مجلة الرسالة/العدد 875/البحث عن المطلق
مجلة الرسالة/العدد 875/البحث عن المطلق
للأستاذ صبحي شفيق
بديهي أن كل فنان يعتمد في تصوير مجالاته الفنية - بما تستنفذه وتبعثه من تجارب - على رمز من الرموز. فالفظ، واللون، والنغم، كلها وسائل تهدف إلى المعنى الحائش خلفها، فليست هي غايات في حد ذاتها، لأنها تضمحل في ذات الوقت الذي يصل أثرها إلى الآخرين، تتلاشى تماما من عالم الحس، بعد أن خلقت في وجداننا صوراً مترابطة تمام الترابط، متجسمة تمام التجسم، هي عالم الفنان الذي نشاركه هذه المشاركة الوجدانية.
وحينما نعجب بهذا الأثر أو ذاك، لا نفطن إطلاقاً إلى مشكل نقدي يمكن خلف حكمنا العام هذا. إننا نعكس الآثار الفنية على أنفسنا، وقد نسينا هذا الذي خلقها: أي طريق قطعها من اجل الوصول إلى هذه الصورة الخالصة التي نتملاها في لحظات؟. . أي إحساس ملك كيانه حتى تمت هذه المشاركة لوجدانية؟. . ولو حاولنا رد هذا التساؤل إلى أصوله في النفس الفنانة، لأضفنا الكثير إلى ذواتنا المتذوقة، ولأخرجناها من موقعه الحكم الذاتي، والنقد التأثري، إلى مجالات أخرى أهمها تحديد قيمة الأثر الفني مجردا من الأهواء: فكيف يكون ذلك؟. .
لنرجع إلى فناننا ذاته. إننا نجده مهموماً، وهمه لا ينقطع، من أجل الوصول إلى فن خالص. يريد أن يكون فناننا قبل كل شئ، وأثره يريده كذلك فناً قبل كل شئ، ولابد من طريق يسلكه. لابد من اتجاه يتحدد امامه، وكلما جال ببصره في الماضي وجده لا يعطيه الكثير، وكلما اتجه إلى المستقبل، وجد الناس أخلاطا متمايزة، كل منهم يريده فناناً على هواه الخاص، يعطيه ما يوائم مزاجه وحده دون سواه فكيف يعبر وهذا الضجيج يحتاج كل ملكاته ويسلمه إلى قلق واضطراب شديدين؟. .
وفنانا لا يجهل ما يراد منه إنه يعرف أن عليه توصيل ما يضطرب في دحيلته. . وهذا حقاً مشكل هين حي نتأمله من الخارج، ولكنه كل شئ لدى الفنان. ومع توافر وسائل الأداء، ونضوج الموضوع، فإنه يتردد، يتردد كثيراً فإن الصورة النهائية التي تنهي إليها مجالاته العاتية، نسميها في يسر: أثراً فنيا. . ليست إلا هذا الشيء الذي يحنو عليه بكل ما يجرفه من مشاعر، يريدها شيئاً كاملا لا تشوبه شائبة تنجم عن نقص هنا، أو عثرة هناك، فهو في كلمة واحدة، يريد أن يصل إلى فن خالص. .
وإزاء هذه الرغبة التي يعرفها كل فنان، يترسب في طواياه شعور بالواجب، عليه أن يكون (أميناً) في التقاط كل الانفعالية لحركات وجدانه المحلل هذا الذي تصل إليه صور المدركات الحسية، وصور كل التجارب التي ينفعل لها، مستمدة قيمتها لا مما تطبعه في الدفعة الواحدة، ولكن من هذه التجزئة التي تحدد الأجزاء متتابعة، وتربط الصور ربطاً متسقاً، تبرز التجربة وتجسمها بما يكتنفها من نتوء وسطوح ومنحنيات.
وهنا يحدث الصراع بين موضوعين متعارضين: فلو ساير وجدانه وحده لعقد هذا العنصر الآخر الكامن في نفسه، وهو الذي سميناه واجب الفنان، فمسئوليته عن الأثر تجعله يقف إزاء طواياه المستترة وعالمه الآخر: هل كل شئ يقال؟. . هل يعبر عن هذا الشكل الجائش؟. . ولو عبر عن هذا فهل يصل إلى الفن الخالص الذي يريد؟. .
