انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 879/صور من الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 879/صور من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1950


قلوب من حجر

للأستاذ كامل محمود حبيب

. . . سمعت حديث الفلاح الذي حطمته رزايا الحياة وطحنته بلوى الزمن، فأحس مرارة العيش حين مكر به الطبيب فاستنيه من قوت عياله ومساك روحه لبذر ابنه بين يدي الإهمال يتهاوى تحت صفعات المرض القاسية حتى لفظ نفسه الأخير؛ وحين قسا عليه سعادة البك فامتص زهرة شبابه وغضارة عمره ثم ضن عليه بفضلة من المال كان يترجاها عسى أن تشبع شره الطبيب فيحنو على ابنه المريض المعنى؛ وحين طرده رب العزبة من رحمته فقذف به إلى عرض الشارع وحبس عنه صبابة من رزق تقيم الأود وترد غائلة الجوع. . . سمعت حديثه فتدفق في قلبي أنات نفس آدها الحزن وأمضها الأسى، فران على المجلس - مثلما ران على - صمت فيه روح الرثاء، وشمله سكون فيه معنى العزاء، وتراءى الشيخ في حديثه كأنما يوقع ألحان روحه على وتر أصابه الوهن والبلى فهو يوشك أن ينقد من طول ما عانى لولا بقية من عزم وإيمان، وأحس كل واحد من رفاقي بتاريخ نفسه المكلومة يهتز فيهب من غفوة ويصحو من سبات، وهفت الأنفس إلى أن تنفض شكاتها على عيني وإن لكل واحد قصة بتوثب الظلم من جلالها ويفور الجشع من أضعافها ثم تظفر ثورة القوة باستخذاء الضعف وتصرع كبرياء الثراء ذل المسكنة، ولكني أطرقت في صمت كأني أستروح من تعب وأتنفس من ضيق.

يا عجباً! هذه النفوس التي كانت - منذ ساعة - تتألق بالبهجة وتهتز بالمرح، قد استحالت - في لمحة واحدة - إلى زفرات حرى تفعم الجو بالشجا والشجون لأن الماضي العقيم قد صحا فيها فنسفها نسفاً!

وآذاني أن أجلس في هذا المكان الجميل، في مهرجان الربيع، بين الصمت والإطراق أسمع أنات صامتة وأحس شكوى مكتومة، فقلت (ما بالكم قد سيطر عليكم الأسى وغمركم الوجوم كأنكم كنتم تجهلون؟

فقال قائل (آه - يا سيدي - إن الضلوع هنا لتنضم على حسرات مرمضة لو زفرت على هذا الربيع الأخضر لاستحال - دفعة واحدة. . إلى هشيم تذروه الرياح، وإن النفوس لتكت أشجانا لو اندلعت لاضطرمت الدنيا بجحيم يتلهب أوارها، ولكن الصبر. . . الصبر والإيمان، يا سيدي!)

وقال آخر (عزيز علينا أ، ننشر عليك من خبت الحياة ما يزعجك فيفقدك متعة كنت تتمناها هنا).

وقال ثالث (إن اليد التي تلوثها الجريمة مرة واحدة هي آثمة لا ترحض تستطيع مياه الأرض أن تغسل عنها الرجس، وإن القانون الذي يكبل بالحديد من يسرق كيزان الذرة ليرد بها سغب أولاده الجياع ليعجز عن أن يردع اللص. . . اللص الذي يتسربل بالغنى والجاه فيستلب من الفقير قوت يومه وهو أحوج ما يكون إليه!)

وتناثر الحديث حوالي يئن بالشكوى حيناً ويغلي بالثورة حيناً، فقلت (وي كأن في الحياة سراً قبيحاً بتواري خلف أستار الطبيعة الوضاحة وهي تتألق بالحسن والجمال!)

فقال قائل: (لو شئت لكشفت لك عن أسرار من الشجن، ولهتكت حجاباً عن خفي من الألم).

فقلت: (هاتة)

قال: أما قصتي فهي قصة الغلظة التي لا تعرف الرحمة، قصة القسوة التي لا تؤمن بالشفقة.

لقد غبرت زماناً أعيش في عزبة رجل من ذوي الثراء والجاه أقنع بالكفاف وأرضى بالشظف، أغدو إلى الحقل لأنزف قوة الشباب وفراهة الفتوة، وأروح إلى الدار لأسكن إلى عطف الزوجة وحنان الولد، لأجد إلا أجر يومي وإلا غلة قراريط تافهة أستر بها عورة الأهل، وأرد بها شماتة العدو. وأنا - إذ ذك - فتى في فوره النشاط وذروة الصحة، لا أنكص عن عمل ولا أنكل عن جهد. وتناهي خبري إلى صاحب العزبة فشملني بعطفه وغمرني بفضله فأحسست بالرخاء والخفض، ولمست الهدوء والراحة.

