مجلة الرسالة/العدد 877/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 877/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مناظرة بين الأدب العربي والأدب الغربي:
جرت يوم الحد الماضي مناظرةفي قاعة المحاضرات بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، كان موضوعها (يجب أن يستلهم الأدب العربي الحديث الأدب الغربي الحديث أكثر مما يستلهم الأدب العربي القديم) أيد الرأي الدكتور محمد القصاص والأستاذ عبد الرحمن الخميسي والطالب غايث لطف الله والآنسة كليوباترة خليل، وعارضه الأستاذ عمر الدسوقي والأستاذ حامد داود والطالب محمود مكي والآنسة بشرى جنينة.
والموضوع - كما ترى - يقتضي أن يستلهم الأدب العربي الحديث كلاً من الأدبين العربي القديم والغربي الحديث، ولكن الخلاف على الكمية. . . فطبيعة الموضوع تفرض على كل من المتناظرين أن يقر فائدة الأدبين وحسن أثرهما في أدبنا الحديث، وليس له إلا أن يقول بالإكثار من هذا والإقلال من ذاك، فالمسألة بهذا الوضع مسألة بدهية من حيث أنه ينبغي الأخذ والاستفادة من هذا ذاك، فنستلهم مثلاً الأدب الغربي بنسبة تسعة وأربعين في المائة، أو العكس، أو تنقص هذه النسبة أو تزيد عن تلك؟
ولكن حماس المتناظرين ورغبتهم في الصيال والجولان وميل كل فريق إلى أن يظفر بتأييد رأيه، كل ذلك جعلهم يتعدون تلك الحدود الضيقة العقيم. . . وكأنهم أدركوا تفاهة المسألة وقلة خطرها من حيث تعيين القدر الذي ينبغي استلهامه من كل من الأدبين. . . وبذلك تحولت المناظرة إلى مقاتلة بين الأدب الغربي الحديث والأدب العربي القديم، فحمل كل من الجبهتين على الآخر، يثلب أدبه ويشيد بما يناصره، وقد يمتد الرشاش إلى الأشخاص، فهذا جاهل لم يطلع على الأدب العربي القديم وهذا رجعي متأخر. . . الخ
وعلى ذلك راح مؤيدو الرأي يشنون الغارة على الأدب العربي القديم، يقولون إنه أدب بعيد عن حيتنا الحاضرة وهو أدب أجوف يعتمد على فخامة اللفظ والتركيب وأدباؤه فريدون، ولم تكن فيه وحدة القصيدة. وقالت الآنسة إنه صعب خشن لا يلائم حياتنا الناعمة. . واستشهدت بأبيات لعنترة يتغزل فيها بعبلة على أن الشعر العربي شعر حسي لأن عنترة لم يعجبه في حبيبته إلا جمالها وصفاتها الحسية ولم يهتم بروحها. . وقال الأستاذ عبد الرحم الخميسي إنه أدب جهارة! وجعلت درجة الحرارة في خطبة الدكتور القصاص تميل إلى الصعود تدريجياً. . فسفه تفكير العرب والفلاسفة الغربيين. . . وارتفعت درجة الحرارة فجأة إلى أقصى حد إذ قال إن الأدب العربي جزء من التاريخ الميت ويجب أن نبحث له عن متحف من متاحف الآثار الميتة!!
وعلى ذلك أيضاً طفق معارضو الرأي يكيلون للأدب الغربي قدحاً بقدح، يقولون إنه أدب منحل لا يناسب بيئاتنا الشرقية وإنه إنما يصور حالات في تلك الأمم تختلف عن حالاتنا، وقد نشأت فيه مذاهب بظروف خاصة نتيجة لاضطراب الخواطر وقلق النفوس من أثر الحروب وغيرها، وهي مذاهب معقدة ملتوية كالرمزية والسريالية، وقد أفاض في ذلك الأستاذ عمر الدسوقي، وعرج على شعراء العرب المحدثين الذين قلدوا تلك المذاهب، وأني بأمثلة من أشعارهم وكان لقصيدة (الشاطئ الحافل) للدكتور بشر فارس مكان في هذا المجال. وجعل يبين ما في بعض هذه الأشعار من خلط وما في بعضها من سخف، كما أفاض الأستاذ الدسوقي أيضاً في عرض كثير من القصص الغربية التي رأى أنها تدافع عن النقائص والرذائل. وارتفعت درجة حماسه ضارباً على وتر الفضيلة والقومية حتى دوى له التصفيق في أرجاء المكان.
ولم يفت هؤلاء أن يردوا طعنات أولئك، التي وجهوها إلى الأدب العربي، وكذلك صنع الأولون بما وجه إلى الأدب الغربي. وكان الدكتور القصاص قد استهل كلمته بالإشارة إلى ما حدث بفرنسا على أثر هزيمتها في الحرب الماضية، إذ جعل القوم يفكرون في أسباب هزيمتهم، فلم يرجعوها إلى خطأ في السياسة أو في خطة الحرب، بل قال قائلهم إن التبعة فيما أصاب فرنسا على أساتذة السوربون والأدباء الذين لم يحسنوا توجيه الجيل، واستطرق الدكتور
من هذا القول بأن أدب العرب لا يصلح للتوجيه في هذا الزمن فيجب أن نتجه نحو أدب الغرب ونغترف من علومه وثقافاته.