وفناننا لم يصل إلى موضع التقاء بين خطين متعارضين: بين الفن الخالص والمسئولية. . هو متردد بعض الشيء لأنه لم يكتشف طريقه بعد وها هو ذا يجد كل هذا التوتر النفسي قد تبلور في رغبة أخرى غامضة كحلم، ولكنه اخطر من كل ما مر بعوامله المتشابكة الكثيرة الاهتزاز: هذه الرغبة: ما هي؟. وكيف يلقى أمانيه فيه؟. لقد سمع النقاد يرددون: أتخذ لك طابعاً. غلف أثرك بغلاف شكلي يشتمل على الشكل والجزء في آن. أبرزه في قالب يتوفر فيه عنصر التناسق!. . . وهنا يواتي فنانا الحائر هذا النوع من الارتياح يعرفه السائر في الطريق المجهول حينما يلمح فجأة الضوء الخافت يكشف له الخطوط الممتدة مرمى البصر ينبثق منها الأمل القريب.
ولكن: أثره وجد آماله في هذا؟.
لقد أراحه هذا في الناحية واحدة، وكان قاصراً عليه دون مناحيه كفنان، هي ناحية الشكل، ناحية الظل البادي في هذه الزاوية، والخافت المتدرج في الأخرى، والنور الملقى بضوئه في سائر الأجزاء. أما الداخل؟؟. أما هي الكيان نفسه،. أما في المضمون الفني. فما زال إحساسه قلقاً، ولكن بهارج الزينات التي يضيفه الطابع على ما حوله، قد أنسته حيرته بعض الشيء.
وما دام يتحسس الشكل، فيده لم توضع إلا على الأبعاد الوهمية للفن دون الداخل. تلك التي يحاول بعض النقاد تحديد الأثر بها. وإخضاعه للتجزئة على هذا القياس، كما يصل إلى النمط المتسق الذي يخدع المتذوق تمام الخديعة فهم يدركون حقيقة كامنة في الفعل المليء بالقوى، الفائض بالطاقات الحيوانية، هذا الفعل الذي نسميه مشاركة الوجدان. وهذه الحقيقة المرتبطة بكل هذا، هي الراحة النفسية التي يحسها الآخرون. فنجدهم يرددون في لهث متقطع: أعطوه ما يرتاح إليه نحن أيضاً.
ولا تحدث الراحة النفسية إلا إزاء ما تطبعه فينا الأشياء من شعور بالتحرر، بأنها نازعة أبداً إلى الصورة النقية. قف قليلا أمام منزل سقطت واجهته، وبدا عارياً من كل أتساق. إنك تجده يبدو كخط متكسر، أو كجملة خطوط متكسرة، فمجالاتك البصرية لا تجول في أبعاد فسيحة متسقة. خط يعترضك هنا. زوايا تصدم حرية بصرك هناك. فتجد نفسك قد شعرة بنوع من القلق، نجد نفسك لا ترتاح إلى انطباق الأفق والأرض في ساعات المغيب. وما التحرر الذي نستشعره إلا في كون ما نراه هو هذا الشيء الذي لا يوقفنا قليلا لو عورة هنا. وخطوط هشة هناك إننا نميل للمنحنيات بفطرتنا، نميل إلى الأشياء التي تغلف الجوهر، وكل ما يتفرع منه بغلاف ليس فيه من بروز شوهاء. . . أما الخطوط المتكسرة، فهي تقطع تجاوبنا النفسي، وتعاطفنا نحوه. إننا لا ننتقل معها بمشاعرنا في انسياب ابداً، ولا تحركنا معها مفسحة مجالاتنا النفسية، ولا تجعلنا نستشعر الوحدة في هذا الانحدار الحر. بغير عائق وعلى هذا الأساس تقوم العلائق بيننا وبين شتى الفنون.
وهنا تحدث الخديعة، إذ تختلط المعطيات الحس والوجدان لدى الفنان والمتذوق على حد سواء، فلا تفرقة بين (شكل) و (مضمون)، فهما يحسبان الاثنين أشياء تستوي لدى المتأمل والمعبر بغير افتئات، كلاهما مطلب من مطالب الراحة الوجدانية، وكلاهما تعاطف بلغ أوجه الاتساق.
وحقيقة أننا نجد في هذه الفنون الشكلية الألوان المنسحبة من سطح إلى سطح، في وحدة وترابط تثير انفعالاتنا. ونجد كذلك الأصوات في إيقاعها الرتيب تجرف مشاعرنا، وكذلك الألفاظ في ترادفها وتتابعها تحدث هذا النوع من التعاطف الجمالي ' ولكن كلما نفذنا إلى كنه المسألة، وجدنا كل هذا طلاء. طلاء مروع أشبه بالغشاوة تحجب أعيننا، وتتركنا في حال من تداعي الصور لذيذ، فنحن لا نخرج من كل هذا إلا بالخدر، بالمسكن الوقتي. أما التيار في عمقه وقوته فلم يصلنا بعد، لأن فناننا كان حائراً في استكشاف المنبع والأصل، كان يضرب في طريق يحيطها الوهم الرومانتي إلى حد الغثيان، وكان كل ما يريده عالق بالشكليات.
