مجلة الرسالة/العدد 883/المسرحية بين الكتابة والخلق
مجلة الرسالة/العدد 883/المسرحية بين الكتابة والخلق
للأستاذ يوسف الحطاب
من الظواهر التي كاد القرن العشرين يألفها: صدور المسرحية عن المطبعة لا خروجها من المسرح. وهذه الظاهرة إذا أنتشر ما انطوت عليه رأينا فيها مراوفا لأشكال خطير غفل عنه كثير من النقاد، لأنه يجعل المسرحية أدخل في باب الأدب من ناحية القصة والحوار، مع أنها أقرب إلى الفن بحكم طبيعتها.
ونحن نعرف أن التاريخ الحقيقي للفن المسرحي لم يبدأ بكتابة المسرحية بل ببناء المسرح، أي أن المسرحية لم توجد إلا بعد أن توفر الإطار المادي الذي برزت من خلاله. وليس هذا البناء جزءاً من فن العمارة، بل هو التحقيق الكامل لوجود الفن المسرحي. والمسرحية المكتوبة باعتبارها شيئاً صادراً عنه تتأكد صلتها به حين تراعي طبيعته الفنية، وتنفصم هذه الصلة إذا تجاهلت هذا الأمر، وبذلك تستحيل إلى قطعة من الأدب الخالص.
وإذا قيل إن المسرحية المكتوبة جوهر المسرح، فأن الوجود يسبق الجوهر. ووجود المسرح يؤكد نفسه في الموضوع الذي يتناوله حين يصوره من خلاله فيكسبه شكله ويحيله إلى كائن له مشخصاته وينتهي بنا إلى أنالمسرحية من المسرح تشاهد، لا من الكتاب تقرأ.
هذه هي الحقيقة التي رأيت أن نتفق عليها قبل تناول الأزمة الفنية التي يمر بها مسرح القرن العشرين - الأزمة التي تتمثل في كتابة المسرحية في كتاب أو كراسات لا ابتداعها فوق المسرح واتخاذ وحدات المسرح موضوعاً لها. وهو أمر نريد دفع فناني المسرح إليه.
ونقصد (بفناني المسرح) الفنانين الخلاقين لا ذلك النفر الذي جرى وراء بدعة تمزيق الفن وتقسيمه إلى أقسام: قسم يشتغل بالتأليف، وآخر بالإخراج، وثالث بالتمثيل. فما دام المسرح يمثل وجها من أوجه الحياة فلا بد أن تتوفر له عضويتها ووحدتها أما بدعة التقسيم هذه فمرجعها إلى طبيعة العصر الذي وجد به التقسيم وفكرة التخصص القائمة على التفرقة بين الأنواع.
والأمر المقطوع به أن طبيعة الكتاب ستظهر حتما في المسرح مهما حاول المؤلف إخفاءها. ومن هنا نرى غلبة عنصر الحوار مسرحيات القرن العشرين على العناصر الفنية الأخرى حتى لكائن شخصياتها عند التمثيل تقرأ بصوت عال كتاباً استظهرته. ولا أذ أني شاهدت مسرحية بالغ الممثلون في إتقان أدائها أدركت أنهم يحاولون بعث الحياة في شيء غريب عنهم وتعويض هذا الشيء ما يفقده من طبعية.
والمؤلف حين يشغل نفسه باختيار فكرة للمسرحية - كما يفعل في الكتابة العادية - يحيل المسرح إلى منصة خطابة يدعو لفكرته فوقها. ثم هو حين يعمد مرة ثانية إلى التوفر على تعقيد هذه الفكرة يفعل ذلك ليجبر المشاهد على تتبع المسرحية بفكرتها وحله لها - وهذا تحايل على الفن لا ينطلي على من ينعم النظر في بناء المسرحية الحوارية.
وهذه ظاهرة لا بد لها من تعليل عند هؤلاء الكتاب. والتي ولا شك في أنهم يختفون وراء موهبتهم في التأليف مع شيء من دراسة للمسرح والمران على كتابة المسرحية؛ ولكن يفوتهم أنهم يمارسون هنا نفس الأسلوب الأدبي الذي عرفوا به ويكررون نفس الأخطاء في كل مسرحية يكتبونها لأن المسرحية لا تكتب بالكلمات ولكنها تصور بالمشاهد والمواقف ذات طابع العرض.
ويسوقنا الحديث عن موهبة التأليف إلى القول بأن التأليف للمسرح لا يحتاج إلى الموهبة والاستعداد الكاملين فحسب بل إلى الدراسة والمران حتى يكتمل نمو الملكة المسرحية إلى النهاية، وحتى يصبح رجل المسرح كالطبيب والمحامي والمدرس الجامع بين الاستعداد والدراسة.
تأتي بعد ذلك مسألة الأداء ومن الذي يقوم به: ومن المعروف أن الطبيب يعالج مرضاه بيده ولا يدع أمرهم إلى غيره وإلا كان متناقضاً مع قواعد المهنة. أما رجال المسرح فتراهم يتناقضون مع أنفسهم وقواعد مهنتهم حين ينقسمون إلى مؤلف ومخرج وممثل، وحين ينفرد كل بجانب واحد من جوانب المسرحية يكاد ينفصل عن بقية الجوانب. فالمؤلف ينتهي دوره من كتابة الكلمات، والمخرج لا يبذل جهداً بعد إعطاء التعليمات؛ أما الممثلون الذين يحققون العمل الفني ويقومون بمهمة الأداء فلا يستطيعون أن ينكروا أنهم يؤدون شيئاً ليس لهم. وهذا هو السبب في سرعة ما يلحقهم من تعب وإرهاق، بل هذا هو السبب الحقيقي في فشل بعض المسرحيات أو النجاح المفتعل للبعض الآخر.
