مجلة الرسالة/العدد 885/أبن تيمية والمنطقيون
مجلة الرسالة/العدد 885/أبن تيمية والمنطقيون
للأستاذ إبراهيم الابياري
أتعرف الشيخ المحجاج المغلب حجة الحنابلة غير مدافع أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميه. يعرفه الشوكاتي محمد بن علي فيقول: أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظن الزمان سمح ما بين عصري الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما.
ويسبقه أبن حجر أحمد ابن علي فيقول فيه: وفاق الأقران وسار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول.
ومن قبله يقول الحافظ المؤرخ شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن أحمد الذهبي. واللفظ يكاد يكون لي: كان آية من آيات الله، السنة نصب عينيه، لم ير أشد منه استحضاراً للمتون، ولا أقدر في مسائل الخلاف.
وقريب من هذا ما قاله ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر، ثم ابن رجب الحنبلي عبد الرحمن بن أحمد.
وغير هذا فقد أفرد غير واحد كتاباً، فخصه المقدسي محمد أبن أحمد بالعقود الدرية في مناقب الشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وصفي الدين البخاري بالقول الحلي في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي، والكرمي مرعي بن يوسف بالكواكب الدرية في مناقب الإمام ابن تيميه.
وتقرأ للمستشرقين عنه ما كتبه (غولد زيهد) في دائرة المعارف. ثم تلك الدراسة الممتعة الجامعة للأستاذ الكبير (هنري لاوست).
وإن لم تغن فإليك جملة مما ألف الرجل تنبيك عن همة لا تفتر وقلم لم يجف وعمر حافل معمور الأيام والليالي ذكروا أنها تزيد على أربعة آلاف كراسة، كما قالوا أنها بلغت ثلاثمائة مجلد. أسمي منها. الجوامع في السياسة الإلهية والفتاوى، والإيمان. والجمع بين النقل والعقل، ومنهاج السنة، والفرقان في أولياء الله وأولياء الشيطان. والواسطة بين الحق والخلق، ومجموع رسائله، وقد أحصيت فيه تسعا وعشرين رسالة. ثم كتابه الذي هو قطعة منة عقله وفكره (الرد على المنطقيين).
ابن تيمية من هؤلاء النفر الذين أكدتهم عقولهم وعاشوا لما يدينون به ينفحون عنه ويجارون به، يستثمرون ما يعافه الوادعون، ويحلو لهم ما يمر على مذاق الخانعين، يصمدون للإحن لا يهنون، وللنكبات لا يريمون، ثم إذا هم باخرة قد اجتمع الناس لهم على الرأي الذي كافحوا له وغالبوا.
وكذلك كانت حياة ابن تيمية، سعى به بيبرس الجاشنكيز، فضمه السجن أعوام فما استكان، وكأنه ما خرج منه إلا ليعود إليه ثانية وثالثة، وهو هو إلى أن مات رحمة الله سنة 728 هـ وإذا الألسن كلها ثناء، وإذا ما كتب وألف متنه الأعين، وإذا ما رأى حديث المجالس.
جلست إلى أبن تيميه وهو آخذ بخناق المنطقيين في كتابه (الرد على المنطقيين) يبادلهم بالرأي رأياً، وبالحجة حجة، فآنست بالرجل عقله وتفكيره، وما كنت أعرف قبل ذلك أن أبن تيميه يقوى لأر سطو فيوهن من مقاييسه ويضعف من أدلته.
وأنت إذا استمعت إلى ابن نديم في الفهرست حفظت عنه كتب أر سطو الثمانية في المنطق وهي، المقولات، والعبارة، وتحليل القياس، والبرهان، والجدل، والمغالطون، والخطابة، والشعر. ثم إذا جريت معه قليلاً عرفت من ترجم هذه الكتب إلى العربية ومتى نقلت.
وتعجب حين لقى جمهرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء كتاب المنطق لأر سطو في حذر، وكادوا ينسبون من نظر فيه إلى الزندقة. ولن ننسى رسالة السيوطي جلال الدين في تحريم علو المنطق، ثم لا ننس تلك الحرب الصاخبة التي حمى أوارها بين المنقولين والمعقولين والتي خرج منها علماء المعقول زنادقة ملحدين.
وعز على صفوة من المفكرين أن ينتهي الخلاف بين النقليين والعقليين عند هذا فشمروا للتوفيق بين الرأيين. مؤولين ما استطاعوا إلى التأويل سبيلاً، متخففين من أقوال الحكماء ما لا يجد دليله من كتاب أو سنة، فمنهم من أبعد ومنهم من قارب. وقد كانت محاولات أدلى فيها بالدلو إخوان الصفا ومن لف لفهم كالباطنية والإسماعيلية. وإذا ذكرنا الإسماعيلية ذكرنا ابن سينا الذي تربى في حجورهم وغذوه بتعاليمهم وكان له جولة في هذا الميدان كان فيها كالظل لأر سطو.
وتمخضت الأيام عن شيخ من شيوخ الإسلام نشأ والباطنية في عنفوانها فجال في هذا الميدان جولات على نهج من التوفيق والجمع بين الرأيين، أسلم مغبة وأقرب إلى أنصاف أهل السنة وإرضاء المتدينين، وكان هذا الشيخ الحجة أبا حامد الغزالي.
ويمضي الغزالي عام خمس بعد الخمسمائة والعالم الإسلامي في لهفة إلى مفكر يقف إلى أر سطو في منطقه موقفاً أكثر إرضاء وأقوى إشباعاً، فقد انطوت النفوس على شيء لم تملك برهاناً يغلبه وحجة تزلزله، ومضت مع راسخ ما تؤمن به وتعتقد تغالب ما يوسوس به الفكر ويهمس، وهي لا تجد بين يديها مفكراً يواجه أر سطو ويقف له.
وفي عام واحد وستين وستمائة من الهجرة ظفرت (حران) بمولود أسمه أحمد، لم يكن العالم يقدر أن فيه البغية المنشودة، ولكنه ما شب وترعرع وبدهت بوادهه حتى علقت به الآمال في ذلك المصال، ولم يكن غير أبن تيميه.
ومن قبل أبن تيميه كلف أبو البركات البغدادي بمحاجة أر سطو في منطقه وصال معه صولات. وتكاد تظفر بأول فرسان هذا الباب، وكتابه المعتبر فيه الكثير من هذه المواقف.
إلا أن ابن تيميه، وإن جاء لاحقاً، يكاد يكون المحجاج المعول عليه والند المكافئ، وبودي أن أشرك القارئ معي فيما أفدت، ولكني لم أجد في صفحات الرسالة ما يسعف، وحسبي من ذكره ما يحفز كل مفيد أن يرجع إليه، ليعرف عن أبن تيميه ما عرف لأر سطو.
إبراهيم الابياري