مجلة الرسالة/العدد 880/القصص
مجلة الرسالة/العدد 880/القصص
حب!. .
ثلاث صحائف من مذكرات رجل رياضي
مختصرة عن
كانت تلك الليلة شديدة البرد، حالكة الظلام، فجلسنا للعشاء في غرفة فسيحة، بدت لي كمعرض من معارض الحيوانات، فقد كان أبن عمي حريصاً على تعليق كل طير جميل يصطاده على جدران هذه الغرفة بالذات، أو يدليه بالحبال من سقفها!. . حتى أبن عمي بدا لي تلك الليلة، في هيئة غريبة هو الآخر!. . . كان يرتدي معطفاً (جلدياً) سميكاً بدا لي به كواحد من تلك الحيوانات التي تعيش في المناطق المتجمدة الشمالية!
كان أبن عمي - كارل دي روضي - قد دعاني إلى الصيد معه. فلما جلسنا حول المائدة راح يحدثني عن كل الترتيبات والاستعدادات التي دبرها أو أتخذها لهذه الرحلة. . . فعلينا أن نبدأ الرحلة في ساعة مبكرة في فجر اليوم التالي. . . وعلى مسيرة ساعة من هنا أقام أبن عمي كوخاً من قطع الجليد الكبيرة، وأعده لنحتمي به من شدة الزمهرير!
فرك أبن عمي راحتيه، وقال - آه. . . لم أر طول حياتي مثل هذا الجو البارد! ثم أستأذنه، ودلفت إلى فراشي مبكراً، وما كدت أستقر بين أحضان الفراش الدافئة، حتى نمت نوماً عميقاً هادئاً ولم أستيقظ إلا على يد أبن عمي ووجهه الأحمر، والفجر لما يطلع بعد.
وسرنا أنا وأبن عمي وكلابه، نتبع رجلاً استأجره أبن عمي لحمل الصيد وما كدنا نخرج من البيت حتى شعرت بالرياح تلطم وجهي بشدة، وأحسست بالبرد يسري في أوصالي. وكانت الطيور الصغيرة تتهاوى إلى الأرض، وهي جثث هامدة جامدة!
كنا نسير، أنا وأبن عمي جنباً إلى جنب وقد انحنى ظهرانا، ولاذت بالجيوب أيدينا. . . وكنا قد تأبطنا بنادقنا وسرنا في صمت وسكون. حتى وقع أقدامنا لم يكن يسمع قط، فقد عمدنا إلى لف أقدامنا بالصوف خشية الانزلاق على الجليد. وكنت أتلهى بالنظر إلى مياه النهر المتجمدة، والى البخار الكثيف المتصاعد من أنوف الكلاب.
ووصلنا غابة كثيفة اختارها أبن عمي للصيد، وأوغلنا بين أشجارها المتعانقة، وأحراشه المتكاثفة، فكان إذا ما مس جسد أحدنا غصناً من الأغصان انحطم محدثاً صوتاً مدوياً يبعث الرعب إلى قلبي. . . يا للسكون، إنني أحس الآن في أعماق نفسي احساسات غريبة لم يسبق لي أن أحسست بمثلها من قبل. إن هذه الاحساسات التي تملأ نفسي لن تبرح ذاكرتي طوال أيام حياتي.
ولاح لعيني ذلك الكوخ الجليدي الذي أقامه أبن عمي لنحتمي به من شدة البرد. وكان وصولنا إليه مبكراً، فدخلناه لنسترجع أنفاسنا ونرتاح قليلاً، وانتهزت هذه الفرصة فتدثرت بغطاء سميك من الصوف، واستلقيت على الأرض محاولاً التماس الدفء، ولكن جدران الكوخ الشفافة ما كانت قادرة على صد هجمات الرياح الباردة، فبرد جسدي، وانتابتني نوبة من السعال أثارت اهتمام ابن عمي، فقال مداعباً ليس من الضروري أن نصطاد كثيراً اليوم. . . إنني أخشى عليك من الزكام!. . دعنا نشعل ناراً لعلك تدفأ!
