مجلة الرسالة/العدد 877/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 877/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 04 - 1950



قلب كبير

(إلى صديقي الأستاذ أنور المعداوي إعجابا بقلبه الكبير)

للأستاذ شاكر خصباك

من كان يتصور هذا؟! من كان يتصور أن ذلك القلب الصغير يتسع لكل تلك العواطف الكبيرة الزاخرة بأسمى مشاعر الحب والوفاء؟! أجل، من كان يتصور هذا؟! ومع ذلك فقد جرى كل شئ في بساطة مدهشة.

كان المنزل الذي اتخذته مقرا لي في القاهرة يعج بالمغريات، وكنت أحاول إقناع نفسي باستئناف حياة جديدة خالية من عنصر النساء - بعد أن جر على متاعب جمة - فانطلقت أنقب عن أسرة صغيرة أشاركها العيش علني اسكن إلى حياة رزينة. وهكذا عرفت تلك الأسرة الفرنسية الطيبة. وكان قوامها زوجين في العقد الرابع من عمرها وصبية في ربيعها الثالث عشر ذات حظ موفور من الحسن بشعرها الأصفر الذهبي وعينيها الزرقاوين الواسعتين وملامحها الدقيقة الساذجة.

وانطويت على نفسي في الأيام الأولى، فلم أتبادل مع الأسرة سوى أحاديث قصيرة على مائدة الطعام. وفيما عدا ذلك كنت اعتكف في غرفتي منصرفا إلى القراءة والدرس. لكنني ما لبثت أن استشعرت الوحشة في هذه الحياة الرتيبة، وحننت إلى دنيا اللهو والمرح. وخشيت أن يفلت الزمام مني فعقدت العزم على الاندماج في الأسرة لو أد هذا الحنين. ولقد شجعني ما لمسته في الزوجين من طيبة ونبل على المضي في قراري قدر الإمكان.

وشرعنا ننتظم كل مساء في جلسة هادئة لنتحدث في شتى شؤون الحياة. وكنت انصرف إلى الزوجين أثناء تلك الجلسات غير معين بتوجيه الحديث إلى فلورا. واحسب أنني لست ملوما على ذلك السلوك، فقد كانت هي عونا لي على تجاهلها بما كانت تبديه من جمود اقرب إلى النفور. وكان يحدث لي أحيانا أن التفت نحوها عفوا فأراها معلقة الأنظار بوجهي وهي سارحة الفكر، وتلتقي عيناي بعينيها وسرعان ما تغض طرفها في ارتباك وتعلو وجنتيها حمرة خفيفة.

وضقت بجمودها ذرعا فسألت والديها عما يدعوها إلى النفور مني، فأكد لي أنها شديدة الخجل وأنها في حاجة إلى مدة كافية ريثما تألف صحبتي. فحفزني هذا الكلام على انتهاج خطة جديدة للتقرب أليها، وبدأت أوليها نصيبا كبيرا من عنايتي. وسرعان ما أخذت فلورا تتحرر من جمودها شيئا فشيئا وإن لم يزايلها خجلها الشديد.

