انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 878/حكاية الشعر الرمزي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 878/حكاية الشعر الرمزي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1950



للأستاذ حبيب الزحلاوي

نشر الأستاذ عادل الغضبان في المجلة التي يتولى رئاسة تحريرها، مقطوعة رمزية من قلم الدكتور بشر فارس.

ليس إبراد الخير على هذا الوضع بالأمر الغريب، وإنما الغرابة في أن الأستاذ عادل لا يؤمن بالشعر الرمزي، وله فيه رأي لا يرضي الرمزيين ولا مطاياهم. وهو برغم هذا يفتح صدر مجلته لمقطوعة الدكتور بشر فارس، ويعلق عليها، ويدع الأستاذ إبراهيم الأبياري يدافع به عن المذهب الرمزي.

هنا وجه الغرابة، بل هنا مجال الشك والتساؤل.

كان من المنتظر - لولا هذا الوضع المستغرب - أن تسلك المقطوعة الرمزية الجديدة السبيل الذي سلكته أخواتها من قبل، لتصل إلى ذات القبر الذي دفن فيه، أما الأثر المفروض حدوثه وهي طريقها بين المهد واللحد، فهو معروف عند جميع الأدباء، فكاهة تفسح مجالا للتندر والسخرية. إشفاق على جهود تهدر في الالتواء والمرض، وعياذ من انتقال وباء الرمزية إلى أدبنا، أو هروب الشاعر إلى بلاد الله الواسعة، يلعن أدباء مصر في الشام، ويسفه أدب الشام في العراق، ويوقع في لبنان بين المسحيين والمسلمين، ويزدري الشرقيين في بلاد الغربيين.

كان هذا المرتقب وقوعه بالقياس على الوقائع الماضية، ولكن لباقة الأستاذ عادل الغضبان نحت هذه الظنون، ونأت بهذه الاستنتاجات بعيداً، بموقفة من الدكتور بشر فارس إذ يقول له: سواء كانت هذه المقطوعة من عالم الشعر أم من عالم النثر فليس هذا موضوع الخلاف، وإنما هو فيما تضمنته من رموز خشينا معها أن تند عن عمود الشعر العربي) ويستطرد وهو الرزين المتمكن: (إن الشعر، معنى وشعور وموسيقى، يتعاون اللفظ والأسلوب والوزن والقافية على إخراج ذلك المثلث، فمن شاء من الشعراء فصل لها من النصوع والوضوح، ومن شاء ألقى على هيكلها وشاحاً رقيقاً من الإبهام، ومن شاء رمز وكنى) وبعد أن ضرب الأمثال وأنهض الأدلة قال: (إن هذه المقطوعة لا تنحدر إلى القلب إلا بعد تمنع، ومتى انحدرت إليه ملأته بالعبرة والإعجاب (؟!!) ولعلها لا تثير فيه ه الطرب والانفعال).

كلام مقبول موزون لا مرية فيه، ولكن أنى لداعية الرمزية المنادى بنفسه إماماً لها ورسولا أن ينصت إلى معلمه، وقد كان تلميذا له فيما غير من الأعوام؟ أنى للتلميذ الذي سبق معلمه بمراحل أن يقبل ماهو مقرر من قواعد الشعر وهي معروفة ثابتة من مئات السنين؟ لذلك يقف الدكتور بشر فارس وهو يبتسم ابتسامة المشفق على معلمه المتخلف عن ركب الحياة ويقول له (إن تعريفك للشعر إنما هو التعريف المتقادم الضيق، المحصور في الشكل وحده، وأن العمود الشعري الذي أكبرتموه وقدستموه فإني مستطيع إبعادكم عنه) ولم يكتف بما قال بل راح يدل كعادته، على ما قال وكتب ونشر في الصحف السيارة ويهدي إلى فهارس وأسانيد نثبت خطل تعريف الشعر العربي القديم، ويدعى أن تعرفه الحديث (هو إبراز المضمر، واستنباط ما وراء الحس من المحسوس، وتدوين اللوامع والبدائه)

ضحكت منه ذا التعريف المصري، والضحك مفتاح الغضب، ولكني تمهلت ريثما اطلع قراء (الرسالة) على (المقطوعة) مثار الموضوع، لعلي أنا الذي عيبت عن فهم الرمزية؛ وعنوانها (إلى زائرة) تلك التي وقف منها الأستاذ الزيات في كتابة (دفاع عن البلاغة) موقفاً سأعود إليه. أقول تمهلت لعلي أدرك المغلق من الرموز، وأحل عقد الطلاسم والأحاجي. وإلى القارئ المقطوعة (البشريه) أوالقصيدة (الفارسية) وعنوانها (الشاطئ الحافل).