فلما تكلم الأستاذ الدسوقي قال معقباً على ذلك: كيف نستلهم الأدب الفرنسي وهو الذي أدى إلى هزيمة فرنسا؟
ودافع الدسوقي عن الأدب العربي وأتى بروائع منه واستشهد بأقوال فيه لبعض المستشرقين، ومما قاله أن وحدة القصيدة كانت موجودة في كثير من القصائد في الجاهلية والإسلام على أن لكل أمة طابعها الخاص في أدبها. وقد عقب الخميسي على ما قاله الدسوقي في أدب الانحلال الأوربي فدافع عن القصص التي ذكرها الدسوقي بأنها تصور الدوافع الإنسانية وان الأخلاق شيء آخر غير الفن.
ومما يلاحظ أن اكثر المتناظرين لم يكن نطقهم العربي سليماً وخاصة الطلبة، وكانت الآنسة المؤيدة مثالاً في ذلك، وهي - نعم - من القسم الإنجليزي، ولكن ألم تسمع مرة من أحد الأساتذة أو غيرهم أسم أبي نواس الذي نطقته كما ينطقه العوام (أبو النواس) واعتقد أن هناكقدراً من تقويم الألسنة في اللغة القومية ينبغي أن يأخذ به كل متعلم مهما كان نوع تعليمه. وقد خرج الأستاذ عبد الرحمن الخميسي من هذا المأزق باللغة العامية الخالصة.
وقد طلب إلى الحاضرين - بعد إنهاء المناظرة - أن يقف منهم من يؤيد الرأي فوقفت أقلية، ولما طلب وقوف المعارضين وقف أكثر الحاضرين وكان حماس الدسوقي في الدفاع عن الفضيلة والقومية لا يزال سائداً عليهم إذ كان أخذ الرأي عقب كلمته. ولم أقم أنا مع المؤيدين ولا مع المعارضين لأني أرى أن نأخذ من هذا كما نأخذ من ذاك. . ولست أدري لماذا أهملوا هذا الجانب! ولعل عذرهم في ذلك أنهم لم يجعلوه طرفاً في المناظرة، ولكن لماذا ما دامت المسألة مسألة تحديد القدر؟ أليس من حقي مثلاً، وقد يكون لي أمثال في الحاضرين، أن نجعل النسبة 50 في المائة لكل من الأدبين!!
ثم لماذا قصر الأمر على الأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث؟ لماذا لا نأخذ ونستفيد من الأدب الغربي القديم، ومن الأدب الهندي ومن الأدب الصيني ومن كل أدب في هذه الدنيا قديماً وحديثاً؟ أنا لا اعرف للثقافة والمعرفة جداً، والأديب العصري يجب أن يأخذ من كل شيء أحسنه، ولا يقف عقله على جديد لأنه جديد ولا يغلقه دون القديم لأنه قديم.
ومما يلاحظ أن المناظرة لم يكن لها نتيجة، وهذا من طبيعة الموضوع، فهي أشبه بما كانوا يقولونه قديماً في السيف والقلم وما يهيئه معلمو الإنشاء في المدارس من الصراع (الفكري) بين الطيارة والسيارة، ولا شك أن كلاً من السيف والقلم والطيارة والسيارة لازم مطلوب في موضعه، وكذلك الأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث. فلم يكن يليق بالجامعيين أن يستهلكوا جهدهم على لك النحو مضحين بما عرف عنهم من البحث (المنهجي) عن حقائق الأشياء.
مسرحية (أصدقاؤنا الألداء)
افتتحت الفرقة المصرية موسمها الثاني على سرح الأوبرا الملكية بهذه المسرحية، بعد انتهاء الموسم الأجنبي بهذا المسرح، كتبها الأستاذ فتوح نشاطي ويقال إنه أقتبسها، وتبدو آثار الأصل بها من حيث دلالة الحوادث على البيئة الغربية، كما سأبين بعد، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، وقام بأهم الأدوار فيها الأساتذة حسين رياض واحمد علام عمر الجابري وفؤاد شفيق والسيدة زينب صدقي وروحية خالد ونعيمة وصفي.