(إن فلورا طفلة عجيبة). تلك هي الفكرة التي نبعت في أعماقي وتسربت إلى جوارحي رويدا رويدا حتى تشبع بها كياني. إنها عجيبة بوجهها البريء وخجلها الساذج وسلوكها المثير. وكلما ازددت بها معرفة اشتدت محبتي لها. شيء معين فيها كان يضرم حبي. أهي تلك النظرة الوادعة التي تطل من عينيها دوما؟! أم تلك الحمرة الوردية التي تصبغ وجنتيها أبدا بصبغة الحياء؟! أم تلك الملامح العذبة التي تعبر أدق تعبير عن طهارة الطفولة وجمالها السامي؟! لا ادري بالضبط، ولعل تلك الأسباب مجتمعة كانت تحببها ألي. وحمدت الله حين بدا لي أن نفورها القديم مني قد اختفى تماما. وعجبت كيف ألفت صحبتي بتلك السرعة المدهشة حين غمرتها باهتمامي. واصبح من الواضح أنها تحمل لي بين جنبها مودة عميقة. لكن هدوءها المتناهي وخجلها الشديد كانا يطبعان حركاتها بطابع التزمت. ولعل الشيء الوحيد الذي كان يعلن عن تلك المحبة هو عينيها. . . عيناها المنطويتان على بحر جياش بالعواطف المضطرمة. ومع إنها كانت تحب أن تجلس إلي دوما، إلا إنها لم تكن تقتحم علي غرفتي أبدا، بل كانت تنتظر في لهفة أن أسالها ذلك بنفسي. واعتدت بدوري أن استدعيها إلى غرفتي عصر كل يوم حين تعود من المدرسة، لتقص علي ما مر بها من الحوادث النهار. وقد يصادف أن يضيق وقتي عن الاستماع أليها بعض الأحيان، فاضطر إلى القراءة والتظاهر بالاستماع، فكانت تكف عن الكلام وتركن إلى الصمت رغم احتجاجي. وتتجمع على نفسها في مقعدها، ويصبح كل وجهها عينين. . حنونتين تتعلقان بوجهي في شرود! لكنها رغم كل شيء كانت تحرص على قضاء العصر معي، فتتعمد المرور أمام باب غرفتي - ساعة رجوعها من المدرسة - وتخاطب أمها بصوت عالي ليبلغ مسامعي، حتى ادعوها ألي.

والواقع أنني لم استشعر الضيق من إقبالها على صحبتي بهذا الحماس العظيم، بل كنت أشجعها على ذلك غاية التشجيع، حتى إنني أقبلت حين سألتني ذات يوم في إلحاح أن ادرسها اللغة العربية في الفرص السانحة. فقد كنت آمل أن تصرفني صحبتها عن الصديقات اللاهيات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كنت أحس نحوها بحب صادق ومودة عميقة، وحملني ذلك على ملازمتها دوما، بل دفعني إلى استصحابها في نزهاتي خارج الدار، حتى صار من المألوف أن تكون فلورا برفقتي كلما رغبت في نزهة أو قصدت إلى سينما. وكم كانت تحس بالغبطة والسرور لتلك النزهات، فكان شعلة سحرية من السعادة تتوهج في أعماقها فيفيض وجهها بشرا وهناءة! غير أنني في الحقيقة لم اكن دائم الرضى عن هذه الحياة، بل كانت تتملكني أحيانا مشاعر آسى ويرمضني حنين ملح إلى حياتي اللاهية. لكنني كنت أسارع إلى الإفلات من شراك تلك المشاعر فيعاودني الاطمئنان وهدوء البال.

وذات أمسية كنت أتنزه مع فلورا في شارع فاروق المحاذي للنيل فالتقيت بصديقي حمدي، وكنت لم أره من مدة بعيدة، فهتف في دهشة ممزوجة بالفرح: ماذا جرى لك يا سلمى؟! لم يعد بوسع أحد أن يراك.

فأجبته معتذرا: أنها ظروف الحياة لعنها الله. . حقا أنني مشتاق لرؤيتك.

فصاح مازحا وهو يرمي فلورا بنظرة استغراب: لعلك مشغول بهذه الطفلة. . ولكنني لا ارتضي لك هذا المصير الأليم بعد مغامراتك الرائعة مع الغيد الحسان.

وربت على كتفي مداعبا وانصرف مع رفاقه ضاحكا. وتابعت التنزه مع فلورا وعباراته الساخرة تموج في أعماقي. . لعلك مشغول بهذه الطفلة. . لعلك مشغول بهذه الطفلة. . أنا مشغول بهذه الطفلة. . كل وقتي وقف على هذه الطفلة. . لم اعد اعرف معنى للمرأة الناضجة. . فلورا تسرق شبابي. . فلورا تسرق شبابي. .!

