مجلة الرسالة/العدد 884/اللغة والفكر. . .
مجلة الرسالة/العدد 884/اللغة والفكر. . .
للأستاذ محمد محمود زيتون
بقية ما نشر في العدد الماضي
الأصل في النسبة بين اللفظ والمعنى أن تكون المطابقة التامة أو التكافؤ بمعنى التساوي، أي أن لفظ كذا يساوي معنى كذا. ولكن التقدم الإنساني وتعقد الأمور استوجبا صعوبة اشتقاق ألفاظ جديدة لمعان جديدة فأطلق لفظ واحد على عدة معان كقولنا (العين) اسماً على عضو الإبصار، والماء الجاري، والسيد في قومه، والشيء المتحقق في الوجود! وغير ذلك من المعاني التي تطلق عليها كلمة عين.
غير أن هذا التعقيد في الحياة أدى إلى نتيجة عكس الأولى، فقد أصبح المعنى الواحد يحمله عدة ألفاظ كقول العرب على الأسد: ليث، ضرغام، غضنفر، هزبر، ضيغم.
ولا ندري مع ذلك إن كان تكثير اللفظ هكذا دليلاً على عهود الفوضى الاجتماعية، أو على الثروة اللغوية أو على تعدد القبائل الناطقة بلغة ما، وإن كنا نعلم أن البدوي في الحجاز الذي رأى السيارة لأول مرة فأطلق عليها فوراً وهو يشير إليها كلمة (الراكضة) بينما نقول (السيارة) وكما نقلنا لفظ (القطار) من المطر إلى القافلة إلى ذلك الذي يجري بعجلاته على قضبان الحديد.
ومن الواضح أن الاسم المنقول في انتقاله من معنى إلى آخر إنما يحمل معه ذكرى الحياة السابقة عليه، ولكنه مع ذلك يثير مشكلة كان الأجدر به أن يخمدها وقد يكون الإجماع القومي من السلطان والنفوذ بحيث يقضي على هذه المشكلة هي الخلط بين المعاني المرادة. فاللفظ (كفر) كان في الأصل بمعنى (غطى) ثم انتقل إلى معنى جديد يفهمه الآن كل الناس في لغتهم الدينية فيقولون: فلان كافر بنعمة الله. أو كافر فقط. وحتى هذه المرحلة لا يزال اللفظ مخلصاً لتراثه القديم وأصله الأول، ولو أردنا إحياء هذا الأصل - وهو مشروع - صادفتنا هجمات لا نقوى على احتمالها. فإذا قالت الأم لابنتها: يا بنت اكفري أخاك. بمعنى: غطي - وهو صحيح - لا تلبث البنت أن تعجب وتنفر من كلمات أمها وربما داخلها الشك في عقليتها.
والحد في - عرف المناطقة - ما يصلح لأن يخبر به وحده، أو يخبر عنه وحده، وه العنصر الأساسي للقضية أو الحكم. هذا الحد المنطقي الذي تتكون منه القضية يخالف العنصر الذي تتألف منه الجملة عند اللغوي وهو اللفظ أو الكلمة. فالمنطقي يطلق على كل واحد من الأسماء الآتية حدوداً: العميد، عميد الكلية، عميد كلية الآداب، عميد كلية الآداب سنة 1950. عميد كلية الآداب سنة 1950 لجامعة فؤاد الأول. أما اللغوي فلا يقول بهذا بل هو لا يعترف بعنصر الجملة إلا للفظ (العميد) فقط، الذي هو الحد الأول من الحدود المذكورة. وللمنطقي وجهة نظره، وللغوي وجهة نظره.
والإنصاف يقتضينا الفصل بينهما: فاللغوي أوفر نصيباً من الحق، لأن اللغوي هنا وضع اللفظ على قدر المعنى، فالمعنى ثابت واللفظ تابع، واقتضاه المعنى، وليس من البراعة في شيء أن ندل بجملة إشارات على شيء واحد إلا أن يكون عجزاً. وخير الكلام ما قل في اللفظ ودل في المعنى. قال ثعلب:
نسر الهوى إلا إشارة حاجب ... هناك وإلا ما تشير الأصابع
بل يزيد شوقي في التعبير الرمزي دون اللفظي إذ يقول:
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت ... عيني في لغة الهوى عيناك
أما إن كنا نعبر عن المعنى الواحد بألفاظ شتى فليس مما يتمشى مع طبيعة اللغة من حيث هي إشارات إلى المعاني حسب العرف والاصطلاح. ولهذا كلما كان الاختزال في اللغة متبعاً دل ذلك على رقي اللغة وأهلها. فاللغة العربية تضاهي اللغة اللاتينية في هذا المجال خصوصاً في التعبير عن الفعل والفاعل والزمان في لفظ واحد هو أي فعل ولا كذلك الإنجليزية ولا الفرنسية.
