مجلة الرسالة/العدد 88/منازل الفضل
مجلة الرسالة/العدد 88/منازل الفضل
1 - قصر الوالدة
للأستاذ محمد محمود جلال
يوم أراد الله أن أفرغ من الدراسة الابتدائية، وقد أتممتها في كنف الجمعية الخيرية الإسلامية في معهدها ببني مزار، اتجهت أنظارنا إلى القاهرة عاصمة البلاد تطلعاً لإكمال الدرس في معاهدها الثانوية
لم يكن من ذلك بد، وقد قضت سياسة دنلوب، بتركيز الدراسة الثانوية بالعاصمة، وحرمان مديريات القطر من الخطوة الثانية للتعليم فضلاً عما أفسد من برامجه وشوه من خططه
كثر التردد على القاهرة، بين تقديم الطلب، والاستعداد للكشف الطبي، والحرص على الظفر بمكان، إذ كان نطاق المدارس ضيقاً ومحاطاً بكثير من القيود تمشياً مع تلك السياسة
كان ذلك في أواخر سنة 1911 أي من نحو ربع قرن
فإذا كان يوم الجمعة، ذهبنا إلى ملعب الكرة بالحلمية الجديدة مررنا بشارع البرموني. هناك يستوقف النظر تجمع كثير من النسوة والصغار يختلفن إلى دار في مواجهة (زقاق) صغير ينتهي بها فتغيره وتحيله ميداناً فسيحاً للرحمة والإحسان. . . . .
كانت تلك الدار (مبرة محمد علي) تجد فيها فقيرات الأمهات وفقراء الأولاد رعاية عالية، وعطفاً كريماً: يلقين فيها يد الطب تأسو، ويد البر تواسي، تستنفذ اليدان بفضل الله أناسي من خلقه من براثن الأمراض وآلام الحياة
فإذا سألت لمن هذا الَعلم؟ ومن يقوم على هذا البر؟ ومن يغذى تلك الشجرة المباركة! أجابك المغاثون الداعون هي: (الوالدة) أطال الله بقاءها
(الوالدة)!! وأي اسم في الوجود أولى بهذه المعاني من هذا الاسم الكريم؟ وهل في الدنيا أكثر عطفاً من الوالدة!!
أليس بين الاسم والفعل خير تناسق وأوثق صلة؟
إنا نرى اليوم في مصر كثيراً من مظاهر البر، وأماكن للعلاج وافية الأعداد، ولكنا حين نذكر ما كان، وحين أكتب اليوم، إنما ننظر واكتب عما كان منذ ربع قرن. كانت (مبرة محمد علي) لا تقل في عين الفقير عما يرى اليوم في عجيبة (الراديو) والطير ولما أعلنت الحرب بين إيطاليا والدولة العلية، ونزلت جيوش الأولى شاطئ طرابلس، تحمس المصريون ذاكرين ما هم فيه وما بهم من ويلات الاحتلال الإنجليزي، يأسون جراح المجاهدين بفضل من المال وشيء من العون، رأينا (الوالدة) تتقدم الصفوف وخلفها الفضليات من نساء مصر يقمن بواجب الاغاثة، ويجمعن التبرعات، يوفين ما علبهن لله، وما في ذمتهن للحق والأخلاق
هذه (سوق الإحسان) نافقة ترأسها (الوالدة)، وتلك دعوة للتشاور بين سيدات مصر في (قصر الوالدة)، وفي الصباح تتحلى صحف مصر بفاتحة التبرعات مصدرة باسم (الوالدة)