ومن هذه لخديعة وجدت الدعوات الكثيرة التي أنهت إلى قالب من قوالب فلسفة الفن، فالفن عند البعض لعب راق، وعند البعض متعة لاذة، وعند البعض حدس غيبوبي، فيكل هذا يخفت المنطق وتستطيل العبارات الشاعرية، ويدور الإنسان مع نفسه في تأمل واستكشاف لما فيها، في تداع نرجسي.
وما كان هذا التضارب في الآراء، إلا حيرة الكائن الحي في فهم مضمون نشاطه. إن هذا الخدر المنطوي في اللاشعور، يريد أن يخرج إلى مجالات الإدراك، ولكنه يتعثر دائماً، ويحدث كل هذا الخلط في تحديد القيم.
لقد كانوا جميعًا، نقاداً وفنانين أشبه براكب السيارة يحاول الوصول إلى بؤرة المرآة التي أمامه، يريد اللحاق بصورته المتجمعة فيها، وحواسه تخدعه، فتهيأ له الحركة الوهمية، بينما المسافة ثابتة بينهما، وكل الخلاف في الزمن القياسي.
كانوا جميعاً غارقين في بؤرة الأبعاد الشكلية، في الحين الذي يحل فيه المشكل يتدرج النظر بين البؤرة ومكان الجالس، بين (الشكل) و (لجوهر)، هذا الذي لا يمكننا أن نمسكه ونضعه في أنبوبة اختبار، ولكن نستشعره في المضمون الخالص.
فكيف نصل إلى هذا! أين نجده؟
إننا نجد الشيء دائماً في طوية موضوعه، ولكننا ننسى هذه الحقيقة الكبيرة، فنعش في الخارج، غافلين عن ملكاتنا التي تستطيع الملاحظة والربط والاستدلال.
وموضوعنا هو كيان النشاط الفني، إنه يمنحنا ما يفسح الطريق على مداها، وفي ذات الفنان الخالقة نلقي مادة بحثنا، فكل ما نريده في الداخل، وفي الداخل دائماً.
وما دمنا قد بعدنا عن الأبعاد الخارجية، فإنا نلقي الذات الخالقة، من - ذات الفنان - كل منافذها متفتحة لتأخذ وتعطي. ولا بد من منظم قوي لنشاطها، فليس الأخذ والعطاء هنا عملية حسابية في برصة الأوراق المالية. إنه عالم النفس الإنسانية. وكل منظم قوي نريده، نقصد به حل مشكلة واحدة، هي قلقلة الاضطراب السائد في دخيلة الفنان، هذا الاضطراب الذي يرجع إلى حالة التوتر بين (واجب) و (تعبير) في الأنة الواحدة، في الزمن الذي يتسرب فيه النشاط ليتكامل المضمون.
وإذا وصلنا إلى هذا المنظم القوي وامتلأت نفس الفنان به، لا يحدث القلق ولا المنحى الشكلي: وما هو المنظم إذا لم يكن الوصول إلى الموضع الفاصل بين حدي التوتر، بين تحديد قيمة (التعبير) وتحديد قيمة (المسؤولية)، إلى مركز حركتين متعارضتين، ولكنها متشابكتان؟.
كيف نصل إليه؟ كيف؟
نلاحظ أن أكثر الفنانين يعطوننا فناً مريضاً. فيه صرخات جوفاء، وفيه عويل ونحيب. إنه أشبه بجنازة طويلة لا ينتهي فيه البكاء. وهذا في جملته ليس عالمك أنت ولا عالمي أنا، ولا عالم سائر البشر الموجودين، إنه حالة تشبه بالإغماء، أشياء لا يفهمها إلا خالقها، وهو يعبر عنها تعبيراً فيه الكثير من حرق البخور، والترهب، ومناجاة الأرواح الخفية. إنها حالة فيها التداعي إلى حد نفاذ (الوعي الفني) الذي يستحيل الوجدان به شيئاً محللا، وتتم به عملية الروابط وتتحدد بالوضوح إذا ما توافر لديه.
