مجلة الرسالة/العدد 886/الأسس الجغرافية والتاريخية للوحدة اللوبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 886/الأسس الجغرافية والتاريخية للوحدة اللوبية

مجلة الرسالة - العدد 886
الأسس الجغرافية والتاريخية للوحدة اللوبية
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1950



للأستاذ مصطفى عبد الله بعيو

(تتمة)

على أن موجة الفتح العربي هذه التي ربطت بين الأجزاء الثلاثة سرعان ما تلتها موجات أخرى عربية كان لها أثر كبير في تدعيم هذه الوحدة الجنسية. ومع ما لإقليم فزان من وقع جانبي بالنسبة لموجات القبائل العربية في طريقها إلى الغرب إلا أن الملاحظ أن الدم العربي يسود القبائل الفزانية. ولا شك أن هذا الأثر لم يصل إلى فزان مباشرة إلا عن طريق طرابلس كبقية المؤثرات السابقة التي أتت من الشمال ومن أظهرها وصول المسيحية إلى فزان في العهد الروماني.

وكان من أهم الموجات العربية التي أثرت في لوبيا هجرة بني هلال وبني سليم وقد أراد بعض الكتاب أن يتخذوا من استيطان معظم قبائل بني سليم في برقة وغالبية بني هلال في طرابلس وتونس مدعاة لاثبات اختلاف التكوين الجنسي لكل من افقليمين؛ ولكن فاتهم أن هذه القبائل جميعها عربية وإن اختلفت في التسمية، ولهذا يستبعد اختلاف تأثيرها خصوصاً وأنها تتحد في الأصل القبلي، إذ المعروف أن بني سليم وبني هلال يتحدون في الأصل بانتمائهم إلى مضر من بادية نجد. ولو كان بنو سليم من عرب الشمال وبنو هلال من عرب الجنوب لكان من الممكن التماس لهذا الزعم ولكنهم جميعاً من أصل وموطن متحد.

على أن هذه الموجات العربية التي أتت من الشرق وربطت بين أجزاء البلاد ما تنعتها موجات أخرى أتت من الغرب وزادت في قوة هذه الرابطة الدموية فمن المعتقد أنه بعد اختفاء المجتمع الإغريقي الروماني بعد الفتح العربي كانت مدينة (برنيق) المعروفة الآن ببنغازي غير مسكونة حتى القرن الخامس عشر الميلادي عندما عادت الحياة إليها من جديد بواسطة المهاجرين من جماعات التجار من مدن الساحل الطرابلسي ومن بينهم أولئك الذين أتوا من مسراطة وقد زاد عددهم على مر الأيام حتى أصبحنا نرى أخيراً في مدينة بنغازي شوارع تحمل أسماء قرى معروفة في مدينة مسراطة فهذا شارع (جزير) وذلك شارع (قصر أحمد) وهكذا وكلها أسماء لقرى ما زالت عامرة بأهلها في مسراطة قد نزح بعض أفرادها إلى بنغازي واستوطنوا حتى أصبح المعروف بين البادية أن كلمة (مسراتي) معناه ذلك الذي يسكن بنغازي. وربما تكون لغة الأرقام أكثر توضيحاً لارتباط عائلات مدن برقة بأصولها في مدن طرابلس إذا عرفنا أن قرية واحدة من قرى مسراتة متوسطة في عددها لها علاقات عائلية بستة وسبعين شخصاً من أفرادها المقيمين في برقة والذين يتولون بدورهم الإشراف على عائلاتهم الخاصة. وهذه درنة كذلك قد زاد عدد سكانها بإقامة التجار الآتين إليها من المدن الساحلية في طرابلس. وإذا عرفنا أن أهالي مدينة درنة ثانية مدن برقة أهمية ينقسمون إلى (تواجير) نسبة إلى تاجوراء وإلى (مسراته) نسبة إلى مسراته وإلى (ظليتنية) نسبة إلى ظليتن وإلى (قول اوغلية) نسبة إلى أبناء القرى الانكشارية أدركنا النسبة العالية التي ساهمت بها بعض مدن ساحل طرابلس في تكوين سكان درنة. وبهذا الشكل فيما يختص ببقية مدن برقة كتوكرة والمرح وطبرق وغيرها. وما زال هؤلاء النازحون على اتصال بأهلهم وذويهم في المدن الساحلية الطرابلسية والعكس بالعكس. ولنا أن نتصور مدى الصعوبة الاقتصادية والعلاقات العائلية التي يلاقيها سكان البلاد لو تحققت نظرية فصل الإقليمين عن بعضهما.