مرت أيام وأنا مرهق الذهن بتلك الأفكار الثائرة. وعادت صور الماضي المغرية تراود مخيلتي في إلحاح. وضجت أعماقي بالسخرية المرة. . ما انفه عقلي واسخف سلوكي! كيف بددت وقتي طيلة هذه الأسابيع برفقة طفلة صغيرة نابذا الفتيات الناضجات اللواتي يقدمن كل ما تتوق إليه نفسي؟!

ثم تحطمت القيود التي كبلت بها رغباتي منذ أن هبطت على دار الأسرة الفرنسية، وجددت الصلة بنفر من صديقاتي القديمات وتبعا لذلك تغير منهج حياتي. لم يتبق هناك وقت للانظمام إلى أفراد الأسرة في جلستهم اليومية بعد العشاء. ولم يعد بإمكاني أيضا أن أرى فلورا عصرا، إذ طفقت أغادر الدار قبل أن تؤوب من المدرسة. وبدأت أحاول أن اقتصد في الوقت الذي اقضيه في المنزل فأقصره على القراءة والدرس. واقتضاني ذلك أن أتجنب الاجتماع بفلورا جهد الإمكان.

لم يعبا الزوجان بالانقلاب الذي طرأ على حياتي كثيرا، أما فلورا فانقلبت حياتها تبعا لانقلابي. وطبيعي أنني لم اعد أراها كثيرا في عهدي الجديد لأعرف الشيء الكافي عن حياتها، لكنني أستطيع أن أعلن ذلك الحكم وأنا مطمئن إلى حقيقته. فقد أدركت كل شيء من عينيها. . ذلك الكتاب المفتوح الذي كانت صحائفه تعكس صدى عواطفها في صراحة وصدق. تعكر البحر الصافي العميق الأغوار بنظرة حزينة، وامتزجت العذوبة الفياضة في الوجه البريء بمسحة كدرة. كان يكفي أي شخص أن يلقي نظرة عابرة ليوقن إنها طفلة معذبة. واحسب أن عواطفي قد تحجرت تلك الآونة فلم يثرني عذابها كثيرا. أو لعل اندفاعي في تيار اللهو كان يستغرق كل اهتمامي. فلورا. . تلك الطفلة العذبة. . أية قسوة كان ينطوي عليها قلبي لأندفع في إيلام مشاعرها دون أدنى اكتراث؟! كان لابد لها أن تراني وان لم اعد ادعوها. وبدأت تتسلل إلى غرفتي في خطوات مضطربة وتقف أمامي وهي خافضة النظر. وارفع رأسي وانظر أليها في شيء من الضيق، فتبادرني قائلة بلسان متلعثم: إلا يمكنني أن أحدثك عن المدرسة قليلا؟!

فارد عليها في لهجة مبرمة: من فضلك يا فلورا. . في وقت آخر.

فتعكر صفاء وجهها بتقطيبه اكتئاب وتلتوي شفتاها، ثم تنسحب بهدوء وفي عينيها نظرة كسيرة. أما الدرس العربي فقد باعدت بين مواعيده حتى اصبح في حكم المنعدم. لكنني لم اكن دائم القسوة معها، بل كنت أجيبها إلى سؤالها احينا، فاصحبها في نزهة أو إلى السينما، وان اعتذرت عن طلبها في غالب الأحيان وحملتها من عذاب الخجل مالا تستطيع حمله.

وذات أمسية غادرنا دار السينما بعد مشاهدة فلم غرامي، وسلكنا شارع سليمان باشا عائدين إلى المنزل. وكانت فلورا تسير إلى جانبي والسرور ينير وجهها، وهي صامتة تائهة كأنها تحت سلطان قوة خفية! وفجأة التفتت ألي في تردد وسألتني بصوت راعش والدم يندفع إلى وجهها لاهباً: ماذا يعني وقوع المرأة في غرام الرجل يا سامي؟ فنظرت أليها دهشا، ثم أدركت على الفور أن عنف المواطن في (الفلم) قد أثار فضولها. فقلت بلهجة متلطفة: لا تستعجلي الأمور يا عزيزتي فلورا. . هذه عاطفة يصعب على الصغار فهمها، وستدركين معناها - عندما تكبرين - من تلقاء نفسك.