وفي الحلمية الجديدة بناء جميل، تسمع به حركة ولا تسمع فيه لغواُ، يجمع كثيرين من أبناء البلاد، يتعلمون الصناعة، ينقل إليك الأثير نغمات آلاتهم توقع الأنشودة في تدعيم صناعة البلاد
فإذا خطوت إلى شارع سليمان باشا، راعك مخزن فاخو، فخاره وروعته قطع الأثاث المتقن برعت فيه أيدي المصريين والعبقرية الفنية الموروثة، فبينا نرى المخازن والمحال تطلى وتنسق إعلاناً عما بها إذا بذلك المعرض يحلي المكان ويعلن عنه
والعهد بذلك الحي أنه (إفرنجي) في مساكنه ومقاهيه ومخازنه، وإنك لمفترض إذن أن هذا المكان (لكريجر) أو (لجانسان)، أو غيرهما من تجار الأثاث الثمين. ولكنه قطعة من مدرسة الحلمية وقفت كالراووق لا تبقى للعرض إلا ماله قيمة حقيقية، تعلن في صدق عن حقيقة البلاد وأبناء البلاد ولإنتاج البلاد، في الحي الذي لا يقطنه إلا الأوربيون
وكذلك كانت (الوالدة) شغل السمع والبصر
التحقت بالمدرسة السعيدية، أجتاز من أجلها جسر قصر النيل في اليوم مرتين، فأمر بقصر (الوالدة) مرتين، ومن العجب أن يزداد المرء في كل نظرة شغفاُ بالقصر، وألا يكون لتكرار رؤيته إلا استزادة الإعجاب وامتلاء العين من محاسنه، على نقيض ما يعرو الإنسان عادة من ملل إذا تكرر المنظر، ولو في نزهة
كان (قصر الدوبارة) أحب أحياء القاهرة إلي. فإذا أردت ترويحاً عن نفسي سرت على شاطئالنيل حذاءه، وإذا شعرت بضيق طلبت تفريجه في سويعات المساء بين مغانيه، وإذا جلت بالجزيرة وقفت على النيل من الشاطئالغربي أنظر إليه، وكثيراً ما طالعت العسير من دروسي في تلك الناحية فساغ فهمها وانجلى الكرب
بلى إني تمنيت أن يكون لي فيه مسكن، وأن أصبح من قاطنيه، فلما استقر بنا المقام بشارع (الحوياتي) حمدت الله وقلت هذه خطوة في القرب منه، وقد أوشكت على الخروج من سلك الطلبة
أدركنا من الحياة أكثر، وفهمنا بتقدم السن وتحول الأيام ما لم نكن ندرك من قبل، فإذا بي أبدأ اليوم متنزهاً في البكور بقصر الدوبارة، وأختم المساء بجولة في ربوعه، إذا أحسست القذى من قصر (العميد) لقيت الفرجة من (قصر الوالدة) كما يذهب عنك معرض الصنائع بشارع سليمان باشا، غصة التسلط الأجنبي في ميداني الصناعة والتجارة
وفي سنة 1932 أراد الله أن أظفر بشيء من الأماني، فسكنا داراً بالحي ذاته، وبلغ من عرفاني لجميل الله، وفيض السرور على قلبي أن قيدت في جريدتي الخاصة هذا الانتقال بما يستحقه
فلما أن كان يوم جمعة، ومررت بالقصر في طريقي إلى مسجد (الشيخ بركات) هالني إعلانات تلصق على الجدار الأنيقة، يضعها صبيان دون إكتراث، فأخذت ووقفت أقرأ، الله أكبر، هذه إعلانات عن بيع أثاث القصر!!!