(أنا السيد الأعلى للشاطئ الحافل، إليه من مواغل الأرض تقبل الضمائر ذوات الرغبات الخساس، عاجزات، حيارى، فتموت.

(في اللجة يمتد سلطاني. فراشي رجراج بالمآسي، فيه يقترن الفكر بالغوص. ولا مناص لأحدهما عن الآخر، هنا الحياة.

(حياة وعبث رشيق بالموت الحقير، شاعر أزلي ذو أنامل ماهرة، يبغي التلهمي عن غصة الزخارة، فيلعب لعب المشعوذ بأوعية ذهب، ترقد فيها إلى غير إفاقة، ضمائر لا عظمة عندها.

(يا للعلم باللانهاية! سير لأقصى اللطف الشارد) في زرقة الفضاء، ذات الحدقات الصوافي، تنور الشاطئ الحافل برفات الرغبات) ماتت في ركن موقوف للقوافي الخوالد، قواف نسل في ساعات الاستجمام، في ضمائر لا عظمة فيها ولا غور)

القاهرة 3 فبراير 1945

بشر فارس

هل أنعمت النظر أيها القارئ في هذه الجريدة التي فجرها ذهن الشاعر المقلق الدكتور بشر فارس؟ هلا استغنيت عن المعنى والشعور والموسيقى بعد أن قام الشاعر الرمزي المغلق (بإبراز المضمر، واستنباط ما وراء الحس من المحسوس، وكيف يكون تدوين اللوامع والبواده)؟ أما أنا فأعترف لك صراحة بأني عصرت يافوخي، وكددت ذهني، واجتهدت في تحميل اللفظة والكلمة والجملة والشطرة الواحدة وعلامات الاستفهام أو التعجب وكل حركة وردت في هذه (المقطوعة) ما تحمل ومالا تحمل من المعاني بغية الاهتداء إلى (مالا يحتاج إلى شرح) كما قال أحد مطايا الرامز)؛ ولكن أقسم أنى لم أفهم، وهل الأم على جهلي حل الألغاز، وأي تثريب على من لا يفقه الطلاسم والأحاجي؟

لا يهولنك أيها القارئ أن تكون غبيا مثلي، اعلم بأن صديقا لي - يحفظه الله - هالته بلاهتي، فراح يربت كتفي، ويطيب خاطري، ويشرح لي (المقطوعة) بغير ما عناء أو تكلف كأنه يقرأ للمتنبي أو البحتري أو ابن الرومي ولكنه قطع أربع ساعات فقط في هذا الشرح والتفسير والتخمين والاستنساخ.

وإليك الشرح كما وعته ذاكرتي.

(أنا السيد الأعلى لشاطئ هذه الحياة التي تعج فيها الضمائر والرغبات الخسيسة، العاجزة الغيرة الميتة.

(أنا السيد يمتد سلطاني على لجج النهر الحافلة بالمآسي التي لامناص من وجودها في الحياة لأنها تقترن بفكري.

(أنا شاعر أزلي أعبث عبثا رشيقا بالحياة وبالموت الحقير، وأتلهى بقصص الناس، وألعب لعب المشعوذ بهؤلاء الناس العظماء بالمال فقط بيد أن ضمائرهم ليست عظيمة، وهم النيام أبداً وقد لايفيقون.

ثم يتوجه بالخطاب إلى العلم فيقول (يا للعلم! باللانهاية أين أنت؟ ها أنا الشاعر، أسير الحكمة الشاردة في الفضاء فأرى بعيني الباصرة وببصيرتي الصافية، رفات ورمم أصحاب الرغبات الخسيسة ملقاة في ركن عند حافة شاطئ الحياة، وقد اتخذت منها، أنا الشاعر الأزلي، في ساعات استجمامي موضوعا لبعض قصائدي الخالدة)

هل انبثق النور الرمزي من كوى هذا الشرح؟ هل تسللت خيوط شمس المعرفة إلى ذهني فأنارت ما فيه من الظلام؟ قلت للشارح المجتهد وهو صديق كريم أحبه وأجله وأعتز بصداقته، لا عليك في الاجتهاد في التفسير والتأويل بشرط ألا تحملني على الاعتراف بطيب مذاق عصير الفسيخ.