فقاطعتني بلهجة احتجاج: ولكنني أستطيع فهمها الآن فأنا فتاة كبيرة. أنت لا تعرف عمري الحقيقي. . أن لي خمسة عشر عاما.

فأجبتها مازحا: حقا؟! لقد كنت اعتقد انك في الثالثة عشرة من عمرك. أنت تبدين اصغر من سنك كثيرا.!

فصاحت فرحة: هذا صحيح. . إنني أبدو اصغر من سني كثيرا، وفي وسعي أن افهم كما تفهم الفتيات الكبيرات.

فقلت لها في لهجة جدية: اسمعي يا فلورا دعي السؤال عن مثل هذه الأمور حتى تكبري، فأنت الآن طفلة صغيرة لا يصح أن تلقي هذه الأسئلة على الآخرين.

وما كدت افرغ من قولي حتى سمعت صوتا يهتف في حرارة: (هالوا سامي!). والتفت، وإذا بي أمام صديقتي (سوسو) التي كنت قد أخلفت موعدي معها قبل أيام. وراحت (سوسو) تتفنن في عتابي متهمة إياي بتفضيل صديقاتي الأخريات بينما انطلقت فلورا ترقبها في غيظ واشمئزاز. واستطعت أن أتخلص من عتابها أخيرا بالاتفاق على موعد اخر، فانصرفت وهي تحذرني من إخلاف الموعد مرة أخرى. وتابعت السير مع فلورا في صمت، وعبثا حاولت وصل الحديث بيننا، إذ تمسكت فلورا بصمتها وقد ارتسم على وجهها شتيت من عواطف الخيبة والمرارة والغيظ.

تغير سلوك فلورا تجاهي منذ تلك الليلة تغبرا عجيبا ولم تعتد تحتفظ لي بمودتها القديمة. فقد صادف في اليوم التالي أن كان ميعاد درسها العربي، فاستدعيتها إلى غرفتي لتستمع إلى الدرس. ولشد ما دهشت حين قرأت على صفحة وجهها دلائل قسوة وعنف ولمحت في عينيها نظرة صارمة يمتزج فيها الغضب بالنفور بالأسى. وانتصبت أمامي شامخة الأنف مقطبة الوجه، فنظرت أليها متعجبا وقلت باستغراب: اجلسي يا فلورا. . . الست مستعدة لدرسك العربي؟!

فأجابتني بلهجة جامدة: كلا. .

فسألتها في دهشة: لماذا يا فلورا؟! يجب أن اعرف فالأمر يهمني فانفجرت صائحة في غضب: أنت تخدعني فالأمر لا يهمك إنني لم اعد احب هذه اللغة. . لا احبها. . لا احبها. . ولن استمع إلى درس عربي آخر.

وروعتني ثورتها فلبثت ارقبها صامتا مشدوها. وقبل أن استفيق من ذهولي هرعت إلى غرفتها وأوصدت وراءها الباب. في رفق. هىء. . هىء. . ماذا؟! أفتبكين يا فلورا؟! ساد الصمت برهة، ثم تناهى إلى سمعي صوت مرتعش يهمس: (أرجوك. . اذهب) فقفلت راجعا إلى غرفتي تنازعني مشاعر الألموالإشفاق.

انطوت فلورا على نفسها، وباتت تحتجب عن عيني دوما. ولم اعد أراها إلا على مائدة العشاء وهي مقبلة على طعامها موردة الخدين خافضة النظر. وحين تلتقي أنظارنا عرضا يحمر وجهها وتلمع عيناها ويزوغ بصرها عن وجهي في قلق وارتباك. وأيقنت إنها عادت إلى نفورها القديم مني، فقد أصبحت كل حركة من حركاتها وكل لفتة من لفتاتها تعبر عن هذا النفور، ولكن عينيها ظلتا مشحونتين بأسى عميق ووجهها مغلفا بكآبة قاسية.