هذا من ناحية العلاقة البشرية أما إذا درسنا جغرافية البلاد الاقتصادية فإننا نلاحظ أن البلاد تصاب بأعوام الجفاف من سنة لأخرى فتتعرض للهلاك ولكن الملاحظ أيضاً أن سنوات الجفاف إذا حلت فهي في الغالب لا تشمل كل البلاد بشقيها فإذا قلت الأمصار في طرابلس كان مستواها فوق المتوسط أو متوسطاً في برقة والعكس بالعكس. وبمراجعة المجاعات التاريخية التي حدثت في البلاد ندر أن تكون قد عمت جميعاً وهذا مما يخفف من حدة الأزمة ويجعل البلاد تمر منها بسلام كما حدث في سنة 1936 (المعروف بعام ينغازي عند الطرابلسيين) عندما بعث أهالي طرابلس بحيواناتهم إلى برقة، وكما حدث في سنة 1946 عندما اعتمد أهالي طرابلس إلى حد كبير على شعير يرقة. وهذا أيضاً ما نلاحظه في هذه السنة فقد نشرت مجلة بطرابلس الغرب في عددها (121) بتاريخ 9 أبريل سنة 1950 أن قبائل برقة التي على الحدود الغربية أخذت تنتقل بحيواناتها إلى طرابلس نظراً لسوء موسم الأمطار هذه السنة في برقة.

ونحن إذا درسنا الجغرافية الاقتصادية للأجزاء الثلاثة لوجدنا مثلاً فزان تعتمد إلى حد كبير على شعير طرابلس كما أن موانئ طرابلس هي المنفذ الطبيعي لإمداد أهالي فزان بما يحتاجون إليه وتصدير ما يستغنون عنه أو ما يجلبونه من السودان إذ أن أقرب الموانئ إلى فزان هي موانئ طرابلس الغرب بعكس ما لو اتجه أهالي فزان إلى موانئ تونس والجزائر كما هي الحال الآن.

هذا والإنتاج المحلي لكل من طرابلس وبرقة يجد له سوقاً متبادلة يخفف من ارتفاع أسعار الحركة التجارية وإرهاق السكان مما لو استوردت مثل هذه الأشياء من الخارج.

وعلى أي حال فإن اقتصاديات البلاد كوحدة مجتمعة يمكنها أن تكفي البلاد إلى حد كبير. ولا عبرة بما كانت تطلبه البلاد من إنهاك عام بسبب الحروب والهجرة ولنا في هذه الإحصائية البسيطة مدى ما انتاب البلاد ومدى ما يمكن أن تصل إليه ثروة البلاد مع شيء من العناية.