قال: أول واجبات الناقد تلمس نفائس المنقود لا نقائصه. أليس نفيسا تشبيه اللجنة بفراش رجراج؟ أليس جميلا عبث الشاعر بالحياة بأنامل ماهرة عبثا رشيقا بالموت الحقير؟ ألم تره يلعب لعب المشعوذ ليستل القوافي الخوالد؟ ثم لا يغرب عنك أن القصيدة إنما هي صرخة وجع وألم، وإذا عدت معي نستعرض حياة الدكتور بشر فارس من خلال الأعوام الماضية نجد أنها لقيت من الصدمات ما لا يحتملها سوى شاعر جبار كبشر، ولا يصمد لمثلها إلا من قدت أعصابه من صخرة صوانة. ألم تر كيف حورب في أدبه، وكيف أقصى عن المعقد في الكلية، وكيف دفع عن المجتمع اللغوي، وكيف أبعد عن تحرير المقتطف؟ إذا عرفت هذا وقدرت إحساسه وشعوره قدرت ولاشك معنى هذه الصرخة المكبوتة والقصة المخنوقة، ولكنت قرأت وفهمت ما قرأته أنا وفهمته!!

أقف من صديقي وقفة المشدوه حيال هذا الاجتهاد في التخريج، والتعسف في التأويل، أو أنى تارك تعليل صديقي لفطانة القارئ لعلله يقتنع بما لم أقتنع به بعد، وإني حبا بصديقي الكريم وتطمينا لباله أقول أنه ما من أديب واحد ممن تصدوا لأدب الدكتور بشر فارس، أو حاربوه أو سخروا منه، أحس أن في هذه المقطوعة المختنقة، ما يمسه من قريب أو من بعيد، لأن الضمائر المستترة أو المدفونة في صدر الشاعر إنما هي حشرات تدب في رمة، ولا تنس أن القصيدة نظمت سنة 1945.

قيل لنا إن الشعر بيان يكشف لنا أقنعة المعاني، وأن مدار غاية الشاعر الفهم والإفهام، لا يكون إلا بالبيان) أما الشاعر بشر فيرى أن الشعر (طيرة مرتجلة بأجنحة من نور رفاف) فأي القولين هو السليم المدرك؛ قول الأساتذة القدامى أم قول الدكتور؟! قال الأستاذ إبراهيم الأبياري يعرف الشعر الرمزي وينافح عن الشاعر الرمزي (لا يهولنك أن يعنى فكرك) ويكد خيالك، ويجد عقلك، فلهذا كله خلقت الرمزية) ويقول (إذا عرفت اللغز وحياته عرفت الرمزية في الصورة) ويقول لا فض فوه (المراد بالرمز أن يمضى بك الرامز إلى آخر المطاف تاركا لعقلك أن يلتمس السبيل إلى مراده كاداُ جاهداً) بيد أن الناقد جول لمتر يقول (الصورة الرمزية لا تصبح برهاناً على الشاعرية إلا حينما يكيفها هوى سائد أو أفكار أو صور بعثها ذلك الهوى) وحينما ينقل إليها الشاعر من روحه الخاصة حياة إنسانية وذهنية) فهل رمز بشر فارس يرمي إلى إجهادنا وكدنا وإرهاقنا أم يروم به أن ينقل إلينا من روحه الخاصة حياة إنسانية وذهنية فخاب في هذه المحاولة؟

الشعر كما عرفنا تعبير عاطفي يضرمه خيال الشاعر (قال الناقد هزلت: الشعر لغة الخيال بالمعنى الدقيق، والخيال هو تلك القوة التي تمثل الأشياء لاكما هي في نفسها ولكن كما تكيفها أفكار ومشاعر أخرى. إلى تنوعات من الهيئات وإمتزاجات من القوى لا نهاية لها، وليست هذه اللغة قليلة الأمانة للطبيعة وأكثر أمانة إذا نقلت التأثير الذي يتركه في العقل الشيء الواقع تحت سيطرة الهوى).