وتتم به عملية الربط وتتحدد به عملية التصور، ويتميز الفن
وما السبب في هذا؟؟. . .
ليس من سبب إلا أن فناننا هذا، صاحب الفن المريض، كان يعيش وحده. ليست له عيون كالعدسة ترقب وتلتقط وتعكس، وتعطي كل ما تستنفذه إلى مدركات حسية، ترتبط برباط الفن،
لا، لم يكن هذا طابع المسألة، وإنما فناننا مصاب بالنرجسية الراقية، وحقيقة إنه لا يعجب بنفسه، ولا يتأمل محاسنه، ولكنه دائر مع نفسه في صورة أخرى منعكسة على أثر فني يريد إخراجه. هو يجول مع هذه المشاعر النرجسية. متأملا نفسه، مطلا عليها من عالمه وحده. ولنفس السبب نجد أكثر الآثار الفنية يبدو كأنها آتية إلينا من عالم غريب، ليس عالمنا. إننا نحس في القصص أو الأشعار التي تدخل في هذا النطاق، بأن ثقل أوراق كتبها يعيدنا إلى عالم المحسوسات حولنا بين الفنية والفنية، وفي أحيان كثيرة يصرخ البعض: لا نستطيع أن نستمر في قراءة هذا. إذ هذه اللوحة غريبة عني، أو هذه القطعة الموسيقية لا تخاطبني.
ولماذا يقول هذا؟ إن الفن تعبير، وكل تعبير يعني الوضوح، فكل الناس تدور مع نفسها، ولكن الفنان - كما أسلفت - هو الذي يخرج هذه العوالم المغلقة على ذواتها، إلى الخارج الموضوعي.
ولا يمكن أن يصل إلى هذا الموضع إلا إذا سقطت عنه أقنعة النرجسية. . . لأن الرابط بين كل الحواس، يبدو واضحاً في حد ذاته لديه. إنه يعطيه التوازن في الربط، والتناسب في معطيات الوجدان، والتعاطف بينه وبين موضوعه، لأنه يحس حينئذ بأن ما يخرجه هو مسؤول عنه، إنه مولوده البكر يصرخ متلمساً موضع حنان.
ولكن: كيف تسقط النرجسية الراقية هذه؟؟
لدينا حكمة قديمة، ولكنها متجددة نابضة على مر القرون، حكمة قالها حكيم اليونان: اعرف نفسك. . . وإذا حصرنا حكمته في دائرة الفن، نجد المقصود بها أن يتجرد الفنان من خيالاته وأوهامه، يحلل كل قضاياه، يعرف كيف ينبع التيار النفسي أو من أين ينبع
ومتى عرف ذلك استطاع أن يضع نفسه موضع الآخرين، فتصبح ذاته - وقد تحللت - هي الذات التي تفهم تجارب النوع الإنساني كله.
فالفن في أبسط تعاريفه، تجربة وانفعال في مضمون واحد، وإزاء هذا لا بد أن نكون صادقين حينما نحس، وحينما نتأمل، وحينما نعبر، هذا الصدق الذي لا يصور الواقع تصويراً فوتوغرافيا، ولكنه يبدو في الإحساس بالواقع - مجردا من كل نفاق: وهل كان النفاق في عالم الفن إلا العجز الناجم عن غموض الموضوع لدى الفنان نفسه؟ هل كل سوى العجز الذي يعني أنه لا يفهم نفسه ولا يفهم موضوعه، ولا يمكن أن يكون صادقاً بغير فهم لهذين.
وهذا هو الصدق الفني.
وبوصولنا إليه نجد أنفسنا إزاء النتيجة الأخيرة في هذا الموضوع المتشابك: فالتعبير الصادق، يدفع بجزئيات الموضوع في تتابع صادق، ومتى شاركنا الفنان في فنه الصادق هذا نحس بالراحة النفسية بغير خديعة.
إن الفن هنا هو عالمنا. إننا ننتقل مع الموضوع في انسياب دائم، لا يواتيه تكسر أو خطوط شائهة، بينما كنا لا نحس الراحة النفسية في (الفن النرجسي)، لأننا نصدم بالنفاق في أكثر المواضع. كنا نصدم بأشياء غريبة عنا، أشياء لا نفهمها على نحو من الأنحاء.
وما دام هذا الفن عالمنا، فهو هذا الشيء المجرد من العوائق، هذا هو الشيء الحر، هو هذا الشيء الذي يحدث الراحة النفسية الصادقة، هو هذا الجميل، بل هو في كلمة واحدة: المطلق!!. . .
صبحي شفيق