مجلة الرسالة/العدد 874/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 874/القَصَصُ

ملاحظات: حديقة الذكرى Menuet هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 874 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 3 أبريل 1950



حديقة الذكرى

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

للأستاذ زكريا أحمد قليبو

قال جون بربدللي: لقد خانني الحظ قليلاً.

قضيت زمناً طويلاً في أيام العزوبة شاهدت فيها حرباً شعواء استطعت خلالها أن أكون واسع الخطى فوق أجساد الموتى دون شفقة ولا رحمة، وذلك دأب الطبيعة البهيمية، فقد لمعت حقائق جلية وآلام غامضة وخيانة خفية كانت سبباً في إثارة هذا العالم وبلبلة أفكاره حيث فتح هذا الباب السري على مصراعيه لنقاسي فيه ما قد قدر أن يكون. إنه لأمر جلل وخطب مدلهم وداء عضال أخذ يزداد تعمقاً وتشبثاً فكأننا نستحق هذا الجزاء فلا وزر من لسع هذا الشوك وقد ازداد التشبث واضطرمت النيران ووضعت الحرب أوزارها مما جعلنا نهذي كهذيان الممسوس، وصارت الأرواح تحوم فوق الأجساد تئن وتتألم، فساد الحزن البلاد وكدنا خلاله أن نفقد وعينا وإحساسنا لولا أن رضنا قلوبنا على مقاومة هذا التيار الجارف الخطير وتحطيمه.

أجل، لقد نجحت تلك المقاومة، وإنها لصورة باهرة من صور الحياة.

ويجول في خاطري شيئان يؤثران في إحساسي العميق لولا أن العاطفة قد تخفف عني شيئاً من هذا التهيج والانفعال السريع، وسأسرد لك شيئاً واحداً من هذين، وهو حادث خيالي قد انطبع في مخيلتي وطالما يعاودني كأنه حصل لي بالأمس.

أنني أتجاوز الخمسين من العمر ولقد كنت يومئذ شاباً في ريعان الشباب ينتابني شيء من الأسى والأرق وكثير من أحلام الشباب التي كادت تذهب مع الرياح.

لقد شغلني ملهى كان يتألق بغاداته الحسان حيث كنت كثير التردد عليه.

وهذه الحياة على ما يكتنفها من غموض حافلة بالجمال وأي جمال. الجمال الذي لا يسير على أسلوب واحد، بل الذي يتغير باستمرار.

وفي يوم من الأيام نهضت باكراً وأخذت أتجول في حديقة الأطفال في لوزيمبرغ، كانت تلك الحديقة جداً جميلة على رغم تقادم عهدها، يكتنفها سور مزركش بديع التركيب يتوسطها صفان منفصلان على خط واحد من الأشجار التي شذبت أوراقها بانتظام وتحف بها الأزهار على أنواعها المختلفة، تلك الأزهار التي تفتقت أكمامها كأنها تبتسم للحياة، فحياها الندى بقطرات انتثرت عليها كأنها الماس لمعاناً، فيالها من حديقة غناء يطيب التنزه فيها والجلوس تحت ظلال أفنانها، وكان أحد أركانها يغص بخلايا النحل المصنوعة من القش والتي تنفصل عن بعضها بمسافات متباينة حيث تنقذ الشمس من ثقوبها الصغيرة ويعطر أريجها جميع أرجاء الحديقة، والنحل تحلق فوق تلك الخلايا ولها دوي مستمر، وعمالها يخضعون لأمر سيدتهم مسالمين في أعمالهم، وذلك مثل أعلى في منهاج الحياة.

ولشد ما دهشت لمنظر الحديقة الخلاب فصرت أختلف إليها في أغلب الأحايين وخصوصاً في الصباح، وأجلس حيث يطيب لي الجلوس أطالع بعض الكتب، فتغمرني النشوة وتدور في رأسي الأماني الحلوة التي يهفو لها قلبي الظامئ إلى ري من طمأنينة، فأرى خلالها الوجدان اليقظ والانفعالات النفسية الجياشة بالعواطف السامية والمثل العليا، وبينما أنا غارق في تلك الأحلام إذ رمقت خيالاً يقترب من مدخل الحديقة فأدركت بأنني لست الرجل الوحيد الذي يتردد إليها، فنهضت من مكاني لأتحقق من هذا الخيال وإذا به رجل مسن ينتعل حذاء فضي اللون ويرتدي لباساً أحمر ضارباً إلى الصفرة قليلاً، وعلى رأسه قبعة من الصوف يبرز منها زغب كالريش، هزيل الجسم مقطب الوجه تظهر عليه إمارات الكبر، وعيناه متوقدتان كأنهما تنظران بحذر شديد، وبيده عصا مزخرفة مقبضها من ذهب تدل على أنها تذكار قديم، فاسترعى انتباهي ذلك المنظر، وبدا السرور على محياي، فاسترقت الخطى خلف جدار تغطيه أوراق من الشجر، وأخذت أراقبه عن كثب.