ومضت الأيام وان مشغول بصديقاتي اللاهيات غير عابئ بأمر فلورا. وظلت هي تحرص على الابتعاد عني فتؤازرني في إهمالها، ألي إلى أن حل ذلك المساء. ورجعت إلى المنزل على غير ميعادي، وما كدت افتح باب غرفتي حتى ألفيتني وجها لوجه أمام فلورا.! ألم يحدث لك أن فاجأت لصا يهم بمغادرة المكان بعد أن سرق اثمن محتوياته؟! تلك هي حالتها بالضبط حينما باغتها بدخولي. تقلصت ملامحها واكفهر وجهها واشتعلت عواطف الخوف والحيرة والخجل في عينيها القلقتين. ماذا بك يا فلورا؟! ما الذي يروعك؟! خطوت نحوها في بشاشة فاندفعت صوب الباب بلهفة طائر سجين فتح له القفص سهوا. . . كلا، لن ادعك تخرجين. وقبضت على ذراعها وأنا أقول في لطف: مرحبا بك يا فلورا. . . لماذا تسرعين؟!

فانطلقت تناضل لتخليص ذراعها من قبضتي وهي تردد بصوت مخنوق: دعني اذهب. . . أرجوك، دعني اذهب.

لكنني أجلستها على أحد المقاعد عنوة وأنا أقول في رقة: مهلا يا عزيزتي فلورا. . . لا داعي للعجلة. .

فصاحت في لهجة غاضبة وهي تتململ على مقعدها: أنا لست غزيزتك. . . دعني اذهب.

فواصلت كلامي ضاحكا: لا تثوري يا فلورا، فانا اعلم انك غاضبة علي. والآن أنبئيني؛ أجئت لتزوريني أم لتستردي كراسة اللغة العربية؟!

فرمقتني لحظة بنظرات متأملة، ثم غمغمت بلهجة متعثرة: اعطني دفتر اللغة العربية.

فاتجهت إلى المكتب صامتا ومضيت اقلب الكتب والدفاتر وهي ترمقني بنظراتها المبهمة. وحين قدمت أليها الكراسة حدقت في وجهي مليا ثم قفزت على قدميها ثائرة وانهالت على الكراسة تمزقها بأسنانها وهي تصرخ في لهجة معذبة: إنني أكرهك. . . أكرهك. . . أكرهك.

وألقت القصاصات على الأرض في عنف ومرقت من الباب! وتهافت على المقعد مذهولا وصراخها يدوي في أذني. . . تكرهني؟! لماذا؟! وأي دافع ساقها إلى غرفتي أذن؟! ولماذا امتلكها الفزع ساعة رؤيتي؟!

وبدا سلوكها الغريب يثير في رأسي عشرات الأسئلة، وطفقت احسب له ألف حساب. والظاهر أنني إنسان من طراز خاص يشذ عن الإنسان العادي. فمع أنني أفلحت في التخلص من صحبتها، ومع أنها غابت عن أفق حياتي، كما شاءت رغبتي، إلا إنني بدأت أحس اثر تلك الليلة بالضيق والحنق من تصرفاتها الغريبة. واكتسبت حاسة جديدة لنقد سلوكها اتجاهي. لماذا تتهرب من لقائي؟! ولماذا تحاول أن تنأى عني؟! أتكرهني حقا كما أعلنت ذلك؟ يالها من طفلة مزعجة. كان المرء لا عمل له في لحياة سوى العناية بها، فإن لم يفعل، فعليه أن يتلقى كراهيتها. طفلة شاذة تثير الأعصاب بتصرفاتها السخيفة. إذ التقيت بها في ردهة المنزل فرت من أمامي كما يفر الحمل من الذئب. وان جلست إلى والديها اعتكفت في غرفتها ولم تبارحها إلا بعد أن أخلي المكان. لماذا؟! أانقلب وحشا مفترسا؟! أين تلك المودة التي كانت تغمرني بها؟! أن الحياة لا تطاق في هذا المسكن. . لا تطاق. ما الذي يشدني أليه؟! أخلت القاهرة من منازل مريحة؟! يجب أن اتركه، يجب أن أغادره إلى نزل آخر.

