مجلة الرسالة/العدد 885/القصص
مجلة الرسالة/العدد 885/القصص
الضمير. . .
للأستاذ كمال رستم
كانت له في كل يوم معركة مع ضميره. وقد ألف أن يخرج منها وهو مثخن بالجراح. أنه كان يحرص دائماً على أن يظل عامراً ما بينه وبين الله، وعلى أن يظل عامراً ما بينه وبين ضميره. وهل الضمير إلا الرقيب الإلهي في الإنسان؟ كل يوم كلما خلا إلى نفسه كان يقف خاشعاً بين يدي هذا الرقيب كأنه في صلاة ويجلد لحسابه العسير الشاق ويترضا. ولكم سكب في سجدة التقى والورع من الدموع يغسل بها قلبه ويطهره مما علق به من الآثام والأوضار. وما كان يبكي بعينيه حسب، بل ألف قلبه أن يبكي أيضاً. وكان قانعاً في عزلة روحه المؤمنة بعيداً عن ضباب الشهوات. ولكنه لم يكن سعيداً. ومتى أدت القناعة مفهوم السعادة؟
ولكن الصلة التي بينه وبين الله تعرضت آخر الأمر لامتحان رهيب. إنه منذ نزل على إرادة أمه، وبنى بالزوجة التي تخيرتها له، وهو يجتر الألم، ويحتضن الأفكار السود! بدا له أنه ودع حياة السعادة والأمل إلى غير رجعة؛ وأنه تناول بيده الراعشة الكأس التي مزاجها علقم وصاب؛ وأفرغها في جوفه! وأحس بعد خدرها أن بينه وبين الله بعيد بعد ما بين السماء والأرض. ولم يعد يجد في وحدته الشاعرة فردوسه المفقود. بل رأى بعينيه ريح الشهوات وهي تكاد تعصف بغرسه إيمانه. وأخرجت الذاكرة أحزانها كلها ونثرتها بين يديه! ذكر أنه لم يستشعر لزوجه أضعف الحب؛ وذكر أنه حاول أن يروض نفسه على حبها ويرضى بنصيبه المقدور. ولكن ذهبت محاولاته كلها قبض الريح! فإن زوجته لم تكن حتى على الجانب اليسير من الجمال.
وإنه لذلك بات يضبط في كل دقيقة نظراته المنهومة؛ متلبسة بجريمة اشتهاء وتطلع. أو ليس إنساناً قبل كل شيء؟ لقد حاول منذ تزوج أن يقتل الإنسان فيه ليظهر الملك! وأن يقطع صلته بالأرض ليصل بالسماء. ولكم يعاوده الجهد من جراء ذلك ولم يبلغ أربا.
وكل ما ناله أنه لم يعد في الناس واحداً منهم، ولم يرق إلى السماء ليصبح من أهلها. وآذاه أن يعيش هكذا حائراً بين المنزلتين ونازع نفسه التحرر من هذا الرقيب وأن يقضي في نفسه وطراً.
فتعب عيناه من جلال هذا الجمال الماضي ويقبس ومنه قبساً. . . وكان يجد نفسه في غير وعي ولا إدراك يقابل بين زوجه وبين ما يصادفه من النساء الجميلات ويخرج من المقابلة وقد أيقن أنه إنما يعيش على هامش الحياة. . . وكانت نظراته الراغبة تبدأ من الشعر المعقوص ولا تزال تنحدر على الجسد البلوري حتى تفنى مع القدمين الجادتين في المسير! ويعود من رحلة بصره وقد أحس برسيس الحرمان ومضاضة الألم، ويكاد يكفر بالقيم الخلقية التي يمرض بها نفسه. . . ويخيل إليه أن السبيل الوحيدة إلى التخفف من آلامه الممضية أن يلقي بنفسه بين ذراعي امرأة!
ولكنه لم يفعل ذلك فإن الحارس الضمير كان لا يغفل أبداً. كان يرصد سيئاته ويحاسبه على النظرة النهمة حتى ترتد منيبة مكفرة. . .
. . . حتى كان ذلك اليوم الذي شعر فيه أن الخواء الذي رافق حياته قد صاحبه عقم زوجه! لقد كان وكده أن يكون أباً. . . وأن تعزيه الأقدار عن حياته المنقبضة إلى جانب زوجه بطفل يؤنس وحدة روحه! ويسكب في حبه له عصارة الحنان الأبوي الذي لم تتدفق منه قطرة!
ولكن هذه الأمنية لم تشأ الأقدار كذلك أن تهادنه فيها. ويا لها من سخرية - قوضت حياته وأطلعته على الجدب الذي يمرع فيه! ويا لمنطق الضمير حين يتكلم فيه معتذراً عن زوجه بأن عقلها إن هو إلا إرادة عادلة وحكمة كبرى ليس للعابد القانت أن يناقش فيها أو يجادل. ولكنه كفر لأول مرة بمنطق الضمير. وراح يتلمس السبيل إلى الثورة المجنونة التي لا تبقي ولا تذر! لقد مني بزوجة عاطل من الجمال، وكأنما لا يكفي هذا! أبت الأقدار إلا أن تصيب الزوجة كذلك بالعقم والجفاف لتكمل مصيبته!. . ولكن الله أورثه الفرج من الضيق. وحرك بفيض كرمه الجنين في أحشاء الزوجة. .