الثروة الحيوانية لبرقة سنة 1910 الثروة الحيوانية لبرقة سنة 1933

أي قبل الاحتلال الإيطالي

أثناء الاحتلال الإيطالي

713. 000

رأس غنم

98. 00

رأس غنم

546 , 300

رأس ماعز

25. 000

رأس ماعز

83. 300

جمل

2. 600

جمل

23. 600 بقرة

8. 700

بقرة

27. 000

حصان

1. 000

حصان

ولنرجع مرة أخرى للتاريخ القديم لنرى مدى علاقة طرابلس بفزان؛ فنحن نعرف أن الفينيقيين قد أتوا ساحل طرابلس وأقاموا المدن الثلاث؛ ولا شك أم وجود هذه المدن الثلاث وقيامها لم يأت عفواً بل لعوامل الجغرافية هي التي ساعدت على قيامها لدرجة تجعلنا نعتقد أن قيام هذه المدن كان لابد أن يحدث سواء أتى الفينيقيون إلى طرابلس أم لم يأتوا؛ لأن عوامل قيامها متوفرة وإن شاءت الظروف أن يحدث ذلك على يد الفينيقيين. هذه العوامل الجغرافية التي ساعدت على قيامها كان أهمها الطرق التجارية التي تربط هذه الأماكن بفزان ومنها إلى أقليم السودان. فصبراته مثلاً تقوم في نهاية طريق تجاري إلى الجنوب يمر بفدامس وطرابلس تقوم عند نهاية طريق تجاري قديم إلى الجنوب يمر إما عن طريق ترهونه وإما عن طريق غربان. ولقد كانت هذه الطرق التجارية خير رابط بين فزان وطرابلس وموحد بين هذين الإقليمين منذ العصور القديمة. وإذا كانت تجارة القوافل قد قلت أهميتها في الأعوام الأخيرة فما ذلك إلا لتغلغل الاستعمار الأوربي وفصله بين فزان والسودان، وفي فصل فزان عن طرابلس القضاء النهائي على بقايا هذه التجارة وهدم ركن هام في حياة البلاد الاقتصادية. وكان الأولى التفكير في ضم أقليم تمبكتو إلى فزان حتى تنتعش تجارة القوافل بعد كسادها مؤقتاً لا العمل على بتر فزان من طرابلس، إذ أن الجيوش الفرنسية قد دخلت فزان للتحرير كما دخلت جنود الحلفاء فرنسا نفسها بعد انهيارها أمام الغزو الأجنبي.

وإذا كانت واحة الكفرة على رغم موقعها المنعزل ورغم قلة أهمية تجارة القوافل التي تمر بها بالنسبة لما هو كائن بفزان وبرغم ظروف الحرب الأخيرة فإن الأستاذ يذكر لنا في كتبه الذي ألفه أخيراً عن واحة الكفرة أن عدد القوافل التي مرت بها سنة 1943 كان 75 قافلة كان عدد جمالها 2250 جملاً فماذا يكون الحال في فزان إذا أحكمت الصلة بينه وبين موانئ الشمال وضم إليه تمبكتو الملاصق للسودان؟

على أن هذه الصلة المتينة التي ربطت بين طرابلس وفزان قد أدركت منذ القدم، ولم يدركها الفينيقيون وحدهم، فبعد أن بسط الرومان سيادتهم على طرابلس اقتنعوا بصعوبة إخضاع هذا الجزء ما لم يتم الاستيلاء على فزان؛ فنرى كورنليوس بالبوس في عهد أغسطس يتولى قيادة حملة هامة لإخضاع فزان. وكم كانت فرحة أهل روما عظيمة عندما عاد إليهم بالبوس منتصراً بعد أن وصل إلى مدينة جرمة عاصمة فزان في ذلك الوقت. وكان الرومان يكررون إرسال هذه الحملات من وقت لآخر لضمان بقاء فزان حتى يضمنوا بقاءهم في طرابلس كما حدث في عهد الإمبراطور تيبروس عندما ذهب القائد فستس على رأس حملة حربية بدأت سيرها من لبرا إلى (بونجيم) فهون ففزان. ولم يتوانى الرومان عن إرسال الحملات إلى فزان حتى يضمنوا خضوعه لهم فأمنوا على طرابلس من الجنوب كما اتخذوا منه قاعدة للوصول إلى أواسط أفريقية.

