مجلة الرسالة/العدد 881/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 881/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حول معركة القزويني
قرأت كلمة صديقي الأكبر الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي التي عقب بها على ما كتبته بعنوان (معركة القزويني في الأزهر) وهي المعركة التي دارت ولا تزال دائرة بينه وبين الأستاذ الشيخ محمد خفاجي على كتاب (الإيضاح) في علوم البلاغة. وقد صورت المعركة على أنها منافسة بينهما بناء على ما تبادلاه في مناقشاتها المطبوعة من عبارات تدل على أن كلا منهما - في رأي الآخر فرض شرحه على الطلاب وحارب شرح الآخر بغية الاستئثار بالكسب المادي. وطبيعي أن يهتم الأستاذ عبد المتعال بنفي ذلك عن نفسه، ويقرر ما يليق به من أنه لا يبغي إلا طريقة يختطها في الإصلاح العلمي، وقد تلقيت كتابه (دراسة كتاب في البلاغة (شاكراً له تفضله بإهدائه، وتصفحت الكتاب فرأيت به نقداً لشرح الشيخ خفاجي، وهو يشير في خلاله إلى تفضيل شرحه على شرح زميله بأنه جرى فيه على طريقة موضوعية تجانب المماحكات اللفظية، على خلاف زميله الذي عنى بنقل عبارات الحواشي والخلافات اللفظية. أما الشيخ خفاجي فإنه يقر بأنه فعل ذلك بل يفخر به، وأما الشيخ عبد المتعال فليس جديداً علينا أن نعلم أنه عالم مطلق الفكر وكاتب صاحب رأي، وأنا لم أر شرحه للإيضاح وأعتقد مع ذلك أنه سلك فيه المسلك الذي وصف. ولكني رأيته في كتاب (دراسة كتاب في البلاغة (يعني بالمماحكات اللفظية بينه وبين زميله، كما يعنى زميله بها أيضاً، فمن الأمور التي اختلفا عليها الفرق بين الكون الموصوف بالفصاحة والبلاغة للكلام وكون الموصوف بهما المتكلم، وهل الإيضاح في (علم) المعاني والبيان أو في (علمي) المعاني والبيان، وهل كتاب الأطول للسيد أو للعصام، وذكر الأستاذ عبد المتعال غلطات نحوية وإملائية وقع فيها زميله. وهكذا نرى الأستاذين متأثرين بمماحكات الخطيب والسكاكي وقبيلهما. والمؤسف أن هذه المطبوعات التي يتبادلها الأستاذان يتداولها الطلاب بل هم قراؤها المقصودون، وما أظنها ذات أثر حسن في نفوسهم ولا في عقولهم. أريد بعد ذلك أن أخرج من هذه الدائرة الضيقة، دائرة المعركة الأزهرية إلى مجال أوسع يشمل دراسة البلاغة على وجه عام وهي خواطر أثارها في نفسي قول الصديق الأكبر: (وصديقي الأستاذ عباس خضر يرى كما أرى أن هذه الحواشي ومماحكاتها هي التي أفسدت البلاغة. وإذا كان في الإيضاح بعض المماحكات فإنه مع هذا خير ما ألف في البلاغة بعد كتابي عبد القاهر - دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة - لأنه يجرى غالباً في طريقهما، وإن كان متأثرا بطريق السكاكي في تبويب علوم البلاغة وتقسيمها، وقد عنيت في شرحي له بمجاراته في طريق عبد القاهر، واختيار ما هو من صميم البلاغة في تلك الحواشي، وإهمال مماحكاتها اللفظية، مع التنبيه على ما في الإيضاح من هذه المماحكات)
فأنا وإن كنت أشارك الأستاذ في هذا القدر الضئيل من الرأي إلا أنني أذهب إلى أبعد كثيراً مما يرى. . فأنا أعرف الإيضاح وأعرف أن مؤلفه صاحب (التلخيص) بؤرة إفساد البلاغة العربية بشروحه وحواشيه، وأعرف جناية هذه الكتب - سواء مماحكاتها اللفظية وما يسميه الأستاذ صميم البلاغة - على الملكة البيانية العربية، وليكن الإيضاح جارياً في طريق دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة في الغالب أو في غير الغالب، فهل نتخذ بلاغة عبد القاهر نبراساً يضيء زيته في عصر الكهرباء؟ أني أعلم أن أنوفاً ترعد من هذا الكلام. . ولكن مهلاً لقد كان لعبد القهر فضله التاريخي الذي لا يجحد. كان أول مؤلف مزج النقد الأدبي بالقواعد العلمية وكان صاحب ذوق أدبي في علمه. فجاء مؤلفون من بعده مجردون من ذلك الذوق، فجعلوا البلاغة علما جافاً ومجالاً لأفساد الملكة الأدبية بالجدل العقيم والفكر المعقد السقيم. ولا نزال إلى الآن نعاني أعباء هذه التركة وان كان الأزهر يحمل أقدح أثقالها، لأن رجال التعليم في وزارة المعارف خففوا منها بالتأليف العصري أولاً ثم بتعديل مناهجها إلى نواحي أشبه بالنقد والدراسة الأدبية، ولأن بعض أساتذة الجامعة أو هو أستاذ واحد (الأستاذ أمين الخولي) توجه بها إلى وجهة أدبية نفسية تطابق الدراسات الحديثة. ولعل الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يشير إلى هذه الاتجاهات بقوله في مقدمة كتاب (دراسة كتاب في البلاغة) يصف صنيع الشيخ خفاجي (بل خرج على تقليد عصرنا الذي أحيا دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة بعد أن أماتتهما الطريقة التقريرية، وكان لإحيائهما أثر صالح في تهذيب دراسة علوم البلاغة، ظهر أولاً في غير بيئتنا الأزهرية، ثم أخذ يغزو بيئتنا ويوجهها إلى الإصلاح شيئاً فشيئاً)
وعلى ذلك نرى أننا نعود إلى طريقة عبد القاهر بأن (نؤدب) علوم البلاغة، أي نصغها بالصيغة الأدبية. وقد كان من سوء الحظ أن يخلف عبد القاهر أولئك المؤلفون الذين خففوا البلاغة فتبخر منها ماء الأدب، فلو كانوا من ذوي الملكة الأدبية لنقوها وصقلوها وجعلوها نقداً أدبياً صرفاً ونحن الآننلف لفة طويلة لنصل إلى هذا الغرض الذي لم نبلغه بعد إذ أننا الآن عند عبد القاهر فقط!! كأننا نريد أن نثبت أن البلاغة كروية. . ينتهي المسير فيها إلى حيث نقطة البدء. . .
سيقول أذكياء يدركون من ذلك ما أرمي إليه: إذن فأنت تدعو إلى نبذ علوم البلاغة جملة واحدة. أقول: ولم لا مادمنا نهدف إلى الملكة اللغوية الأدبية التي نقتدر بها على الكتابة والقراءة والنطق بلسان عربي أدبي جميل؟ انظروا إلى المعاصرين من كتابنا (البلغاء) الذين لم يشغلوا أنفسهم بتلك العلوم فمنهم من مر بها ومنهم من لم يكن سيره عن طريقها - كم من أولئك الذين عكفوا على دراسة علوم البلاغة وعنوا بعض الخلافات والمنازعات بين الخطيب والسكاكي والجرجاني - يستطيع أن يجاري كتابنا في (بلاغتهم) التي تكون هذا الأدب العربي الحديث؟
أقول ذلك ما دامت الوجهة هي الملكة اللغوية الأدبية، أما دراسة التاريخ والوقوف على تطورات الحركات العقلية فشيء آخر، ولكن يجب الالتفات إلى أن هذه الدراسة لا تتطلب الانصراف الكلي إلى الجزئيات والتفيصلات، وهي وإن كانت ملامحها العامة مطلوبة في المعاهد العالية إلا أنها في المدارس العامة عبث أي عبث.
يوسف وهبي والفرقة المصرية
قامت في الأسابيع الأخيرة. ولا تزال، ضجة حول استقالة الأستاذ يوسف وهبي بك من الفرقة المصرية، تلك الاستقالة التي أريد عليها، إذ أبلغه أولو الأمر رغبتهم فيها. وقد تكاثفت في جو هذه الضجة عجاجات أثارتها الحملات المتبادلة في الصحف والمجلات بين الأستاذين زكي طليمات ويوسف وهبي. وليس عجيباً أن يختصم هذان الأستاذان، وإنما العجب أن يتفقا وأن تجمعهما فرقة واحدة، فكل منهما في الفن المسرحي مذهب وأسلوب يختلفان عن مذهب الآخر وأسلوبه؛ فهما ضدان من الهدوء والصخب، والتحليل والتهويش، والخاصية والعامية؛ وهل يجتمع الضدان؟
وقد تعرض بعض الصحف للأسباب التي دعت إلى إخراج يوسف وهبي من الفرقة المصرية، أو التي يظن إنها أسباب. وتجمع الكلام في هذه النقطة عند الرحلة التي قامت بها الفرقة أخيراً في بلاد المغرب، فذكر أن يوسف وهبي خطب في تونس فخلع مصريته وانتسب إلى تونس، وأنه تدخل في الأسماء التي منحت أوسمة تونسية، فغير فيها وبدل حتى طلب أوسمة لبعض المتعهدين من اليهود وأهمل بعض ممثلي الفرقة، وأنه تعمد إطالة الرحلة ليكسب من رواياته التي ينال فيها 25 % من مجموع الدخل ومن بدل السفر الذي يمنح له خمسة جنيهات في اليوم الواحد، وانه أرسلت إليه برقية من مصر للعودة فتباطأ. . . الخ