والقصة تتلخص في أن صالح بك برهوم (حسن رياض)
رجل مسماح يعيش في ضيعته بمشتهر، يشغل وقته برعاية مزارعه وحديقة قصره، واستقبال ضيوفه من الأصدقاء الذين يكثر منهم ويغتبط بوفودهم عليه ويسرف في إكرامهم والإغداق عليهم، وهم أنماط مختلفة، فهذا زميل الدراسة آتي وزوجته إلى ضيافة رفيق الصبا، وهذا صديق عزيز جاء هو وولده كذلك، وذاك ضيف في طرابلس ينزل على الرحب والسعة دون سابق معرفة. الخ
وفي البيت امرأتان هما فوزية (زينب صدقي) زوجة صالح بك، وفاتن (روحية خالد) ابنته من زوجة متوفاة، وفيه أيضا الشاب خورشيد (عمر الحريري) ابن عم الزوجة، وهو شاب وسيم فاسد الخلق، يستغل كرم الزوج وطيبته ويحاول استمالة الزوجة وإغراءها، وهو يتمارض ليطيل أقامته، ويستدعي الدكتور عزمي (احمد علام) لعلاجه، فيظهر أن بينهما معرفة قديمة، وتتعلق الفتاة فاتن بالدكتور عزمي. وتقع حوادث يعمل فيها الأصدقاء الضيوف على تنغيص حياة صديقهم المضيف وتكدير صفوه بمختلف الوسائل، ويرقب الدكتور الحالة وهو ساخط عليهم، كما يراقب العلاقة بين الزوجة وابن عمها، ويتخذ من التدابير ما يفسد به أمرهم جميعا وينقذ الزوجة من نوايا الشاب الاثيم، ويكشف رياء الأصدقاء، فيثبت لصالح بك، أن ما يدعيه أولئك (الأصدقاء الألداء) من الإخلاص والود والوفاء لا حقيقة له، وإن الدكتور عزمي الذي لا يكاد يذكر كلمة الصداقة هو الصديق المخلص حقا الجدير بان يزوجه ابنته.
وتمتاز القصة بأنها محبوكة ومتسلسلة في منطق مستقيم وتكاد تكون عديمة الفجوات. وهي كما ترى قصة اجتماعية، تعالج هذا الموضوع، موضوع الصداقة والأصدقاء، من حيث كثرة المرائين وقلة المخلصين بل ندرتهم، ولكنك تشعر وأنت تشاهدها أن الموضوع يتطلب علاجا ابرع مما بذل فيه، كما تشعر في عرض التفصيلات بالجدب في الالتفاتات الجزئية التي تعتبر مثل هذه الرواية مجالا خصبا لها، وذلك ناشئ - فيما يبدو لي - من أن الكاتب غير منفعل بالبيئة التي عرض لها، وهو أن اظهر لنا بعض الشخصيات ذات الملامح المصرية المعروفة ألا أن الصورة الأصلية، وهي صورة صالح بك أسرته المنقطعين الريف المحبين له السعداء فيه، اقرب إلى صورة الريف في أوربا
والمسرحية فكاهية، وهي كذلك بجهود الممثلين وحركاتهم أكثر مما هي بالحوار، فأنت تحس في المواقف المختلفة بالمادة (الخام) التي لم يصنع منها ما تصلح له من الفكاهة، فالحوار ضعيف فاتر من هذه الناحية وأن كان الممثلون يبثون فيه شيئا من الحرارة، وكان يخيل إلى أن الممثل الظريف فؤاد شفيق يعاني ضيق الحيز الذي وضع فيه فيحاول أن يوسعه ولكنه ينطبق عليه.
أما إخراج الرواية فهو الذي كسا عظمها لحما وجعل لها روحا، من حيث تنسيق المناظر وتوزيع الأضواء وتحريك الممثلين والممثلات، فقد بدت المناظر موافقة رائعة معبرة، فالمشهد يرسل بصره إلى المسرح في المشهد الأول حيث بهو الاستقبال في القصر ومن ورائه حديقة غناء، فلا يخالجه شك في حقيقتها وما هي بطبيعة الحال إلى رسوم وأضواء، ومن المناظر العجيبة منظر الشرفة تبدو منها حمرة الشفق تارة ويرسل أليها القمر أشعته تارة أخرى، والإبداع الفني في تهيئة المناظر للموقف وملاءمته لأحوال من يتحركون فيه والاستعانة به على التعبير وإبراز المقصود منه. وللأستاذ زكي طليمات طريقة لطيفة في تقديم شخصيات ثانوية صغيرة ينعكس عليها جو الرواية، فالجو هنا كله رياء ونفاق، وهذا الغلام (رضوان) الذي يقول أبوه أنه ملاك طاهر والذي يغضي ويطرق أمام السيدات، وهو يسير أيضا في ركاب الرياء، بل يجسمه، إذ هو لا يلبث أن يسطو على الخادمة اللعوب ويهرب معها.
وقد أدى الممثلون والممثلات أدوارهم بجد وإخلاص، ووفق أكثرهم، فكان حسين رياض بارعا في تصوير الشخصية التي تدور عليها المسرحية وقد اندمج فيها كل الاندماج. وكان احمد علام موفقا في تمثيل الرجل الحازم الحذر كما كان ظريفا في شاراته ونبرات صوته ذات المعنى الذي يلوح فيه، ولكنه كان فاترا أمام الفتاة التي تحبه ويحبها. أما عمر الحريري، وهو من خريجي معهد التمثيل، فقد اثبت إنه دم جديد نابض. وكانت زينب صدقي طبيعية مجيدة في تمثيلها وان كان الدور غير ملائم لها، وهو دور امرأة تغري شابا وتدفعه إلى محاولة اقتناصها، وقد أمكن أن تبدو رشيقة خفيفة الحركة ولكن الصوت وظلال الشخصية كانت بعيدة عما يتطلبه الدور من بعض الصبا والشباب.
عباس خضر