وارتفع لهيب النار، ومس جدران الكوخ الشفافة كالبلور الصافي، فأخذت قطرات الماء تنهمر علينا كالمطر. وكان كارل خارج الكوخ حين ناداني في لهفة - تعال. . . تعال وأنظر! فعدوت إلى الخارج مسرعاً، وسرعان ما وقفت مدهوشاً ذاهلاً. . . يا للروعة!. . .
كان كوخنا الجليدي ذو الجدران الشفافة، والنار تتأجج فيه، يبدو كالجوهرة التي وقع عليها الضوء الساطع. فراحت تشع وتتلألأ!
وبينما كنا مسحورين بهذا المنظر الأخاذ، وكل شئ ساكن من حولنا، إذا بنا نسمع دوياً هائلاً ينبعث سريعاً خاطفاً من فوق رؤوسنا فيتبدد ذلك السكون الثقيل الذي كان يخيم على الحياة من حولنا!
ورفعنا أعيننا إلى السماء، فاستطعنا أن نرى سرباً كبيراً من الطيور يحلق غير بعيد عن رؤوسنا، ولمع في ظلام الفجر سيف من النور. . لقد أطلق كارل بندقيته، وهرولت كلابنا نحو الغابة ثم تناوبنا إطلاق النار كلما لاح لنا سرب من أسراب الطيور المهاجرة وكانت كلابنا تلهت من شدة التعب. . إلا أنها كانت مسرورة لممارستها هذه الرياضة المسلية. وكانت تحضر لنا الطيور المضرجة بدمها الحار، تلك الجريمة التي كانت ترمقنا دائماً بنظرات كلها أسى ويأس وعتاب! وأشرقت الشمس، وبدأت ترتفع في الأفق بتثاقل، وكنا نهم بالعودة حين لاح لنا في الجو الصافي، طائران يطيران على مهل وقد اشرأبت منهما الأعناق، وانفردت الأجنحة. . وكان قد مرقا من فوقنا، حين أطلقت النار من بندقيتي، فسقط أحدهما على مقربة مني، وكان جثة هامدة قد مزقها الرصاص!
كان صدر الطير فضياً لامعاً، وحين رفعته بيدي أتفحصه في إعجاب، سمعت صوتاً يتردد من فوق رأسي في نغمات قصيرة ذات وتيرة واحدة استطعت أن أحس بالحزن ظاهراً فيها بكل وضوح. . وقد بقي هذا الطير المحزون يحوم حولنا ويرمق زميله المضرج في دمه في ألم قاتل وهم مرير.
كان كارل راكعاً على إحدى ركبتيه، مسدداً فوهة بندقيته نحو الطير المحلق فوق رؤوسنا. قال كارل - لقد قتلت الأنثى. . . وبقى الذكر يحوم حولنا ولا أظنه سيتركنا.
والحقيقة أن الطائر لم يذهب بعيداً عنا، ولم ينقطع نواحه الذي أحزنني كثيراً واشعرني بالندم على ما فعلت!
وابتعد عنا قليلاً فخيل إلي أنه قد ركن إلى الفرار بعد أن أدركه اليأس من أنثاه، ولكنه سرعان ما عاد إلينا وقد تجدد عزمه، واستأنف البحث عن إلفه والنواح على أنثاه، كأن هذا الفراق قد عز عليه، ولم يحتمله!
قال كارل - اتركها على الأرض، فهو حين يراها سيقترب منها وفعلا، ما كدت أتركها حتى اقترب منها غير مبال بالخطر المحدق به. . فقد أعماه حبه لأنثاه عن رؤية البندقية المفتوحة الفم وأطلق كارل بندقيته، فهوى الطير كالحجر!
ووضعت الاثنين في كيس واحد. . . كانا باردين كالثلج وقد خمدت منهما الأنفاس. . . وشعرت بالأسى يغمر قلبي. . فلم أطق رؤيتهما.
وعدت في المساء إلى باريس!
البصرة: العراق
يوسف يعقوب حداد
ص. ب. رقم 15