مجلة الرسالة/العدد 879/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 879/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1950



القضايا الكبرى في الإسلام

تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي

للدكتور زكي المحاسني

سألت وأنا أجول في صحن الجامع الأزهر عن الشيخ الصعيدي. قلت لعلي أجده تحت رواق من الأورقة التي علت، فأظلت. فدللت على مكانه البعيد، لا في الصعيد. ولكن في كلية اللغة العربية. وكنت أذكر أن أحد عشاق الأسفار من الغربيين كان يقول: من زار باريس فليكتف منها بأن يرى برج إيفل والمسيو أندريه تارديو. وقد مر بالخاطر هذا القول وأنا أبحث في مصر عن الأزهر الذي رأيته كثيراً قبل أن أراه.

كنت وأنا أجوس خلال الصحن أتمثل حلقات الدرس التي لم يبق منها إلا الفلول، فلقد انتقل التعليم من فناء الأزهر فوق الحصير إلى أبنية شيدت بحديد يجلس فيها التلاميذ أهل العمائم والجيب على مقاعد مرصوفة كالتي في المعاهد المتحضرة. ثم لا ضير عليهم أن يبدؤوا علم الأزهر مع حفظ الكافية والأجرومية بشيء من الفرنسية والإنكليزية، وأن يؤلفوا بين الفقه والأصول بضرب من الكيمياء والكهرباء.

وقد لقيت الشيخ بعد لأي في دار من دور الطباعة فأذكرني لقاؤه بموعظة نطق بها ابن المقفع وهي قوله: لا يجعل بالمرء أن يرى إلا مع النساك متعبداً أو مع العلماء جاهداً. وقد لقيت هذا العالم الأزهري العظيم حيث يجمل أن يكون اللقاء بمثله.

بدأ طوالا عريض المنكبين متسق الوجه. ولو أن للمعرفة أشعة لحسبتها تتلألأ في عينيه. واليوم وأنا أتحدث عن كتاب من أجل كتبه وهو القضايا الكبرى في الإسلام أعيد للبال سمته الجليل ومنظره الكريم خافقاً بعمامة وجبة يستدير عنقه فوق جلباب نقي سابغ.

والقضايا الكبرى اسم مر على أسلات الأفلام المعاصرة، فألف في بابه الأستاذ محمد عبد الله عنان كتاباً اسمه قضايا التاريخ الكبرى، جمع فيه كبريات من الحوادث في الشرق والغرب.

وكلا المصريين نال لما صنع المؤلفون الغربيون فقد ألف نقيب المحامين الفرنسيين الغاب (هنري روبير) كتاباً بهذا الاسم. وفي فرنسة مكتبة حقوقية أصدرت مجموعة سنوية كبرى تسمى قضايا العالم الكبرى '

أما كتاب القضايا الكبرى في الإسلام الذي أنا بسبيله في هذا الحديث فهو للأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي. ويمتاز هذا العلامة من زملائه الأعلام الأزهريين بأنه يجمع العلم الديني إلى الأدب الإنساني. فقد أذكر أن له رسالة قديمة كتبها في أبي العتاهية الشاعر العالمي درس فيها حياته وشعره، كما نشر ديوان الهاشميات لشاعر العصر المرواني الكميت بن زيد الأسدس بتحقيق دقيق، ورأى رصين.

وكتابه عن القضايا الكبرى في الإسلام يبدأ بعصر الرسول فيصور مؤثرات المنافقين، وقذف عائشة وطلاق زينب، ويتحدث عن مجرمي الحرب في فتح مكة. وإذا هزني حديث الإفك فجعلت أتململ على مثل النار لما اعترى عائشة من الحزن يوم ذاك، فإني ليهزني ذكر الخوارج الصلاب الشداد، وقد وقفوا يوم التحكيم مثل أسود لا تخدعها الثعالب، فراحو يهتفون: لا حكم إلا الله. حتى إذا انحدرت في قراءة هذا الكتاب إلى عصر بني أمية والمروانيين راعني مقتل سعيد بن جبير. إذ يعرضه الأستاذ الصعيدي أذهب مذهباً يخالفه في أمر سعيد بن حبير، فإن قلق الحجاج كان لا يزال يعاود خيالي فأنصوره وقد قتل أزهد عالم في الإسلام، وأوعى فقيه من التابعين لعلوم الدين. ثم أتصور هبوبه من نومه فزعاً مرتاعاً يصيح في خدمه وحشمة في قطع من الليل منبهر الأنفاس، يخيف الحراس فيقول صائحاً:

- لقد رأيت في المنام ابن جبير يقول لي: كيف قتلتني يا حجاج وكأنه كان يأخذ بعنقي ليخنقني.