وإنه لنصر كبير للإنسانية يوم تزدحم ألفاظ اللغة بأكبر عدد ممكن من المعاني وليت الحاجة التي دعت إلى الإيجاز التلغرافي تعن لنا فنوجز اللفظ حتى يزخر بالمعاني فنتخلص أفراداً وجماعات من الثرثرة والتشدق والتفهيق.
والخلاصة أن النسبة بين اللفظ والمعنى تبدو في إحدى ثلاث:
1 - أن يتكثر المعنى ويتحد اللفظ.
2 - أن يتكثر اللفظ ويتحد المعنى.
3 - أن يتكثر اللفظ والمعنى معاً.
ومن هنا بدأ الخلاف يدب بين المنطق واللغة، ولهذا الخلاف مظاهر:
أولاً من حيث الموضوع.
المنطق يتناول المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بألفاظ المطلقة عليها؛ واللغة تتناول الألفاظ، وإن كان لا يسوغ لها الإخلال بالمعاني المعبر عنها. واللغوي أشبه بالصحافي يترقب الأخبار ويتوخاها، فاللغة عبد الفكر تخضع لحركاته وسكناته وصحوة ويقظته، وهي تحقق المعنى بالعقل. وقد يزول اللفظ إلى اللفظ، والمعنى ثابت لا يزول. وقد يحول اللفظ إلى اللفظ والمعنى لا يحول. أما المعنى فإنه إذا حال زال، ولم يعد له حال.
ثانياً: من حيث الغاية:
لا شك في أن الحاجة إلى المنطق تلت الحاجة إلى اللغة، لسبق اللفظ على المعنى بالطبع، ولأن الطبع أسبق من أحكام العقل. ففي أوائل حياتنا نحن نتكلم وننطق كلاماً منطوقاً قاصراً على صاحبه، أما في انتقاله من شخص إلى آخر فهو في حاجة إلى أسس وقواعد يرسمها المنطق لذلك. وأية إشارة أو صرخة أو حركة من الطفل يعتبرها اللغوي لغة ذات معنى مفهوم، وذلك ما لا يعترف به المنطقي بحال، وإن كان الإفهام والتفاهم غاية كل من المنطقي واللغوي.
ثالثاً: من حيث المنهج:
اللغة ترتب اللفظ ترتيباً خاصاً يؤدي إلى مألوف القول والعادة؛ أما المنطق فإنه يرتب المعنى ترتيباً يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة. ترتيب اللغة هو النحو والصرف، وترتيب المنطق هو الاستدلال. اللغوي لا يهمه من لغات الناس بقدر ما يهمه من لغته هو. أما المنطقي فله لغة عالمية ذات أجرومية دولية، نحاة اللغات يختلفون ولكن المناطقة على وفاق وإن اختلفت أجناسهم ودياناتهم وميولهم الإنجليزي يقدم الفعل على الفاعل، والعربي يجيز الأمرين، والمنطق يفترض شيئاً واحداً فقط هو وجود فعل وفاعل يركبان بهيئة يتفق عليها النحاة لتؤدي معنى، والمنطق يفترض عقلاً واحداً سليماً مجرداً هو العقل الإنساني، أما اللغة فتخضع للظروف والأحوال. وعلى ذلك فالمنطق مطلق واللغة نسبية.
رابعاً: من حيث القوانين: ينتهي اللغوي من بحوثه في الألفاظ إلى ضوابط عامة لها، إذا لم تراع سمى لحناً، والمرجع فيه إلى العرف، أما المنطقي فإنه ينتهي إلى قوانين أساسية عامة مطلقة غير استثنائية إذا لم تراع سمى الخطأ فيها إحالة أو تناقضاً بمعنى عام، والمرجع فيه إلى العقل وحده. قوانين الفكر مطلقة عامة لكل الناس، أما قوانين اللغة فهي نسبية تخضع لظروفها وتتأثر بها مضطرة راغمة.
خامساً: من حيث التدخل:
اللغة تتدخل في شؤون المنطق لترتب له معداته الأولى وهي (التصورات) وعند ذلك تنتهي مهمتها ولا تزيد. والمنطق له الحق في الإشراف على اللغة ليحقق لها أغراضها الأساسية. ولذلك فنحن نستطيع أن نفهم معنى واضحاً من لغة لا نحو لها، ولكن لغة لا منطق لها تعود صراخاً وضوضاء. فحاجة اللغوي إلى المنطق أشد وأنفع من حاجة المنطقي إلى اللغة. تكلم ما استطعت من لغات، ولكن المنطق فيها جميعاً واحد هو هو المنطق، ففي مجتمعات ما قبل المنطق ' يجوز أن يكون الشيء كذا ولا كذا في آن واحد، وليس كذلك الحال في أي لغة متحضرة ذات منطق كريم.
