مجلة الرسالة/العدد 883/عهد
مجلة الرسالة/العدد 883/عهد
لصاحب العزة الأستاذ محمد محمود جلال بك
دلفت إلى (حراء) يدفعني إليه مثل ما يدفع الوالد إلى ولده من شوق، وقد تقضت على فرقتنا شهور ستة هي أطول ما غبت عن (شرفة عمرو) تكاءدتني خلالها صروف واحتوتني بلاد غريبة، تارة بمصاحبتها، وطوراً بفنادقها، في ظلمات قاتمة بين باهر الأنوار، والآم مضنية بين مظاهر النعيم. كم دعوت الله أن يجنبها صديقاً وعدواً على السواء!
و (حراء) أشبه بالصومعة منه بالغرفة، يختبئ تواضعنا في ظل السلم الصاعد إلى الدور العلوي - صغير المساحة كبير السعة بما حوى من ذكريات، وما زين جدرانه وما حواليها من آثار وطنية وعائلية خاصة. . . يتصدرها أول مكتب جلست إليه صغيراً، وأول ما حمل في الدنيا من ذكريات دراستي. صنعه (العلم أحمد) من أمهر صناع الأثاث بالقاهرة لذلك العهد وأهداه إلى أبي. وإلى الدار الآخرة تولى الصانع ومن أهدى، أغدق الله عليهما رضوانه. وعلى هذا المكتب أول ما اصطلح عليه المجتمع من مقاييس السير في إحدى طرائق الحياة: (الشهادة الابتدائية).
وما كدت ألقي النظرة الأولى على المكتب حتى استوقفت نظري كتاب ذو جلد أخضر أنيق ليس عليه عنوان، ولكنه يحمل في أسفله أسمي؛ وما أدري لم أستحوذ على اهتمامي كله؟ وكيف طوي ما بيني وبين عديد الأشياء التي تملأ فراغه ولكل واحد منها تاريخه وعبرته، ولكثير منها روعة من الفن!
مددت يميني إلى الكتاب وقلبت صفحاته في عجلة ثم أقفلته، وقد أيقنت بما سمعت من الأستاذ الشيخ محمد عبد السميع: -
(إن لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص) فاعتبرت ثم أدركت عهداً!
في سنة 1944 كان صديقي (ر. ز) يعمل رئيساً للنيابة في بور سعيد. وهي بلد أحبه وأفضله عن غيره. ويعرف الصديق في هذا الإيثار فيعجب كيف صبرت فلم أنزل ذلك البلد الحبيب من سنة 1940 وكنت أختصه بما يسمح به الزمن من فترات ثم، يلح في زورة قريبة أروح بها عن نفسي ونفسه. وأجدني محرجا فأهم وأركب الطائرة إليه لأول مرة منذ سنة 1937 إذ وقف خط الطيران خلال الحرب.
ولا أكاد أغادر الطائرة حتى أرى رجلاً يسارع إلى مكانها في جذل ولم أشك في أنه يستقبل بعض القادمين؛ وكلما لاحت مني التفاتة خيل إلي أنه يراقبني؛ وتتملكني حيرة. . . وتشتد حيرتي حين أتحقق أنه يقبل علي وما أكاد أقترب من بناء المطار حتى يحيني باسمي ثم يصافحني ويحمل عني حافظة أوراقي وبعض كتب وصحف!! إنه صاحب بوفيه المطار وهو لم يرني منذ ثماني سنين وما زال يذكرني كأنما هي أيام.
وعند هذا، تلقى الوفاء وأمثاله فقلوبهم تتلقى الجميل الصغير بمجهر فيرفعه إلى صنيع عظيم يثبت فيه مرآتها وتعكسه على قدر هذه الصورة جزاء عليه. وهذا هو عنوان للشعب الكريم كما صاغه الرحمن في الوادي المبارك. وما يتطرق الخلل إلى الأخلاق إلا من حتى تأتي المثل السيئة من المسيطرين والظاهرين فتعود إلى الفساد تدريجاً ثم يتفاعل في أحضان الزمن فيصبح تهلكة. فعند هؤلاء تجد العزاء بقدر ما تجد البرهان الذي يدرك إلى أناتك فلا تفزع إن الخير باق وهو على المستقبل ظاهر.
وفي الصباح الباكر رافقني صديق قديم إلى الشاطئ الجميل. وهو أجمل شاطئ رأيت فيما زرت من بلاد الدنيا! بل قل انه اجتذبنا واقتادنا. ورحم الله شوقي إذ يقول: -
ألين إذا قاد الجمال أعنتي ... وأعنوا إذا أقتاد الجميل عنابى
وجلسنا نستمتع بالهواء وبالمنظر وبالذكريات. فعين إلى الحاضر وأخرى إلى الماضي، لا نذهب في هذا الأخير خببا بل مترفقين. ومتى هدأت أعصاب المرء شمله الرفق، والرفق يولد النظام. وأول ما يتحكم في هذا أتساق داخل المرء من قلب وفكر، وبهما تتناسق أمواج الحياة.