والذين يفرقون بين التأليف والأداء يستشهدون على ذلك بفن الموسيقى وأن بيتهوفن أرتفع بالتأليف الموسيقي إلى أسمى الدرجات دون أن يقوم بعزف مقطوعاته بنفسه. ولهؤلاء نقول إن الفرق كبير بين الفنيين وأن المسرح يحتاج إلى توفر استعداد طبيعي، بل إن المختصين يذهبون إلى أنه غريزة من الغرائز التي تدخل في تركيب الإنسان، وإن الأداء تنقيس عن هذه الغريزة وإشباع لها. ومن هنا حق لنا أما أن نقف الذين يبتسرون الأمور ويكتفون بأجزاء الأشياء دون كلياتها. فما دامت المسألة إشباع حاجة طبيعية فأن هذا الإشباع لا بد أن يأخذ شكله التام في المجال الطبيعي له - وهو المسرح: وما دام المخرجون والمؤلفون يبتعدون عن خشبته فأنهم يعبرون بذلك عن بعدهم الحقيقي عن هذا المجال وأنهم إضافات زائدة يحسن إقصاؤها بعيداً عن العناصر الحقيقة.
وقد يعترض أصحاب فكرة المؤلف الواحد والمخرج الواحد بأن كل ممثل لا يستطيع أن يكون مؤلفاً أو مخرجاً وأنه إذا استطاع فسيختلط الأمر ويصير الأداء فوضى شاملة. ونحب أن نطمئن هؤلاء بأن الأنباء حملت إلينا في العام الماضي نجاح محاولة أحد فصول المعاهد المسرحية بلندن في الاشتراك في كتابة مسرحية جماعية وهي المحاولة التي نريد تعميقها في المسارح الفنية والدراسة والمران كفيلان بتحقيقنا لها.
وليست هذه المحاولة حدثاً جديداً بل لها سند من التاريخ وأسلوب الفن. فنحن نعرف أن المسرحية بدأت عند اليونان بالارتجال فكان مؤلفوها يستمدون موضوعاتها من الأساطير التي خلقها الشعب وكانت واقعاً يعيشه. حتى أنهم كانوا يثورون إذ خرج المسرحي على نص الأسطورة. وهكذا نرى أنهم كانوا يشتركون في التأليف كما كان الممثلون يختارون منهم ويخضعون إخراج المسرحية لتقاليد متفق عليها منهم.
ولم تشذ المسرحية في العصور الوسطى عن هذا الأمر حين كان الكهنة يرتجلون تمثيل حياة القديسين، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك بحرصهم على إعطاء أدوار التمثيليات إلى أشخاص يقومون بنفس الأدوار في الحياة.
وأظهر حركة طبيعية في تاريخ الفن المسرحي بدت في المسرحية الفنية (كوميديا دلارتي) التي كانت تعتمد على ممثلين حذقوا فن ارتجال التأليف والتمثيل وخلفوا وراءهم تراثاً كبيراً في تصوير الشخصيات والإخراج. كما قامت في ألمانيا في أوائل الربع الثاني من هذا القرن حركة ترمي إلى اشتراك الجمهور في أحداث المسرحية.
وليس في هذا خروج عن التيار العام للفن، فأننا نعلم أنه حينما اقتربت دراسات علم النفس من الفن وانتشرت نظريات العقل الباطن رأينا الفنانين يخرجون على طرق الأداء التقليدية ويتبعون نهج التلقائيين وخاصة في الرسم.
وليس تعدد طرق الإخراج والتأليف في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن وترددها بين الواقعية والرمزية إلا دليل قلق رجال المسرح على المسرحية الحوارية من ظهور الأوبرا والباليه والسينما: أما الأولى فقد رأت أن تقترن الموسيقى بالحوار حتى غطت الموسيقى على الحوار وكادت أن تقضي عليه، حتى جاءت الباليه التي لم تر في الموسيقى علاجاً لطغيان الحوار فألغته إلغاء تاماً واستغنت عنه بالحركة المصورة التي اتخذتها وسيلتها في الأداء أما السينما فقد أرادت أن تقف في مفرق الطريق فجمعت بين عناصر هذه الفنون داخل الصور المعبرة التي تقدمها.
هذا ما جره تمسك لمسرح بالحوار والمسرحيات الحوارية المكتوبة التي يخلفها له أديب غير ممثل ويخرجها مخرج يشرف على المسرح من بعد ولا يضع يديه في العمل.
وإذا بقي المسرح على هذا الحال فلن يمر نصف قرن عليه حتى يكون قد استهلك كل إمكانياته ومله الناس ولم يعد أمامه إلا أن يفسح الطريق لفن جديد لا علاقة له به، أو أن يسير في الطريق الطبيعي الذي رسمناه له. وما زال علاج المسرح في المسرح نفسه وفي الرجال الذين يعملون به.
يوسف الحطاب