وغاظ رئيس العمال أن أفوز بحظوة رب هذا الأرض وأنا عامل حقير، في رأية؛ وخشي أن أستلبه مكانته أو أن أنتزعه من مركزه فأنطلق ينفت سمومه حولي ويدرس لي السم في الدسم، وأنا في لهو عن نوازع نفسه الشريرة، وفي غفلة عن دوافع روحه الوضيعة.

وذهبت جهود الرجل هباء حين أعجزه أن يسول لصاحب العزبة برأي، أو يوسوس له بأمر، فانطوى على هم يتنزى في صدره فيسلبه القرار والسكينة، وهيت روح الشر في نفسه جياشة تدفعه إلى غاية، فراح يرهقني بالعمل ويضنني بالجهد ويتعهدني بالإهانة، وأنا أحمل النفس على الصبر وأكرهما على الصمت.

وضاقت حيلة الرجل فركب رأسه فدس لي رجلاً من العمال يتحرش بي - أثناء العمل - في قسوة، ويثير كوامن نفسي في سفاهة، فلما حاولت أن أرد الكيد نحسر صاحبه لم يرعني إلا كيف العامل الأجير تهوى في عنف على وجه رفيقه. . . وجهي أنا. . . فطار للطمة حلمي، وثارت كرامتي، اندفعت صوبه أذيقه وبال جهله وغفلته. واستصرخ الرجل رفاقي فجاءوا يحمون الظالم من المظلوم، وأقبل رئيس العمل يتهدد ويتوعد، فأغلقت سمعي من دون كلامه ثم تركت العمل - توا - إلى حيث صاحب العزبة، رب هذه الأرض، وسيد هؤلاء الناس.

ووقفت بين يدي صاحب العزبة أقص قصة المعركة التي اجتاحت العمل والعمال هناك، في الغيط. ونفضن صاحب الأرض بنظرة قاسية ثم قال: (أحقاً ما تقول؟)

قلت (إي وربي)

ثم تزامر الناس في صحن الدار، وجاء العمال - رفاقي - يزورون حديثاً يبتغون به مرضاة الرئيس، ووقفت مرتبكاً أنظر حوالي في ذهول، أفتش عن الحقيقة وهي تتوارى خلف سجف من الزور والبهتان، فما وجدت في هذا الجمع رجل صدق وإيمان، وأسقط في يدي فملكت عن الحديث واستسلمت.

فقال في ثورة (إذن حكمنا عليك بكذا وكذا من الجنيهات تدفع بعضها عاجلا والباقي آجلا، وموعدنا محصول القمح).

فقلت في توسل (وأنى لي - يا سيدي - بهذا المبلغ الكبير وأنا رجل فقير؟) فقال في كبر: (لست أقبل مراوغة ولا مماطلة ولا دفاعاً) قلت (ولمن يكون هذا المبلغ الجسيم؟) قال (ومالك أنت ولهذا؟ ألا تعلم؟ إنه لصاحب الأرض التي امتهنت كرامتها واستجدت حرمتها وعبثت بحماها، لصاحب العمل الذي ضيعته وبذرت فيه الفوضى، لي. . .) وعجبت لحديث هذا الثرى الشره فأردت أن أقذف في وجهه كلمة عنيفة جاسية، فقلت (أو ترضي - يا سيدي - أن تنتزع مني قوت عيالي ومساك روحي غضباً؟) فقال في ترفع (هذا كلام رجل خلو من الأدب خلو من الحياء، أخرج فأنت مطرود منذ الساعة).

وخرجت من لدن صاحب الثراء العريض أجرر أذيال الخيبة والفشل وأحس مس الفاقة والضياع.

وجذبني الأمل إلى رفاق سيدي وإلى ذوي قرابته، أستعينهم واستعطفهم، عل واحداً يشفع لي لديه فيخفف من حكمه ويرد علي عملي، ولكنني وجدت قلوباً صماء لا تلين، وعقولاً مغلقة لا تتفتح، وأبواباً موصدة بأقفال من الكبرياء والترفع، فرجعت إلى أهلي أحمل في نفسي همين. هم التعطل وهم الجوع.

وانطوت الأيام تنضج قمحي وفي النفس أمل وفي البطن شهوة، فما راعتي الأعمال صاحب العزبة يبكرون إلى حقلي - على حين غزة مني - يحصدون القمح ويحملونه إلى حيث يكون بيدراً صغيراً بين بيادر كبيرة. ووقفت أنظر ومالي بهم من يد فأدفع الظلم أو أظفر - عنوة - ببعض قمحي وهو جهد السنة وأمنية القلب.

ونظرت حولي فإذا الناس يهتزون من فرحة أيام الحصاد ويستمتعون بلذة الجني، إلا أنا. . . فيا لقسوة الحرمان! ويا لمرارة الضيق!

ولا عجب - يا بني - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!

كامل محمود حبيب