هل في مقطوعة (الشاطئ الحافل) أو في لغتها أمانة للطبيعة انتقل تأثيرها إلى عقل القارئ فخملته على الاتصال بالنفس الإنسانية فجعلت القارئ يسربها ويفرح؟

هل الرمز فن؛ وهل يصلح الرمز أن يكون أداة للتعبير عن الفن؟

مالي أسأل الشاعر الرمزي عما نحاه في طريقه ومحاه من معجم ما سموه الشعر لأن الشاعر الرمزي كما يقول الدكتور بشر (إنما يعمل في الظلمة، ظلمة الخلجات، فهو يبين بقدر ما يخلص النور إلى زواياها، ثم أنه لقاط أو هام تشغل الناس ولا يستوضحونها، فهو يرسم خيالات ملامحها لبصائرهم لا لأبصارهم)

مالي أرى الدكتور بشر السهى فيريني القمر؟ مالي أدعوه إلى السير في النور فيأبى إلا التخبط في الدياجير الحاكمة، يتطلب من الشوك عنبا ومن العوسج (كما قال السيد المسيح) وهو يتوخى أن يعكس التهاويل على أخيلته سحباً شفافة تنقشع عن جبريل عصري ينقل إلى الدكتور بشر فارس (الوحي) العبقري من ينابيعه السماوية؟ ما باله يتعامى عن الطبيعة وعن الحياة الإنسانية ويأبى الارسم (ظلمات) الخلجات التي تعتلج في صدره؟ يحسن بي الانتقال من موقف التخصيص إلى موقف التعميم لأسأل: ما هو الإرث الأدبي الخالد، وما هو الأثر الذي تركه الشعر الرمزي في تاريخ الأدب؟

حكى أن شاعرا اسطوانة من أساطين الرمزية أنفق ستة أعوام من عمره في نظم قصيدة واحدة، وأن مطية من مطايا الشعراء الرمزيين كرس تسعة أشهر لحل طلاسم تلك المعقلة، وقد استطاع ذلك الشارح - يرحمه الله - أن يفسر الماء بعد الجهد بالماء.

وبودي لو أطيل الكلام وأسوق الأدلة، وأستشهد بأقوال كبار النقاد الغربيين في فساد المدرسة الرمزية، ولكن لا يسعني إلا لفت نظر الأدباء إلى فصل رائع في الرمزية، ولكن لا يسعني إلا لفت نظر الأدباء إلى فصل رائع في الرمزية ورد في كتاب (دفاع عن البلاغة) للأستاذ الزيات صاحب (الرسالة) جاء في ختامه: (الرمز نوع من الحذلقة والأغراب يصيب بعض النفوس الماجنة فيجدون لذتهم وفكاهتهم في أن يغربوا على عقول السذج بهذه الألفاظ الفارغة والجمل الجوف، وأن يروهم يحملقون في الفواصل وفي الأبيات كما يحملق الأطفال في الغرفة المظلمة أو في البئر المعطلة وسوى كان منشأ الرمزية عندنا هذا الأمر أو ذاك، فقد اقتبسوا مذهبها حين أصبح ضرباً من المعاياة يجوز أن يقصد به أي شئ ماعدا الإفهام والإبانة. وسأضع أمام عينيك مثالين من هذه الرمزية الغريبة أحدهما قصيدة للدكتور بشر فارس عنوانها (إلى زائرة)، والآخر مقال للأستاذ البير أديب عنوانه (حياتنا)؛ وسأدع لك الوقت لتمتحن صبرك على كشف هذه الرموز وحل هذه الأحاجي. ولن أسألك عما فهمت، فإنك إن أجبت فإن جوابك لن يزيد على جوابي، وأن أخطأت فإن خطأك لن يختلف عن صوابي)

ليس هذا إلا بعض ما أريد قوله في المذهب الرمزي، وفي مطايا الرمزيين الذين يؤجرون أقلامهم وضمائرهم لخدمة الباطل في الأدب، وسأعود إلى الكلام مرة ثانية.

حبيب الزحلاوي