انتهيت إلى ذلك القرار أخيرا لكنني لم أدرك دوافعه الحقيقية حتى الآن. لماذا ضايقني ابتعاد فلورا عني مع أنني كنت راغبا فيه؟! وماذا يضيرني أن تحتجب عني عيني طفلة لا شان لي معها؟! بل لماذا دفعني ذلك إلى اعتزام الخروج مع إنني سعيت لإبعادها بنفسي؟! لا ادري بالضبط - والذي حدث بعد ذلك أن رغبتي تحققت عقب أيام قليلة، فتركت المسكن، ولكن لا إلى مسكن اخر، بل إلى إحدى المستشفيات الخاصة حيث سقطت صريع المرض.

أنفقت بضعة أيام في المستشفى لا أكاد أصحو حتى افقد وعيي وكنت أرى - كلما فتحت عيني - فلورا وأبويها إلى جانب سريري. وفي خلال أيام اشتداد المرض مررت بفترة قاتمة لا أكاد أتذكر منها سوى أخيلة باهتة يغلها ضباب كثيف. ومن بين ذلك الضباب المتكاثف يبرز زوجه فلوريا قويا واضحا بلون شاحب وعينين قلقتين وقسمات تتفجر غما واسى ولا اذكر متى حدث ذلك وفي أي ساعة من النهار أو الليل، ولكن الذي أتذكره أنني صحوت على صوت بكاء عنيف، وفتحت عيني في صعوبة فطالعتني صور أشخاص ملتفين حول سريري. لم استطع بادئ الأمر أن أميز أحدا منهم، إذ ابدوا أمام عيني كالأطياف. ثم تركزت ملامحهم شيئا فشيئا حتى تبينت فيهم الطبيب وفلورا وأبويها. لكن عيني تعلقتا بوجه واحد من وجوههم هو وجه فلورا. كانت الدموع تنحدر على خديها في غزارة وصوت نحيبها يثير في القلب اعمق الشجن. وهالني أن أراها شعلة ملتهبة من الحزن والألم، فابتسمت لها. وحينئذ حدث مالا يمكن أن يبرح ذاكرتي مدى الحياة. انطلقت تضحك في فرح جنوني وهي تحدق في وجهي كالمخبولة والدموع تنهمر من عينيها مدرارا. وتناهى ألي صياحها كأنه آت من بعيد وهي تهتف بصوت متهدج: (انه لن يموت. . . لن يموت. . . ألم ترونه كيف فتح عينيه وابتسم؟! لن يأخذه الله. . . إنه ليس شريرا. . . سيشفى بعد أيام قليلة وسأراه كل يوم. . . أليس كذلك يا ماما؟! لن يموت يا ربي. . . لن يموت). ثم ابتعد الصوت المتحشرج عن مسامعي وبهتت صورة وجه فلورا المائلة أمامي حتى لم اعد أتبين أو اسمع شيئا.

وتلك هي الذكرى الوحيدة التي ظلت واضحة في خيالي أيام الغيبوبة. ثم انقضت تلك الأيام وبدأت أثوب إلى رشدي، وما كان أسعدني بالنجاة حينما أنبئني الطبيب أنه يئس من حياتي حتى مملة ذلك اليأس على مصارحة العائلة الفرنسية بنهايتي الحتمية. وانه سعيد جدا إذ خاب ظنه أخيرا.