لا شك أن هذه العوامل الجغرافية قد بينت لنا مدى ضرورة هذه الوحدة كما أننا إذا رجعنا إلى التاريخ وجدنا العصور الذهبية لتاريخ البلاد قد تمثلت لنا عندما كانت موحدة أو أقرب إلى الوحدة. ترى ذلك في السنوات المتقدمة من الفتح العربي، ونرى ذلك أيام حركة أبي الخطاب الأباضي التي لو قدر لحركته أن تستمر لتمت الوحدة على يديه على أتم ما يكون. ونرى ذلك أخيراً في العهد القره مانلي. ولولا وحدة هذه البلاد واستغلال مرافقها مجتمعة ما استطاع أحمد باشا القره مانلي أن يؤسس دولة كان لها من القوة ما أرعب الدول في الحوض الأبيض وما استطاع أبناؤه من بعده أن يسيروا على هذه السياسة ويرفعوا شأن لوبيا.

ولا شك أن البلاد بأجزائها الثلاثة تعاني أزمة خطيرة بسبب قلة السكان وهذه القلة لا تسمح بهذا التقسيم بل تنادي بضرورة التكتل والجمع بين هذه القلة المشطورة. ونحن نعرف من أبسط دروس التربية الوطنية التي تعلمناها في المدارس أن شروط قيام أي دولة هو وفرة السكان بشكل كاف حتى يمكن الحصول منهم على الدخل الذي يكفيها ويمكنها من إدارة شؤون الأهالي. وحتى يمكن اختيار من يصلح لإدارة شئونها إذ كلما كثر العدد زادت صلاحية الاختيار وقلت مصاريف إدارة هذه الدولة والعكس بالعكس.

وإذا كانت هناك بعض الفروق الجغرافية البسيطة بين أجزاء البلاد الثلاثة فهذه أشياء لا بد منها ولا تخلو منها أي بلاد وهذا الاختلاف البسيط ضروري لحيويتها. وإن لم يوجد لعمل الأهالي على إيجاده لكي يضمنوا بقاء البلاد وحيويتها. على أن هذه الفروق الجغرافية البسيطة مهما عظمت فلن تبلغ ما نراه من فروق جغرافية واضحة بين شمال إيطاليا وجنوبها من حيث الجنس والحياة والعادات والحرف والمناخ وطبيعة التربة. ويكفي أن الإيطاليين أنفسهم يشعرون بذلك ويتحدثون به. وكذلك إذا درسنا جغرافية فرنسا فهي في جنوبها تختلف عن شمالها الغربي وتختلف عن شرقيها من حيث المناخ والسكان؛ فبينما الجزء الجنوبي يتمتع بمناخ البحر الأبيض وسكانه من جنس البحر الأبيض نجد الجزء الشمالي الغربي ممطر طول، العام وسكانه من الجنس النوردي ذي القامة الطويلة. وكذلك تجد الجزء الشرقي ينتمي إلى إقليم وسط أوربا كما ينتمي سكانه إلى الجنس الآلي. أما بريطانيا فيكفي أن تعرف أنها تضم إنجلترا واسكتلندا وويلز. ومع كل هذا لك ينكر أحد وحدة هذه البلاد مع أن الفروق الجغرافية التي تسودها كفيلة بتمزيقها والقضاء على وحدتها. فهذه ويلز بموقعها الجغرافي المتفرق وطبيعة سطحها الجبلي وسكانها الذين يمثلون أقدم الأجناس الذين نزحوا إلى الجزر البريطانية وعقيدتهم الدينية الخاصة بهم التي دفعت الحكومة البريطانية لتدريسها في مدارس ويلز وتخصيص برنامج خاص بها للإذاعة المحلية. وإن كل هذا مما نراه من وحدة الجنس واللغة بأجزائها الثلاث. ولا شك أن العدل والإنصاف يتطلبان المحافظة على هذه الوحدة وتدعيمها ولنا فيما قررته هيئة الأمم المتحدة أخيراً ما يحقق تنفيذها.

مصطفى عبد الله بعيو

خريج جامعة فاروق ومعهد التربية العالي بالزاوية بطرابلس

الغرب