وهاهو ذا. . . ينتظر بين دقيقة وأخرى أن تصافح عيناه وجه طفله الأول. لقد أطل على زوجته منذ لحظات. واستملى من وجهها نظرة عابرة وهي راقدة في الفراش مخرورة الجسد، منهوكة القوى. . . مهدومة!. . ورآها وهي تجالد آلام الوضع المبرحة. . . وتمتم وهو لا يقوى على أن يصعد إليها بصره: - يا لها من بطلة!
وتزاحمت الصور في رأسه، وبرزت من بينها صورتها منذ تحلل بها المرض ولزمت الفراش. لقد ألف أن يراها تعاني في صمت. . . لا تشكو ولا تألم. فقد كان يرى في عينيها المجهد حكاية الألم كلها مختصرة في نظرة!. ولشد ما قاسى وقتئذ من وخز الضمير. . . حتى ود لو يستطيع أن يهرب من نفسه وينزوي عن هذا الضمير في مكان بعيد. .
. . وأخرجه من تأملاته المطرقة صوت الخادم تنبئه بأن زوجه بعثت بها في طلبه. . ومضى إلى غرفتها وهو يتعثر في خطواته؛ وسمعها تقول في صوت كأنه من فرط الإعياء همس:
- إني أتألم. .
. . . وأجابها وهو يتلمس صوته:
- تشجعي. . . سأحضر الطبيب!
وأرتد عنها إلى غرفته وارتدى ملابسه وخرج!
وصحبته أفكاره طول الطريق. . . وقفزت زوجته إلى رأسه. . . واستعرض على ناظريه حياته الشقية معها. . . ذكر أنه لم يكن يحيا معها إلا بجسده فقط، فإن روحه كانت تعانق أشباح أحلامه! وآخته حيرة مضنية حينما فطن إلى ما هو بسبيل أن يفعله. . . أو ليس هو في طريقه إلى الطبيب ليسهل لزوجه وضع طفل يربط حياته بها إلى الأبد؟
- الطفل!
أو لم يكن وكده أن ينجب طفلاً يؤنس وحدته؟ فما باله لا يهتز الآن لمقدمه ولا يطرب؟ وأحس بكل شيء يتثاءب من حوله. حتى خطاه تثاقلت هي الأخرى وتقاربت حتى كأنه لا يمشي وغافلته خاطرة فذة إندست بين خواطره لها همس حبيب
- لو أن زوجه تموت في هذه اللحظة!
. . . وعبثاً جاهد في أن يتحرر من هذه الخاطرة الجديدة التي سكنت رأسه ورأى نفسه بعدها وقد استسلم لشعور وافد حبيب. . .
- نعم لو أنها تموت!. . . إذن لتزوجت بعدها من فتاة سابيه الحسن آسرة الجمال!
. . وكان قد بلغ منزل الطبيب فرد عنه أفكاره. . . وعاد به إلى البيت.
وتقدم الطبيب من فراش المريضة ووقف هو على رجع البصر منها يثني إليها نظرة. . . رآها كما تركها راقدة في الفراش لا تقوى على حركة، في وجهها الألم، وفي عينيها أثر السهاد والأرق، وفي شفتيها زرقة رهيبة. . . وكانت تتنفس بصعوبة حتى خيل إليه أنها عدمت النفس. . . وشاءت أن تتكلم، إلا أن الكلمات ماتت: شفتيها وتمتم على ترى ماذا تريد أن تقول؟ وأحس كما لو كانت نظراتها أغلالاً تطوق عنقه. . . وأن جو الغرفة لم يعد صالحاً لتنفسه فتسلل هارباً إلى غرفته! ووقف وراء النافذة! وكان الهواء ساكناً فلم يرعش أوراق الأشجار القائمة على خفافي الطريق. . . والقمر على مستقره السماوي يبعث إليه إرسالاً من النور. . . وأشعل دخينة راح ينفث دخانها. . . وقد بدا له كل شيء الآن في إطراقه الصمت والسكون. . . حتى تفكيره كان هادئاً ساكناً فلم تبرق فيه فكرة، وأخرجه من هذا الصمت الذي أن على المكان صوت الطبيب يدعوه - فمضى إليه، وتهادى إلى أذنيه صوته وهو يقول:
- ينبغي أن أصارحك بأن الوضع عسير جداً. وأنا بين اثنتين إما أن أضحي بالطفل لأنقذ الأم، وإما أن أضحي بالأم وأنقذ الطفل. وقد رأيت التمس عندك صواب الرأي.
وشاعت الفرحة في قلبه فقد استجابت السماء آخر الأمر دعاءه وتسلف النظر إلى الأمام فتخايلت لعينيه حياته الجديدة الموهوبة. وأنصت إلى هاتف من أعمق قلبه يهتف به.
- قل: أنقذ الطفل. أو ليست هذه هي الفرصة الموهوبة التي لبثت على انتظارها الشهور الطوال. أو لم تكن تتشهى منذ لحظة أن يعجل الله بوفاتها لتنطلق من إسارها لتبنى بعدها بعذراء جميلة. تطارحك الحب - قيل أنقذ الطفل تملك ناصية السعادة وتحقق غارب أمانيك. وصعد إلى الطبيب رأساً أثقله الفكر وقال: سيدي. . أنقذ الأم!
كمال رستم