لكن المؤلف مد بيانه، وبرهانه، إلى رأيي فبدل ما كنت أذهب إليه من مذاهب في شأن ابن جبير، فلقد أفسدت السياسة علم هذا الحنيف كان والياً على عطاء الجند سنة ثمانين من الهجرة في جيش جهزه الحجاج لغزو رتبيل ملك الترك مما وراء النهر بعد فارس. وولى عليه عبد الرحمن بن الأشعث الكندي. فلما توغل عبد الرحمن في بلاد وطاع له العباد اجترأ على الحجاج فحلع طاعته وطاهرة على ذلك ابن جبير، وكان ابن الأشعث الكندي خواناً حين ارتد على المسلمين يقاتلهم ويسد عضد أعدائهم يوم الفتح. وقد جرت حروب بين لبن الأشعث والحجاج أزهقت من المسلمين نفوساً كثيرة لو صرفها أصحابها إلى الفتوح لأوغلوا في البلاد. وانتهت هذه الحروب بظفر الحجاج، فأمكنه الله من سعيد بن جبير بعد أن نقض العهد وبايع لبن الأشعث، ففتله بعد أن حاكمه، وكان خصمه وحكمه.

ويختم المؤلف على العصر الأموي بخاتم البحث، ليفتح باب العصر العباسي على مصراعيه كما يفتح باب المحكمة عن بهوها الكبير وحكامها الجبابرة، فأدخل على القضايا العباسية الكبرى.

وكنت أوثر لأدب، فيجتذبني بشار بن برد إلى قضيته، فأشهد محاكمته مع الزنادقة في عهد الخليفة المهدي.

وقد كان المؤلف أشبه عندي بالمدعي العام، يصور للمحكمة جرم المتهمين حسب رأيه ووفق نظريته، ثم يحملهم على غوارب الحكم حملاً. وهاهنا لم يجتذبني المؤلف ولم يغير من رأيي في مقتل بشار فلقد راح بجمع النصوص من شعر بشار، وأخبار الزنادقة وشرطة الملحدين الذين كانوا مكلفين بالتتبع يحملون أخبار العقول والألسنة إلى الخليفة، وقد صنع المؤلف كل ذلك ليهيئ الحكم على الشاعر بأنه قتل من أجل هجائه وفحشه أو بسبب زندقته وإلحاده. والصحيح عندي أن الذي قتل بشاراً السياسة. فقد استبد الوزير يعقوب بن داود بالكم دون المهدي. وكان بشار من الأحرار لم يستعبده أدبه فما تملق الخلافة ولا ذل للسلطان وكان شعبياً يؤثر أن ينفخ في الأمة بوق الثورة من أجل حياة أسمى. فكان من قوله:

بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزق والعود

كذلك أخطأ التاريخ، وظن المؤرخون ووهموا. فقتل عندهم بشار بن برد من أجل الزندقة والفحشاء. وقتل عندي من أجل السياسة والثورة. لقد كان طيب الفؤاد فلم يهج غير من استحق الهجاء. ظلمة مجتمعة فنقم لنفسه من ذلك المجتمع الظالم ومن مس العقرب لسمته إبرتها. بذلك نفي الحق بين الأنام. لقد وجد ناس في إسقاط بشار بعد موته هذه الكلمة النبيلة:

- إني أردت هجاء آل سليمان بن علي لبخلهم، فذكرت قرابتهم من رسول الله عليه وسلم، فأمسكت إجلالاً له.

على أنه فرط منه هجاء لآل سليمان - والظاهر أنه كان فيه مترفقاً بهم من أجل تلك القرابة فقال فيهم.

دينار أل سليمان ودرهمهم ... كالبابليين حقا بالعفاريت

لا يبصران ولا يرجى لقاؤها ... كما سمعت بهاروت وماروت

ومن القضايا الكبرى في هذا الكتاب قضية خلق القرآن وما جرت من الفتن وضرب الرقاب، وفتنه الحلاج وكنت أبحث في كتابة عن قضية سيبويه والكسائي فلم أجده قد ذكرها. وكانت منه أملوحة لو أضافها في كتابه وجلاها في تصويره الفني.