كان الوقت باكراً، والموسم لم يبدأ بعد، فلم يكن بالشاطئ إلا قليل من مرتاديه، وجلهم أهل البلد. وبينما نتناول القهوة إذا بالرفيق يقول: (أنظر! أتعرف من القادم؟) والقادم على بعد. قلت: لا، ولكني أراها (هرولة صديق)! قال يا أخي أنك لا تتبين من ملاحمه شيئاً؟ قلت لعله القياس. ألم يذكر أناتول فرانس مرة عن البرنسيس تريبوف قولها لزوجها (أنظر إن هذا ظهر فرنسي) وذلك بين ازدحام الهواة والمتفرجين في قاعة لبيع اللوحات الفنية. ثم كان هو ظهر أناتول فرانس، وقد كان الزوجان من خلفه وعلى بعد ليس باليسير؟ وكانت الأميرة فرنسية الأصل.
قال الصديق (أما زلت على شغفك بهذا الكاتب؟ لقد مضت سنوات لم أسمع ما تكشف من ثنايا عباراته، وما تحاول جمعه مما ينثر بين كتاب وآخر! (قلت لندع فرانس اليوم ولأقل لك إن للبصيرة كما للبصر مدى) ولم يطل الحوار، فقد حسن ختامه بيد تمتد سلاماً ووجه يشرق بشراً! هذا زميل في الدراسة الثانوية يشغل اليوم عملاً ذا خطر، وقد جاء يقضي أياماً في هذا البلد الكريم، وله برفيقي سابقة معرفة، وهو من القلائل الذين يحفظون الوداد، ويحرصون على صلات الماضي.
شاركنا القهوة، وعددنا هذا اللقاء غنماً كبيراً. وقلنا إنه الشاطئ الذي أحببنا، يسارع بالجزاء فيضعف إلى ارفاده رفداً، بل هو يضع لهذه الزورة القصيرة طابعاً وتاريخاً.
وللصديق أ. ز. غرام بالشعر صاحبه منذ حداثته، يتخير جيده ويحرص على جمعه وحفظه، كأنما يرى في هذا براً بالماضي، كالذي يرى في صون عشرته وزمالته وتعهده رفاق الدراسة بالسؤال عنهم والتقصي! والأدب مروءة، والمروءة لباب الأدب.
وكذلك لم يكن بد من تطور الحديث إلى هذه الناحية، وكأنما هي الصورة الجامعة لثلاثتنا وهي أقرب الصور إلى ما حولنا، فزرقة البحر ودقة الرمال ورقة الهواء وهذا اللقاء قصيدة عصماء. ولقد صدق المرحوم عبد الرحمن حامد بك الشاعر التركي حين قال إن الطبيعة أول كتاب أو أول قصيدة.
وسارعت الساعات إلى انطواء بسحر هذا الحديث، وإذا (بالصديق المهرول) يفاجئني متسائلاً: هل نفذت العهد؟ دهشت وقلت: ذكرني يا صديقي أي عهد؟ قال عهد صديقك أحمد توفيق الشاعر الشاب الذي. . . فاستوقفت التعريفات الدافقة وقلت لن تزيدني علماً بمن تذكر، فإنني أعرف عنه أكثر من غيري، وتربطني به وبأسرته أكثر من وشيجة، ولكن قل لي شيئا عن ذلك العهد فقد كدت تفجعني في وفائي كما فجعتني فيه المنايا!! قال: ألا تذكر قصيدته إليك سنة 1916 والتي خاطبك فيها.
ضاع الرجاء فكن بحيث رجائي ... وأحمل على حسن الوفاء وفائي
قلت: بلى يا صديقي، وكانت كتاباً ما زلت أحتفظ به. وفيها ما يسري مسرى الأمثال، وكثيراً ما استشهدت ببعض أبياتها.
قال أنه نفض إليك فيها بذات نفسه، ووضع بين يديك تراثه النادر من خلق وفن. وقد رجعت إلى ذكريات الدراسة وإلى ذكريات الألفة التي كانت بيننا فعرفت أنه يتجه بكل ثقته إليك حياً وميتاً فتنشر ذكره، وأنه كان في تشاؤمه يحس بدنو اجله، ويعلم أن الذي سيطويه يوماً قد يطوي آثاره إلا أن تقوم عليها
للكلام بقية
محمد محمود جلال