لك الله يا دار! كنت مهبط رحمة، فرفعت بك (الوالدة) علم البر، وكنت منزل الفضل فدعوت للعلم، وقمت بإنشاء معاهدة وتمويلها، كنت آية الفن من الطلاء الخارجي والباب الكبير الجميل إلى الأثاث الداخلي الفاخر، وها أنت اليوم يعبث بجدرك صبية وقد كان يهاب المرور بها كبار! ويباع الأثاث، فتستباح من الشارين الدار. ولم ذلك؟ وفيم السخرية والتفريط فيك ووارثوك في نعمة وبسطة من العيش؟! وكيف هنت وأنت مصدر العزة لبيوتات طاهرة، وكنت الغوث والابقاء لدور وقصور
وكذلك أصبح يوم الجمعة عندي - وهو يوم الجمع والرحمة - يوم العظة والاعتبار، يوم كشف لي فيه عن (مبرة محمد علي) سنة 1911، ثم رأيت فيه ختام الآية، وكيف عبثت أطماع الدنيا بالتراث المجيد
ومنذ حل الأجل، وبدأ المكلف بالبيع من الخبراء ينفذ إعلانه أقصرت عن الطريق وتخليت عن عادتي، وكرهت أن أرى كعبة العافين ومنار الفضل مزدحمة المسالك بالمتفرجين والعابثين
علم أبي - عليه رحمة الله - بالبيع فطلب إليَّ أن أزور القصر واشترى أثاثاً ينقصنا لغرفة المائدة، وبقي بالقاهرة يومين ثم سافر إلى الريف لبعض شأنه
وحين عودته سألني هل نفذت رغبته؟ وهل اقتنيت شيئاً؟ لقد كنت أهابه على رعايته لي، وما أظنني خالفت له مدى حياته رأياً، فلما سئلت لم أعدل بالحق شيئاً، قلت: لقد بر علي يا أبي - وقد أعجبت بالقصر فتى، وقدرت أثر صاحبته وأثره في عالم الخير والعلم لهذه البلاد شاباً - كبر علي أن تشترك قدماي في امتهانه فلئن لم يأبه منا ريحه ذوو الشأن، ولئن تدفقت الجموع تظفر بما يقتني، فإني سعيد بأن أقتني تذكاره، وأن أفي له بشيء من احترام الذكرى، ثم والأثاث موفور في مخازنه، وجيده اليوم معتدل الثمن
سر أبي بنظرتي، وقال على الفور: (إنك أشبه بجدك، فقد ذهب مرة مع فريق من صحبه لزيارة الخديوي إسماعيل بالآستانة، وكانوا في جملة من كبراء البلاد يطالبون بتدخل الباب العالي لجلاء الاحتلال - والدولة في ذاك الوقت صاحبة السيادة - فلما جلسوا قدمت إليهم السجاير، وطاف الخدم يشعلونها للضيوف الكرام، أبى جدك أن يشعل سيجارته، وكان الخديوي إسماعيل قد كف بصره
فلما سئل من بعض رفاقه بعد الانصراف من الزيارة، قال: (إني نقدت ظلمه، ومدحت إصلاحه - وهو خديوي - ولم أدخن أمامه بصيراً، وإني لأكره أن أدخن - وهو مكفوف البصر - احتراماً لعبرة مآله، وصوناً لذكرى عزته الأولى.
قلت: الحمد لله، لقد أفدت وفاء وعلماً أين منه اقتناء حطام سريع البلى مهما دام، وقمت بما يرضي ضميري ولو في أضيق مجال
واليوم أغلقت أبواب القصر؛ فلا حاجب ولا قاصد، واليوم تمر بقاعة (يورث) الأمريكي على قرب منه فترى رتل السيارات يزحم الطريق، جاءت بأصحابها يستمعون إلى ما يلقي في العلم والفن والأدب، بينا القصر العظيم، المقر السابق للسابقة بين المحسنين وأركان العلم يكاد يطمس سنا طلائه نسيج العناكب لا يرتفع فيه صوت بحديث ولا علم ولا فن
أليس (قصر الوالدة) أولى مكان بنور العلم والأدب والفن؟ إنه أولاها، وإنه أرحب الأمكنة للفضل منذ نشأته فهل نرى في ورثته من الأمراء في القريب ما يعيده إلى مكانته ويعيد إليه روح الأنس بخير ما خلق الله للإنسان فيكون ذلك استمراراً لروحه، وأنساً لروح سكنت الخلد - هي روح (الوالدة). . . . .
محمد محمود جلال المحامي