ثم مضى المؤلف في ذكر القضايا من كبريات الحدثان في الأندلس وعهد كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي يوم قامت قيامة القوم على عبقري الشرق الذي أخرج الأدب من صحن الأزهر إلى مقاعد الجامعة.

كذلك طوفت في قصر العدالة الإسلامية الذي بناه الشيخ عبد المتعال الصعيدي الأستاذ في كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف وصوره في كتابه. فتنقلت فيه من حجرة إلى حجرة أشهد المحاكمات، وأسمع المرافعات فأحن إلى ماض أفل عني وكنت فيه من المحامين، ذاكراً طلعة الأزهري الحكيم الذي زانه العلم، وجمله الأدب، وحلاه التواضع.

زكي المحاسني

بائع الحب

كتاب لاحسان عبد القدوس

للأستاذ أحمد قاسم أحمد

قرأت الكتاب الأول - صانع الحب - للأستاذ إحسان عبد القدوس وقضيت في قراءته وقتاً لم أرد أن أقضيه في جد. . . وما كنت أعتقد حينذاك بأنه كتب للأدب. . .! لقد قرأته على أنه صور - كما يجب أن يسعى إنتاجه - تستطيع أن تسمها بما تريد. . . إلا بالأدب. . . ووقع بين يدي كتابه الثاني - بائع الحب - وأجلت نظري في مقدمته فاستوقفني دهشاً حائراً قول الكاتب: (وقد سبق أن أصدرت مجموعة من هذه الصور بعنوان (صانع الحب) فأثارت ضجة أدبية على صفحات الصحف، وهي ضجة تقوم كلما حاول الأدب العربي أن يخطو خطوة إلى الأمام. . .) إذن فالأستاذ إحسان قد أخرج كتابيه لا كإنتاج أدبي رفيع فحسب، بل كخطوة يخطوها الأدب إلى الأمام. . . وما كنا نعلم أن نهضة الأدب تكون على راح تلك الصور الواهية المبتذلة، التي لا تجيد إلا وصف الشفاء الداعية في نهم، والنهود البارزة في ثورة، والأجسام المغرية في إلحاح. . .! فإن أصر الأستاذ على ادعائه فأنا نقول له. إنك في ذلك مسبوق لا سابق، والذي سبقك هو ذلك الشاعر الذي تهكمت به وبشعره في مقدمة (صورك) هو أمرؤ القيس فإنك لم تزد على أن شرحت قوله:

فمثلك حبلي قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول

وقوله:

فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدي الستر إلا لبسة المتفضل

خرجت بها أمشي تجر وواءنا ... على أثرينا ذيل مرط مرحل

بطريقتك الخاصة في القرن العشرين. . .!

و (بائع الحب) لا ينتقد! لأن النقد يرتفع في حالتين:

الأولى: أن يتسم الأدب ذروة الروعة والكمال، فيتقاصر دونه النقد.

والثانية: أن يهبط إلى مهار عميقة من السخف والتبذل، فيتعفف النقد أن يلاحقه في أغواره. . .!

ويستطيع القارئ - طبعاً - أن يعرف لماذا لا ينتقد (بائع الحب) المسكين. . .!

وأحب أن أقول للكاتب الفاضل إن الأدب متعة الروح، لا متعة الجسد، وغذاء الألباب الناضجة، لا الحيوانية المنحطة، وإن مصير صورة كمصير غانياته اللاتي يلقي بهن إلى عرض الطريق بعد أن يقضي منهن وطراً. . فان القارئ لن يعود إلى قراءة صورة منه لأن المتعة الخالدة معدومة فيها، ولأن جدتها قد بليت، وخمدت أنفاسها إلى الأبد، بل تطايرت في الهواء مع نفثات لفافات قارئيها. . .!!

وأحب أن أقول له أيضاً: إن الصحافة أجدى عليه من الأدب، وإنه ليس أشقى من الأدب، وعزاؤه أنه يعمل لوجه الفن الخالد

ويذكر الأستاذ في إحدى صورة أنه انهال على صاحبته لطما وضربا ولعن آباءها وأجدادها باللغة العربية. . . . وأنى لأرجو أن يذكر أنه - بكتابيه - قد مثل نفس الدور مع الأدب العربي. . .

وأن يذكر أيضاً أننا نستطيع أن نعتبره صحفياً ناجحاً ولا نستطيع أن نعتبره أديباً ولو ثابت صاحبته الصهيونية. . .!)

أحمد قاسم أحمد