مجلة الرسالة/العدد 886/صوم رمضان بين العلم والأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 886/صوم رمضان بين العلم والأدب

مجلة الرسالة - العدد 886
صوم رمضان بين العلم والأدب
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1950



للأستاذ ضياء الدخيلي

يقبل اليوم قراء (الرسالة) الغراء في أطراف العالم الإسلامي على شهر رمضان ويعانون فيه جهاد النفس بالصوم الذي هو من أركان الإسلام ودعائمه. فلنتحدث عنه وعما ترك في الأدب العربي من اثر. ولنستعرض ما قاله علماء الفسلجة والأطباء في أثر عموم الصوم في الجسم. فما أحرانا أن نشارك القراء الكرام فيما هم فيه من هالة نفسية فنخوض غمار البيئة الروحية التي يعيشون فيها؛ ولنواكب خطوات شهر رمضان في الأجيال الإسلامية وما قاله الأدباء فيه في شتى عصور الإسلام وما أثار في نفوس المتمردين على شريعته الأدبية وقيودها ولجمها، وما بعث فيهم من ثمرة عارمة على شهر تحرم فيه اللذات الجسمية وتحدد إذ ينجرف المجتمع الإسلامي في تيار سلسلة من العبادات حيث يتغلب التزمت والقار على الخلاعة والاستهتار؛ ثم لنتحدث عما تضمنه الصوم من التربية الإسلامية إذا روعي فيه تقوية الوازع النفسي وكف غارب الشهوات وتقييد الأهواء الجامحة إذ لا ريب أن تقيد المرء نفسه باتباع نظام معين واستطاعته في تنفيذ تصاميمه وتطبيق خططه لأمر فيه أسمه مظاهر الفضيلة، فليس أغلب الرذائل التي تهوي في حمأتها النفوس إلا نتيجة جموح فيها فلا يجد المرء في طاقته كفاءة لكبح ثورتها وإرجاعها إلى مأمنها فإذا تدرب المسلم في الصوم على إلجام النفس وردعها عن شهواتها فقد قطع شوطاً بعيداً نحو المثل العليا وحلق عالياً عن مهامي كثير من الجرائم التي يبعثها تسلط العاطفة على العقل وتغلب الشهوة المتمردة والرغبة الحمقاء. وقد سبق الإسلام إلى تشريع الصوم شرائع سماوية قويمة وذلك ما تقوله الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم).

قال الطبرسي الشيخ أبو الفضل بن الحسن من القرن السادس الهجري في تفسيره (مجمع البيان) في تفسير هذه الآية أي فرض عليكم العبادة والمعرفة في الشرع ككتابتها على من سبقكم وفيه أقوال أحدها أنه أشبه فرض صومنا بفرض صوم من تقدمنا من الأمم أي كتب عليكم صيام أيام كما كتب عليهم صيام أيام، فليس فيه تشبيه عدد الصوم المفروض علينا ولا وقته بعدد الصوم المفروض عليهم أو وقته، وهو اختيار أبي سلم والجبائي. وثانيه أنه فرض علينا صوم شهر رمضان كما كان فرض صوم شهر رمضان على النصارى، وكان يتفق ذلك في الحر الشديد والبرد الشديد فحولوه إلى الربيع وزادوا في عدده عن الشعبي والحسن. فالمراد بقوله الذين من قبلكم النصارى على قول الحسن والشعبي. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى على قول غيرهما.

وقال الشيخ نعمان أفندي آلوسي زاده من وعاظ الأتراك في كتابه (غالية المواعظ) في تفسيره الآية أي كما كتب على من سبقكم من الأنبياء عليهم السلام والأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم. واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو فقيل قدر الصوم ووقته؛ فإن الله تعالى كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيروا. وقيل وجوب مطلق الصوم.