وحدث في صباح يوم من الأيام أن التقينا في المكان نفسه، فقبعت تحت شجرة متستراً بأوراقها، وقد اعتقد في نفسه أنه الوحيد في هذا المكان، فبدأ يشير إشارات واحدة تلو الأخرى ثم عن أسرار متعارفة، وأعقبها انحناء وقفز إلى الأمام قليلاً، ثم عاد إلى مكانه محتفظاً بمركزه، وأخذ يترنح كأنه وريقة غصن ينفخها النسيم، فدهشت من هذا الرقص الشاذ الهزلي، ثم أعقبها بحركات قوية فوق طاقة جسمه الهزيل كأنه ألعوبة من الورق تطيرها الرياح أنى تشاء، لا تستقر على أية حالة. فبقيت في مكاني ذاهلاً من هذا الفصل المضحك أسائل نفسي عمن فقد وعيه منا أهو أم أنا. . .

وسرعان ما توقف عن الرقص وتقدم وانحنى في التحية كأنه أحد الممثلين البارعين فوق المسرح، ثم ارتد خطوات إلى الوزراء وقد ارتسمت على محياه ابتسامات تعبر عن قلبه الساذج، وأشار بيده نحو صفي الأشجار الجميلة.

وبعد ذلك استأنف خطاه باهتمام. ومنذ ذلك اليوم لم أتخلف عن هذه الحديقة قط لأشاهد تمثيله العجيب حيث كان لا ينقطع عن تمرينه الخاص صباح كل يوم، وقد حفزتني الرغبة للتعارف به، فاندفعت إليه بالتحية قائلاً أنه ليوم سعيد يا سيدي، فرد علي التحية قائلاً أجل أنه ليوم سعيد حقاً، ومنذ تلك اللحظة أصبحنا صديقين وفيين، وعرفت قصته فقد كان الراقص الأول في الأوبرا منذ عهد لويس الخامس عشر؛ وعصاه الجميلة كانت هبة من الكونت دي كلير يمونت، وكان عندما يتحدث عن الرقص تغمره النشوة والفرح.

وذات يوم أسر لي حاجة في نفسه، قال - لقد تزوجت لاكاستريس وسأحضرها معي كي تراها إذا رغبت في ذلك، فهي لا تأتي مبكرة إلى هذا المكان، وهذه الحديقة التي نتمتع برؤيتها هي مبعث أمانينا ووحي ذكرياتنا، وهي حديقة بعيدة العهد قل أن تشابهها حديقة أخرى.

وكثيراً ما كنت أتردد وزوجي إلى ذلك المكان في وقت الظهيرة يومياً. وفي يوم من الأيام نهضت باكراً، وأخذت أتجول من مكان إلى آخر ومن شارع إلى شارع، إلى أن حان وقت الظهيرة، فاستأنفت العودة إلى الحديقة المعهودة حيث الجو ثمل حافل بالرقص والسرور فرأيت الحبيبين العاشقين، امرأة مسنة ترتدي ثياباً سوداء، وصديقي المحب الذي كان له اليد الطولي في ذلك الاحتفال المهيب. وكانت تلك الراقصة لاكاستريس حيث كانت حاذقة بفن الرقص، فهي عشيقة الملك ومحظية الأمير.

وما إن انتهى ذلك الاحتفال اتخذنا مقعداً فوق غصن شجرة جميلة، وكان الفصل ربيعاً. لقد هب النسيم على الغصون مشبعاً بروائح الزهور المعطرة، وأرسلت الشمس أشعتها الذهبية لتحيي تلك الزهور، وقد انعكست أشعتها فوق ما يظللنا من أوراق الشجرة نافذة من خلالها إلى دوائر صغيرة، بينما ثوب لاكاستريس الأسود قد تحول إلى بريق شديد حيث الجو هادئ والحديقة خالية وصوت العربات يسمع باستمرار.

قلت للراقص الأول:

ألا توضح لي شيئاً عن هذا الاحتفال؟

فقال: - الاحتفال هو ملكة الرقص ورقص الملكات، أما تعلم أن الرقص قد فقد بهاءه وجماله منذ ذلك الحين. . . وصار يتمتم بعبارات غامضة لم أفهم شيئاً منها. وقد اضطرب في وضعه، ونزل عن الغصن وسارت أمامه عشيقته لاكاستريس، فحدقت ببصري إليهما، وأنا مضطرب النهى فاقد الإحساس والشعور، فاعتراني الحزن لمنظر ذلك الشبح المحزن، وسبحت في فكر عميق.

فاستمرا واقفين لحظات، وقد أتما دورة الرقص، وأخيراً ابتسما ابتسامتهما المعروفة، وتعانقا عناقاً حاراً، وتنهدا تنهدات عميقة، ثم فارقتهما.

وغادرت المدينة بعد ثلاثة أيام، ولم أعد أراهما، فرجعت إلى باريس بعد سنين ورأيت الحديقة وقد خيم عليها الذبول، وساءلت نفسي عن حالة هذين الزوجين الحبيبين وما كان من أمرهما بعد ذبول تلك الحديقة الغناء، هل توفيا أم لا يزالان على قيد الحياة، وهل يرقصان في مكانهما المعهود؟. . .

لقد عاودتني تلك الذكرى، واستقرت جروحها في فؤادي، وإني لأرى فيها أغواراً عميقة لمصابيح الروح التي تعبر عن خلجات نفسي، عرفت الحياة وآمنت بأنها متاع الغرور، وكيف!. . .

لا أستطيع القول، ستجده مضحكاً جداً بلا ريب. .

زكريا أحمد قليبو

مدرس ومدير مدرسة الحكمة بفلسطين