاعتبار.

فإذا نحن أردنا لهذا المجتمع الحالي إصلاحا، وقفنا منه على أشياء منها: أن المجتمع الآن نهب لأشتات النوازع الوحشية، والشهوات البهيمية، حتى نأى الفرد والمجموع معاً عن ينبوع الرسالة السماوية: فلم يعد للضمير وخز، ولم يعد للقلب ينبض بالخير والمعروف، وجمد العقل وعكف على أصنامه، ورانت غشاوة المادة على النفس الإنسانية، وتجمدت الأكباد، ارتكاناً على مخترعات (الحيوان الصناعي) الذي أعاد التاريخ ذكراه، وأصبح كل همه الآن: الهجوم أو المقاومة، ولا شيء غير ذلك. فالسياسة الآن كلها مكر الذئاب، وروغان الثعالب، ونباح الكلاب، وجبن النعاج، وتسلل الفيران.

والدين كذلك هو التراخي والتواكل والذل والهوان والاستكانة والعبودية، والعملة المتداولة كلها زيف وزور وبهتان ولا رأس ما لها من يدن أو قانون، ولا رصيد لها يحميها ويغطي الخسارة، أما المكسب فهو النهب والسلب والغصب والغبن والفحش.

والتربية هي الأخرى تخلصت من (العروة الوثقى) وتحللت من جميع القيود، فلا كبير ولا صغير، ولا وازع ولا رادع، ولا حرية للانطلاق، ولا حدود للحجر.

وهكذا في جميع مرافق المجتمع، والفوضى ضاربة إطنابها والغيورون في حيرة عجيبة؛ أيبدءون بإصلاح السياسة أم الاقتصاد أم التربية، أم يبدءون بإصلاح الفرد أم المجتمع؟ وهل يصلحون الدنيا ليصلح الدين، أم هل يصلحون الدين لتصلح الدنيا؟ وظل هذا التخبط وسيظل حتى يعود الأمر إلى نصابه.

والحق أنه ما دامت الأصنام قائمة في المعبد والمنزل والمدرسة والسوق فلن يصلح الفرد ولا المجتمع. وسبيل الخلاص معروف، ولا مناص من السير فيه لأنه طبيعي، وسهل ميسور: وهو أن نهدف إلى غاية واضحة نبيلة، وتتجه جميع الأنظار إليها وتستوعبها وتؤمن بها. والمنطق السليم يقول بأن هذه الغاية هي (الله سبحانه وتعالي، وهو الأول والآخر، وهو الذي خلق العقل أول ما خلق. والآن وبعد أن انحدرت الإنسانية إلى هذه الهاوية المادية وبعد إغفالها صوت العقل لا سبيل إلى انتظام الحال إلا بإصلاح العقل وتخليصه من أوهامه وإنقاذه من أصنامه، وهذا هو البدء الصحيح وصدق الشاعر: إذا أفسدت أول كل أمر ... أبت أعجازه إلا التواء

وهذا هو أقرب السبل إلى الغاية المنشودة فالعقل لا يدرك الأمور أحسن الإدراك، ولا يقدرها التقدير الصحيح، ولا يدفع الفهم إلى العمل النافع المأمون، إلا إذا كان هو نفسه سليماً، وكاملاً متكاملاً، أي حراً طليقاً في تأثره وتأثيره. كما أن العقل هو الذي يهدينا إلى الهدف، ويتحد له المناهج، ويتوخى الظروف.

فلنعد إلى العقل نستصلحه أولا لنطمئن تماماً على إصلاحه حتى إذا تم ذلك يعد أمام المصلحين إلا مجرى ممهد تماماً لتيار الإصلاح السليم (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له نور).

محمد محمود زيتون