وأقول أنه لا ريب أن في الصوم تربية صالحة للنفس وفيه تدريب لها على العفة والكف عما لا تبيحه الشريعة الأدبية ويأباه النظام المتبع وأن شهر رمضان من خير الأوقات للتعود على ضبط النفس ونعني به اعتدال الميل إلى اللذائذ وخضوعه لحكم العقل وليس ذلك مقصوراً على اللذائذ الجسمية بل يشمل أيضاً اللذات النفسية كالانفعالات والعواطف فلا يسمى الشخص ضابطاً لنفسه إلا إذا اعتدل في لذاته الجسمية من طعام أو شراب واعتدل في انفعالاته النفسية فلم يغضب لأي دافع. وكثير من الرذائل يرجع سببه إلى عدم المقدرة على ضبط النفس الذي يدعوه الإنكليز

ويجعلون له إلاهيته الكبرى في صلاح سيرة المرء وسلوكه. وقد اشترط في كمال الصوم مراعاة آدابه ومنها كف الأذى عن الناس وضبط العواطف. وأن من الأمور التي تتردى في أوبائها إذا أضعنا ضبط النفس الشراهة والدعارة والطمع والإسراف والغضب والسخط والثرثرة والإدمان على المسكرات والقمار وارتياد المراقص ومسارح الخلاعة والتهتك. والصوم إذا عود المرء على ضبط النفس أداه إلى فضيلة عالية تجعله سيد نفسه وترفعه أن يكون عبداً لشهواته تسيره كما تشاء وقد حض الصائم على نبذ السفاهة وكف الأذى عن عباد الله ومن ذلك قول الشاعر الإسلامي جابر

إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت

فحظي من صومي هو الجوع والظمأ ... وان قلت أني صمت يوماً فما صمت

قال في المنجد: تصون وتصاون من العيب حفظ نفسه منه فالشاعر يدعو كف كل الحواس عن كل ما تقوم به من جرائم. قال في الغالية: واعلموا أن للصيام آداباً كثيرة فمنها أكل الحلال والإفطار على الحلال ومنها كف الأذى عن الناس ومنها عدم سماع اللهو والغناء المحرم وعدم سماع القصص المحرمة في الأماكن المذمومة وترك الكذب والغيبة والنميمة وغض النظر عن المحرمات وقد قال النبي (ص) من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ونقل الشيخ نعمان الآلوسي في (غالية الواعظ ومصباح المتعظ وقبس الواعظ) والشيخ شهاب الدين أحمد الأبشهي في (المستطرف في كل مستظرف) أنه قيل الصوم عموم وخصوص وخصوص الخصوص: فصوم العموم هو كف البطن والفرج وسائر الجوارح عن قصد الشهوة وصوم الخصوص هو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام وصوم خصوص الخصوص هو صوم القلب عن الهمم الدنية وكفه عما سوى الله بالكلية.

وجاء في تفسير الآية الكريمة من سورة البقرة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) قال الأردبيلي في (زيدة البيان) يعني أوجب الله وكتب أيها المؤمنون الصوم عليكم مثل كتابته على الذين من قبلكم، فما مصدرية ولعل التشبيه في أصل الصوم أو العدد والوقت أيضاً لكن غير كما في التفاسير - لحصول التقوى لكم به عن سائر المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة كما في الحديث من لم يطق الباه فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء: قال الطريحي في مجمع البحرين الوجاء بالكسر ممدود هو رض عروق البيضتين حتى تنفضخ فيكون شبيهاً بالخصاء وقيل هو رض الخصيتين شبه الصوم به لأنه يكسر الشهوة كالوجاء، والفضخ هو كسر الشيء الأجوف: روى ما تقدم في الكشاف للزمخشري وفي تفسير البيضاوي وقال الأردبيلي وأن في الصوم التغلب على القوة الغضبية وما يتبعها من الشرور إذ يحصل للنفس انكسار وعدم الميل وفقدان القوة والعزوف عما يضر ووجه ذكر وجوب الصوم على الأمم السابقة تسلية المؤمنين بهذا التكليف الشاق على النفس لأنه مناف لمشتهاها فيحاول توطين النفس على فعله وحسن قبوله. وقوله تعالى فمن كان مريضاً ظاهره مطلق المرض كما نقل عن البعض في الكشاف للزمخشري لكنه خصه بعض الفقهاء بمرض يضره الصوم كما تقتضي المناسبة العقلية وما يفهم من قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) قال الزمخشري في الكشاف وقيل هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه، ونقل عن الشافعي أن المريض لا يفطر حتى يجهده الصوم الجهد غير المحتمل. وقال الطبرسي في (مجمع البيان في تفسير القرآن) سأل هشام بن الحكم أبا عبد الله الصادق عن علة الصيام فقال إنما فرض الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، فأراد الله سبحانه أن يذيق الغني من الجوع ليرق على الضعيف ويرحم الجائع. قال الطبرسي والصوم في اللغة الإمساك ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال ابن دريد كل شيء سكنت حركته فقد صام صوماً، قال النابغة:

