مجلة الرسالة/العدد 879/من الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 879/من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1950



الصديق الضائع

للأستاذ منصور جاب الله

كان لي صاحب ما شهدت له نديداً فيما رأيت من الصحاب. كان أكبر الناس في عيني، وكان رأس ما أكبره في عيني أني ما عرفت عنه غميزة تميل به إلى جانب الغرور، على ما به من مزايا فاضلة، وعلى ما كانت تفيض به جوانب نفسه من البصر بفنه والعلم القائم على أساس وطيد، وعلى ما كان بتدافع في شرايينه من دم الشباب النضير. وفي كل أولئك حوافز الذهاب بالنفس والتكاثر بالسطوة إلى مدى بعيد.

وكان في عقدي أن من رأى هذا الصديق نظرة أجله، ومن خالطه معرفة أحبه. وجدت فيه ما افتقدت في سائر الصدقان: تواضع على علم، وحياء في ورع، وسذاجة من غير تكلف، وبساطة تنأى عن التعقيد. وكل أولئك محبب إلى النفس، وكل أولئك شئ عزيز المنال.

ولازمت خدبنى هذا ملازمة شديدة، توثقت عناصرها على الأيام، حتى حسب الناس أ، فكاك لازدواجنا، وأن أحدنا لا غناء له عن رفيقه. وكذلك كنا لا نفترق ظغلاً على موعد من لقاء قريب، في الإصباح والإمساء، وإذ كنا متجاورين في السكنى. لم تفرق بيننا إلا المضاجع، وما أثقل الساعات التي تتجرم على بعادنا، وما أطول اللحظات التي تنقضي دون لقائنا.

هنالك بين ربوع الإسكندرية الماعمة، كنا نساحل على شاطئ البحر الجميل في أخريات الربيع وفي ذرور الصيف ومطالع الخريف، وكانت لنا ثم ملاعب ومرابع. لا يرنق صفاءنا اعتكار، ولاينال من عشرتنا لسان، إذ كان قوامها لإخلاص المتبادل، وعمادها المودة المشتركة، ومن ثم كانت أحاديثنا ومسامراتنا لا تنصرف إلا لما يتغشى الناس من أحداث، وما يتوسمه العالم من حدثان. وكانت آراؤنا في الحياة - على سذاجتها وسطحيتها - مطبوعة بطابع من الهدوء والبعد عن الاعتساف.

وإذا كنا على سفر، تواعدنا على اللقاء في القطار، ثم تجمعنا الصحبة في المنزل، وقد نتقاسم الغرفة الواحدة في بعض الأحيان، ونشارك في الطعام والشراب، ويمضي معي لشأني، كما أصحبه لفضاء ما يريد.

كانت تلك حالنا إلى أن فرقت بيننا تصاريف الزمان، فأنحدر صاحبي إلى الجنوب في عمل له، وبقيت أنا أتماور المقام بين القاهرة والإسكندرية. بيد أننا لم نفترق إلا بالجسم فقد اتصل قلبانا وروحانا، فكنا نتناجى بلغة الأرواح كما كنا نتنادى بلسان البريد، ثم نتصل وننفصل والأيام لا تزيد علائقنا إلا توثقاً واتصالاً.

وإذ قامت علاقتنا على الصدق والإخلاص، كان لي أن أزجي النصح إلى صديقي، إذا تجانف لإثم أو خيل إلى أنه كذلك، وأي الناس ترضي سجاياه كلها، ولقد كان يتقبل مني النصح المبذول لعلمه أن مصدره الإخلاص، وتلك حالي معه.

وفي إحدى زوراته المتباعدة لي توجهت إليه باستصلاح ما أنكرت منه، فشهدت منه بوادر الامتعاض على بساطة المؤاخذة مع داعي الإخلاص، وتظاهر بالقبول بل تظاهر بالرضي والاقتناع.

وكانت تلك هي المرة الأولى رأيت فيها صديقي يظهر غير ما يبطن، فلم يحاول بعد ذلك أن يلقاني، وإن كنت سعيت إليه - علم الله - مراراً، إذ عز على أن تهدر صداقتنا بمثل هذه السهولة، وقد عملت في تكوينها السنون الطوال، ورواها الإخلاص وسقتها النزاهة. كاتبته مراراً فأبى أن يتنزل إلى الإجابة على، فعلمت أنه يروم قطيعتي والازورار عني، فأمكنته مما يريد وفي النفس موجودة حرى، وفي القلب أسى لا يطاق.

وبالأمس كنت أسير في بعض الطريق فلمحت على مبعدة مني رجلاً عرفته غير أنب أنكرته، عرفت فيه شيئاً وأنكرت منه أشياء، عرفت فيه وجهه الذي لا أنساه، فقد كان وجه صديقي الضائع، وأنكرت منه طرفاً من سلوكه مع الناس ومعاملته لمن كان في صحبته من الرصفاء، حتى لقد هممت أن أعانقه وأقبله وأفول له: لقد كان لي صديق وجهه يحاكي وجهك، ولباسه يشبه لباسك، وكلامه مثل كلامك، ولكنه يخالف عنك يا صاحبي فيما عدا ذلك فمن تكون؟

ولكنني جبنت دون ذلك ولم أفعل، وبصرت به برامقني شزراً من بعيد، فبادلته النظرة وانصرفت لطيتي مترحماً على ماضي الصديق الضائع!

بعد هذا بسنين، تلقيت معناه هذا الصديق، فما احسبني تفجعت كما تفجعت لفقده، ولا بكيت مثل ما بكيت لموته. لقد فقدته مرتين: مرة يوم قاطعني، ومرة يوم مات عني، فكأنه مات ميتتين. سقي الله جدثه وتدراكه برحماته.

منصور جاب الله