وقد يكون ذلك الذي ذكر أو غيره، أموراً مباشرة أستند إليها لإبعاد يوسف وهبي عن الفرقة المصرية، ولكن السبب الحقيقي أعمق من كل ذلك وأبعد، فليس ذلك المسلك وليست تلك التصرفات جديدة من الأستاذ يوسف وهبي بك، فإن كان قد قام برحلة شهور إلى شمال أفريقية، فقد قام من قبل برحلة أطول منها في مصر. . . صنع فيها ما صنع في الرحلة المغربية بل أكثر! إذ استغرقت الرحلة المصرية عامين قدم فيهما رواياته القديمة، وهي نفس الروايات التي أخذها معه إلى بلاد المغرب، وهي أيضاًنفس الروايات التي يختص فيها بخمسة وعشرين في المائة من دخل (شباك التذاكر) ودأب في الرحلة المصرية كما فعل في الرحلة المغربية على إبراز نفسه واختصاصها بأكبر نصيب من الإعلان والدعاية إلى جانب النصيب المادي الأكبر الذي يستولي عليه من مرتبه الكبير وربع الدخل العام، وطغى في كل ذلك على زملائه من ممثلي الفرقة وممثلاتها، وفيهم أعلام ونبغاء في فن التمثيل، وهم جميعاً مغبونون في أرزاقهم لا يتقاضون من الفرقة ما يقوم بحاجتهم ويحفظ كرامتهم، بل طغى الأستاذ يوسف وهبي بك على الفرقة كهيئة معنوية فجعل نفسه الفرقة ومديرها العام!
وكان يمكن التغاضي عن ذلك لو أن يوسف وهبي قدم عملاً فنياً يضاف إلى الإنتاج المسرحي ويعمل على أحياء فن التمثيل وتقدمه، ولكن الذي حدث أنه جعل يكرر المجهود الذي قام به منذ ثلاثين سنة على مسرح رمسيس، ذلك المجهود الذي يقوم على تملق جماهير العامة بإثارة العواطف على طريقة وعظية أو (مأتميه) بعيدة عن هدف الفن الخالص، وأقل ما فيها من مجافاة الفن البعد عن الصدق، فكلنا يعرف النغمة التي ظل يضرب عليها يوسف وهبي في مسرحياته وأيضا سينمائياته، وهي إيجاد مفارقات بين الأغنياء والفقراء، وتصوير الأولين ظالمين مستبدين والآخرين ملائكة بررة على طول الخط، كما في قصص أبي زيد الهلالي من حيث إنه رجل مثالي لا يخطئ ولا ينهزم على خلاف خصمه الزناتي خليفة الذي تسند إليه كل نقيصة لأنه خصمأبي زيد!
ويوسف وهبي ليس من الفقراء، لا أصلاً ولا فصلاً، وإنما هو يعشق الجمهور، فهو يخلع أرستقراطيته طلباً لعطف الجمهور في مصر كما خلع مصريته أمام الجمهور في تونس، بل هو يخلع الفن الرفيع ويصدم أذواق المثقفين لاجتذاب طبقات أخرى من المتفرجين. وهو يعتبر مقياس النجاح - كما قال في مقالاته أخيراً - إقبال هؤلاء المتفرجين وكثرتهم، فهو عندما يذكر آثاره في الفرقة يجعل في مقدمتها أن الإقبال على مشاهدة الروايات كثر في عهده فزاد دخل الفرقة.
ظل يوسف وهبي يقدم في الفرقة المصرية ذلك المجهود، ولكن الفرقة المصرية لم تكن لمثل ذلك، فالغرض الأساسي منها ترقية التمثيل العربي، وليس ذلك من ترقيته في شيء، ولو أن مدار الأمر على الرواج وكثرة الرواد لكان في مثل (شكوكو) غناء وجدوى أكثر من الأستاذ يوسف وهبي بك. ووزارة المعارف - مثلاً - تترجم إلى اللغة العربية أمهات الكتب العالمية التي لا يقبل الجمهور العادي على قراءتها، ولو أنها أرادت إقبال هذا الجمهور لكان في روايات أرسين لوبين وشرلوك هولمز ما يحقق المقصود.
إذن فالسبب الحقيقي لإخراج يوسف وهبي بك من الفرقة المصرية، هو انضمامه إلى الفرقة المصرية. . . فقد أتى به إليها ولم يكن لها ولم تكن له، فلم يكن بد من تنحيته عنها لما تهيأت الظروف واتجهت الرغبة إلى تصحيح الأوضاع. والرجل له طابعه وله جمهوره ويمكن أن يؤدي مجهوداً في مجاله، والمسرح الآن لا يستطيع أن يعيش بدون الرعاية الحكومية، فمن الإنصاف أن يمكن يوسف وهبي من العمل على رأس فرقة تؤلفها أو تعينها لحكومة، ليقدم ما عرف به لمن يطلبه، أما الفرقة المصرية فتحتاج إلى تكوين جديد لتؤدي أغراضاً أخرى.
عباس خضر