مجلة الرسالة/العدد 886/سياسة التعليم. .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 886/سياسة التعليم. .

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1950


للأستاذ محمد محمود زيتون

ليس أجدى على الوطن من اتخاذ الوسائل لتحقيق الاستقرار شتى المرافق الحيوية، وبغير هذا تضطرب النفوس، وتنعدم الثقة، وتشتد حملات الانتهازيين. وعواصف المتربصين، مما يحدث خلخلة لا تؤمن عواقبها.

وسياسة التعليم أحق من أي سياسة بالثبات والاستقرار ولا سيما في جوهرها، إذ أن سنة التطور تجري على الأعراض والحواشي دون اللب والصميم.

ومصر التي تدور في فلك الديمقراطية، وتصدر في سياستها العامة عن وحي مبدئها العام (الأمة مصدر السلطات)، وتتميز بطابع الاستقرار، جدير بها أن تمضي إلى النهاية فيما نحن بسبيله من اعتبار القائمين بأمر التربية والتعليم مسئولين أولاً ن استجابتهم لروح الأمة في كل تشريعاتهم.

والمصدر الأول في للسياسة التعليمية هو: المعلمون أنفسهم، فهم - بما تزودوا به من علوم التربية، وبما اكتسبوه من تجارب مهدت لهم سبل النجاح في مهمتهم - قادرون على أن يغيروا المصادر العليا بآرائهم ومقترحاتهم.

ولن يتحقق هذا إلا إذا كان للمعلمين صحيفة شهرية - إن لم تكن أسبوعية يتبادلون فيها مشاكل المهنة، ويتناولون أحدث نظرياتها، على شرط أن تكون بعيدة كل البعد عن الميدان الحكومي البحت، بل يجب العمل علة كفالة حيدتها وحريتها، ونجاتها من الهزات الحزبية العنيفة

كما ينبغي عقد مؤتمرات دورية يتدارسون فيها أمهات المشاكل والتشريعات، لنضمن بذلك تنسيق الجهود بصدد القرارات المتخذة في كل وجه من وجوه الإصلاح.

وهذا يقضي كل معلم أن يقدم كل شهر تقريراً عن ملاحظاته ومقترحاته بصدد المادة التي يدرسها، والكتب المقررة فيها، ومدى تأثر المتعلمين بالبرامج الموضوعة، والنظم المدروسة، والنشاط الاجتماعي عامة، ومقدار التعاون بين المدرسة والبيئة.

ولن يثمر مثل هذا الجهد إلا إذا قامت الوزارة من جانبها بدراسة هذه التقارير وتحليلها وتنسيقها وتصنيفها حتى تكون أرقاماً ناطقة بلغة الإحصاء، وهذا ألصق باتجاه إدار البحوث الفنية من أي جهد تضطلع به الآن. .

والمصدر الثاني للسلطة التعليمية هو الآباء والأمهات، فما أحوج المشرعين في النظم التعليمية إلى التعرف على شكاوى المنزل، والوقوف على ميول الفتيان والفتيات نحو المادة العلمية، وصنوف المعلمين، وألوان النشاط. .

والمدرسة والمنزل كلاهما مرصد يسجل فيه المعلمون والآباء بمعاييرهم الحساسة وقائع - إذا وضعت بمادتها الخام تحت النظر الفاحص أنبأت عن تيارات قد نرضاها فنطمئن إليها ونشجعها، أو نخشاها فنجهد في تجنبها وعلاجها بالحكمة والسداد.

ولما كان المتعلمون هم أصحاب الشأن الأول في الموضوع فقد وجب استخدام (منهج الاستفتاء) المعروف خطره في العلوم السيكولوجية والاجتماعية: وذلك بتوجيه أسئلة مطبوعة منظمة تنظيماً منطقياً نفسانياً، مع فحص الأجوبة عنها بكل عناية. . وبهذا لا يحرم المشروع من الاتصال المباشر بمن سيشرع لهم، وعندئذ تكون النظم المختارة ناضجة غاية النضج، لأنها في الغالب العام من أصداء النفوس في طوابعها ونوازعها.

ويبقى بعد كل ذلك ما يصح لنا أن نسميه (فلسفة التوجيه). فإنه إذا اقتصرت مهمة المدرسة على التلقين الإكراهي، وحشو الدماغ ثم استفراغه مما عسى أن يكون قد علق به من المعلومات طولاً وعرضاً، فليس يعدو الأمر أن يكون سخرة منظمة: إذ يتجرد المدرسون من ميكانيكاً لترويض حيوانات ناطقة على حساب التربية والتعليم والتثقيف دون اعتبار للكسب والخسارة.

والخطر محدق من غير شك بالمجتمع أولاً وأخيراً: ذلك بأن التعليم يجب أن يسير وفق (الروحانية) المرنة لا نحو (الآلية) الجامدة، وأن يتوخى (الإيحاء) لا (التلقين).

وإذا ننتهي إلى اللغة الإحصائية حسب المنهج الاستقرائي المتبع، نرى أنفسنا مقيدين بروابط طبيعية هي (القوانين) الصارمة التي لا مناص من الاعتراف بها، والعمل على تنفيذها في ثقة واطمئنان، وأمانة وتسليم.

ومن المحقق أن الآفاق التي تفترض القوانين أياً كان نوعها هي الأوضاع التي نشأت عنها المجتمع المتميز بخصائصه ومشخصاته جغرافياً واقتصادياً واجتماعياً مما لا يدع مجالاً للشك في أن كل تفرد بالرأي أو تقليد لنظام أو احتكار لسياسة أو التحكم في فرض، تحت حماية السلطة القائمة المخولة لن يقدم شيئاً في مجال التعليم، بل مصير ذلك خسارة في الوقت، وتقهقر إلى الوراء.

حقاً إن مصر قد درجت منذ كانت على الاستقرار أو بحكم أوضاعها، ومع ذلك فهي بحاجة إلى الأناة في استخلاص (الجوهر النفسي) من خاماتها التي تألفت منها وحدتها، وصيغ كيانها على مر السنين وتوالي الأحكام، وليس ما يمنع من الاقتباس ولكن بكل بحذر، ومن غير ارتماء في أحضان الأنظمة التي ترضي الثقافة الخاصة، والهوى الشخصي.

ولن تعوزنا بعد ذلك سبل الاختيار وبرامج التنفيذ، مادمنا نعترف بأننا أمة شرقية للفرعونية والإسلامية في دمائنا كرات حمراء وبيضاء، وللحضارة الحديثة أصداء غير شلاء.

أن التفاهم على معالي الأمور من أشرف ما تتسم به الروح الديمقراطية إن لم يكن من أقدس الواجبات الوطنية التي تتعالى على الأهواء والأشخاص.

وعلى هذا السنن درج السلف الصالح من الملوك والمربين (وأمرهم شورى بينهم) وليس أدل على هذا من كتاب هارون الرشيد إلى علي بن الحسن معلم ولده الأمين وفيه يقول (ولا تمعن في مسامحة فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالغلظة والشدة) وهكذا كان الملوك شركاء للمعلمين في تربية الأمراء. وهكذا يجب أن تتعاون جميع المصادر لوضع سياسة الاستقرار في التعليم وإلا فالنتيجة اللازمة مجرد آراء وردود وتعليقات وتحزب وتعصب، وتشكيك للرأي العام، وضياع للأجيال القادمة بينما أهل العقد والنقد بمنأى عن الأمر الخطير.

محمد محمود زيتون