وانتظرت في لهفة زيارة فلورا وأبويها، فطال انتظاري حتى استبد بي القلق. فرجوت الممرضة سميرة - التي تشرف على تمريضي - أن تقوم باستجلاء الأمر. ولشد ما ذهلت حين أعلنت لي في اليوم التالي انهم اعتذروا عن زيارتي بكثرة المشاغل! واستولى علي الشعور بالاستياء. والقلق ولبثت أيام عدة أتوقع زيارتهم في شوق متدفق وأنا القي على نفسي عشرات الأسئلة الحائرة دون أن ابتكر لأحدها جوابا معقولا. ثم اخذ اكتراثي بالأمر يتضاءل يوما عن يوم اثر العلاقة الغرامية التي نشأت بيني وبين سميرة واستغرقت كل اهتمامي.

مرت الأيام بطاء كسالى وانزاحت عني سمات المرض تجاه بشائر الصحة. وكنت قد عقدت النية على مبارحة المستشفى في صباح اليوم التالي حين اقبل علي رسول من صاحب المنزل ينبئني برحيل الأسرة الفرنسية إلى فرنسا ويطلب ألي إخلاء الدار من متاعي. وللمرة الثانية اجتاحني الذهول والاستغراب، وانطلقت أسائل نفسي عن سبب هذا التصرف في حيرة وغضب.

وفي صباح اليوم التالي قصدت المنزل لأنقل متاعي إلى أحد الفنادق ريثما اعثر على مسكن آخر. صعدت إلى الدار بصحبة البواب ليساعدني في حزم الحقائب. وما كدت اجتاز الباب حتى هاجمتني وحشة قاتمة وطغت على مشاعري أحاسيس تفيض بالشوق والأسى. دخلت غرفتي وأنا أجيل النظر حولي حزينا آسفا. وبينما انصرف البواب إلى ترتيب كتبي وملابسي في الحقائب وقفت مشلول الحركة استعرض مشاهد حياتي منذ أن دخلت الدار حتى غادرتها إلى المستشفى. وفجأة وجدتني التفت إلى البواب واسأله بلهجة مرة: لماذا رحلوا يا عبده؟!

فتوقف البواب عن العمل، ونظر آلي في حزن وأجابني بلهجة كئيبة: أفلا تعلم يا أستاذ سامي؟! لقد ماتت فلورا فكره أبوها المعيشة من بعدها في مصر. . . ماتت ميتة أليمة تحت عجلات (المترو) بينما كانت تستقله صباح أحد الأيام إلى المدرسة.

وصمت لحظت ثم أردف يقول بلهجة ارتياب: لقد سمعت من البعض إنها انتحرت من اجل شاب أصيب بمرض خطير افقد الأطباء كل أمل في إنقاذ حياته وإنها لم تسقط من العربة قضاء وقدرا. . . ولكنها مجرد إشاعة كاذبة ولا شك.

وأصبت بذهول أدنى إلى التحجر وأنا استمع إلى البواب، وتبلد ذهني حتى تعذر على أن أتابع ما يقوله. وطفقت اهمس في لهجة تائهة: فلورا ماتت. . . فلورا ماتت. . . فلورا ماتت. . .!

ثم لاحت مني التفاته إلى زاوية الغرفة فلمحت الهدايا التي كنت قد قدمتها أليها في شتى المناسبات. اقتربت منها بخطى ذاهلة، وجعلت اقلبها بين يدي وخيال فلورا مائل أمامي وسمعي يتجاوب بتلك العبارة التائهة. وأصدمت يدي بصورة فوتوغرافية صغيرة، فنظرت أليها في إهمال، وإذا بي أمام صورة لي كنت قد فقدتها من أمد بعيد. . .!

وداهمني خور غريب وأنا أحدق في الصورة مشدوها، وسرى ضعف شديد في ساقي فلم يعد بوسعها حملي، واحتبس الهواء في صدري حتى شعرت بالاختناق. وفجأة تهافت على الأرض وعيناي تمتلان بالدموع!

القاهرة

شاكر خصباك