يقول متى بن يونس القنائي المنطقي لأبي سعيد السيرافي النحوي وهو يحاوره (لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطقي يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ؛ فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض. وإن مر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى).
والمنطق أحياناً يضرب بالقاعدة النحوية عرض الحائط، فإذ يفرق النحوي بين الظرف الذي لما يستقبل من الزمان، وبين حرف الامتناع لامتناع، وبين حرف الامتناع لوجود، وبين حرف الشرط الجازم. نرى المنطقي يعتبر: إن وإذا ولو ولولا، ولو ما كلها أداة شرط وحسبه هذا.
وأحياناً يقول النحوي إن الخبر يطابق المبتدأ إفراداً وتثنية وجمعاً وجنساً، ولكن المنطقي لا يحد من نطاق الحمل، ولا يقيده كالنحوي، فالمنطقي يقول: العالم عالمان، ومصر فخر الجيل، والولد فلذة أبيه. فالمبتدأ والخبر عند اللغوي اسمان، أو أحدهما أو كلاهما جملة في محل المبتدأ أو الخبر، ولكن الموضوع والمحمول عند المنطقي حدان.
ومن أجل التفاهم يعني المنطقي بالفكر من حيث الكيفية، أما اللغوي فيعني به من حيث الكمية. وإذا كانت اللغة أداة التعبير، فإن المنطق أداة التفكير، ولا بد للتعبير من الاستناد إلى التفكير.
واللغوي يعمل عالة على المنطقي، وينشط على حساب اكتشافاته وإلا لم يكن ثمت داع لإنشاء المجامع اللغوية، والمؤتمرات الدولية للإنفاق على المصطلحات العلمية والفنية المستحدثة في ضروب العلم والعرفان.
الفكر شرط اللغة، لأن لغة من غير فكر صراخ وعويل، والجملة هي وحدة اللغة، هكذا يرى , ' واللغة شرط في الفكر لأن الفكر كلام صامت في الباطن؛ هكذا يرى (لويس دي بونالد) إذ يقول (إن الإنسان يفكر كلامه قبل أن يتكلم فكره)
ونعترض عليه بأمرين:
1 - لا حاجة إلى اللغة في التذكر والتصور والتخيل للمعاني.
2 - قد توجد معان ذهنية لا ألفاظ لها في الوجود كالغول والعنقاء والخل الوفي، والأقمار والشموس مجموعة.
فإذا استغنى الفكر عن اللغة أحياناً فهو غالباً ما يحتاج إليها بحيث يصح قول (دي بونالد) من أن الفكر كلام باطني، وكل تفكير هادئ هو حديث النفس تتابع فيه الجمل بألفاظ أصواتها خافتة. فاللغة شرط للفكر الواضح الجلي، وإلى هذه الفكرة سبق الأخطل إذ يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ويتمثل العقل الإنساني في المنهج العربي القائل (العاقل من يجعل لسانه وراء عقله، والأحمق من يجعل عقله وراء لسانه).
ولا شك في أن المعرفة سعة وإحاطة وإلمام بأمور الكون، والبحث عن أوسع العوالم المعانية، وذلك هدف الفكر، واللفظ عامل مساعد في تنمية المعرفة من حيث الدراسة اللفظية: بكثرة تحصيل الألفاظ، ودراسة مشتقاتها ومصادرها الفيلولوجية وأصولها وجذورها مما يزيدنا خبرة، وعرفة، فالقواميس والمعاجم ذخيرة حافلة بالمعرفة. ولكن لا يخفى أن المعرفة الآتية عن طريق الفكر تحتاج إلى العرف لتعميمها، ولا تحتاجه من حيث قصرها على صاحبها، ولكن المعرفة مشاركة وتبادل فهي تشترط اللغة. أما المعرفة الآتية من اللفظ فيجب مراعاة أطوارها، وبذلك يكون التفاعل بين اللغة والفكر قائماً على قدم وساق.
والإنسان عارف، لا لأنه متكلم، ولكن لأنه مفكر، فنحن نتفاهم مع الأخرس بالفكر لا بالكلام، ونعمة الكلام أوفر من نعمة التفكير. ولو قد أنعم الله علينا بالفكر أكثر مما أنعم علينا من الكلام لتبدلت الأرض غير الأرض والسماوات، ولكنا من السعداء الذين يتفاهمون بمجرد السوانح والخواطر ونسلك في هذه الحياة عن قوة الأفكار التي لا تعدها قوة، ومن يدري لعل الله يستجيب لرأي (الفريد فوييه) في نظرية (الفكرة قوة) فننعم في الدنيا بالفردوس الموعود، ونحظى بأقرب وسائل التفاهم وهي (التلباتي) في غير عسر، يوم تتحد الرغبة والتنفيذ في جنة الخلد (لهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون) وما ذلك على الله بعزيز.
محمد محمود زيتون