خيل صيام وأخرى غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

أي قيام، وصامت الريح أي ركدت وقال الآلوسي في الغالية: الصوم في اللغة مطلق الإمساك ومنه الآية الكريمة حكاية عن مريم العذراء إني نذرت للرحمن صوماً أي صمتاً وسكوتاً عن الكلام كراهة لمجادلة السفهاء، ويقال أيضاً صامت الريح أي أمسكت عن الهبوب وصامت الفرس أي أمسكت عن العدو والركض ومنه قول النابغة المتقدم. وقال الطريحي في مجمع البحرين قوله تعالى (إني نذرت للرحمن صوماً) أي صمتاً، عن ابن عباس عن أبي عبيدة كل ممسك عن طعام أو كلام فهو صائم. وقال الفيروز بادي في القاموس صام صوماً وصياماً أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير فهو صائم وصومان وصوم جمعه صوام وصيام وصوم وصيم صيم وصيام وصيامي.

قال الطبرسي أن قوله تعالى فمن كان مريضاً الخ: فيه دلالة على المسافر والمريض يجب عليها الإفطار لأنه سبحانه أوجب القضاء ومن قدر في الآية (فأفطر) فقد خالف الطاهر وقد ذهب إلى وجوب الإفطار في السفر جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب (رض) وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وعروة بن الزبير، وهو المروي عن الأئمة فقد روى أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً صام في السفر أن يعيد صومه وروي يوسف بن الحكم قال: سألت ابن عمر عن الصوم في السفر فقال أرأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك ألا تغضب؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم.

ولقد اتخذ كثير من رجال الإسلام الصوم والجوع واسطة لتهذيب النفس وقمع شهواتها.

فمن كلام لأمير المؤمنين الإمام علي (ع) يصف العارف أنه (قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظه وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه) وقد قال في شرحه ابن أبي الحديد سنة 655هـ أنه عليه السلام يصف العارف يقول قد أحيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه وأمات نفسه بالمجاهدة ورياضة القوة البدنية بالجوع والعطش والشهر والصبر على مشاق السفر والسياحة حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف ولطف غليظه أي تلطفت أخلاقه وصفت نفسه فإن كدر النفس في الأكثر إنما يكون من كدر الجسد والبطنة كما قيل تذهب الفطنة.

وقد رأيت الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه (الإشارات) في الفلسفة وقد درسته في النجف الأشرف - يدعو إلى رياضة النفس وقمع شهواتها توصلا بذلك إلى رقيها ورفعها إلى مستوى العارفين.

وقال إبراهيم بن أدهم لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يغلق عن نفسه باب النعمة ويفتح عليه باب الشدة، وقال أبو علي الروذباري إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه السوق ومروه بالكسب. فتراه يطلب من الصوفي الصبر على الصوم الطويل وجاء في الحديث أن فاطمة جاءت إلى رسول الله (ص) بكسرة خبز فقال ما هذه؟ قالت قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة فأكلها وقال أما أنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث. قال ابن أبي الحديد وكان يقال ينابيع الحكمة من الجوع وكسر عادية النفس بالمجاهدة. وقال يحيى بن معاذ لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره.

وقال سهل بن عبد الله لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل وجعل في الجوع الطاعة والحكمة: وقال يحيى بن معاذ الجوع للمريدين رياضة وللتائبين تجربة وللزهاد سياسة وللعارفين تكرمة.

للكلام بقية

ضياء الدخيلي