مجلة الرسالة/العدد 874/الشعر المصري في مائة عام:
مجلة الرسالة/العدد 874/الشعر المصري في مائة عام:
علي الليثي
للأستاذ محمد سيد كيلاني
1822 - 1896
- 1 -
ولد الشيخ علي الليثي بمدينة القاهرة. وقد نسب إلى الإمام الليث لأنه كان يقيم في مطلع حياته في ضريحه.
التحق الليثي بالأزهر وظل مشتغلاً بطلب العلم حتى وفد على مصر الشيخ السنوسي الكبير قاصداً أداء فريضة الحج فاتصل به وأخذ عنه الطريق وحج معه. ولما عاد إلى مصر لم يفارقه بل سافر معه إلى جنبوب، وأقام هناك مدة يطلب العلم. ثم فارقه وعاد إلى مصر واتصل بأم عباس باشا الأول فجعلته شيخاً على مجلس دلائل الخيرات عندها ثم اتصل أيضاً بالأمير أحمد باشا رفعت بن إبراهيم باشا الكبير وشقيق الخديوي إسماعيل فاعتقد فيه وأطلعه على خزانة كتب عديدة.
وقد اتهم بالاشتغال بفنون السحر والشعوذة والزايرجة والإخبار عن الغيب والكشف عن الطالع وغير ذلك مما هو مشهور عن المغاربة. فنفي إلى السودان في عهد سعيد الذي أمر بجمع كل من يأكلون أموال الناس بمثل هذه الخزعبلات وإبعادهم إلى السودان. فبقي هناك مدة من الزمن ثم عفي عنه فرجع إلى مصر.
والظاهر أنه كان قد عرف الخديوي إسماعيل حينما كان يتردد على منزل أخيه الأمير أحمد رفعت وذلك في عهد سعيد. فلما تولى هذا الخديوي قرب الليثي إليه وجعله هو والشيخ علي أبا النصر نديمين له يحضران مجالس أنسه وتزول الكلفة بين الحاضرين فيتبسطان في القول ويملآن المجلس فرحاً وسروراً بالنوادر المطربة والفكاهات المضحكة. وقد بلغ من شغفه بهما أنه خصص لهما قاعة بالديوان الخديوي يجلسان فيها كأنهما من المستخدمين. وقد تقرأ في الوقائع المصرية مثل هذه العبارة: (قصيدة فائقة للشيخ علي الليثي المنشئ بديوان المعية السنية) وتقرأ مثل هذا عن الشيخ علي أبي النصر، فتظن أنهما كانا يقومان بالكتابة الإنشائية والواقع أنهما لم يزاولا الكتابة قط، إنما هو لقب منح لكل منهما.
وقد تمتع الليثي بجاه كبير في عهد الخديوي إسماعيل. فكان الناس يلجئون إليه متوسلين به ومتشفعين في قضاء الحاجات. وظل الشاعر محتفظاً بمكانته في أيام الخديوي توفيق. وكان قد انضم إلى الحركة العرابية فلما قضي عليها نظم قصيدة تبرأ فيها من تهمة العصيان فعفا عنه الخديوي وزاده قرباً منه.
ولما بنى الخديوي توفيق قصره في حلوان كان ينتقل إلى ضيعة الليثي بشرق اطفيح ويقيم عنده يوماً. ولهذا اعتنى الليثي بضيعته فشيد فيها قصراً وغرس الحدائق والكروم.
ولما تولى الخديوي عباس أعرض عن الليثي، ولا عجب في ذلك. فقد كان صاحبنا في العقد السابع من عمره على حين كان الخديوي في الثامنة عشرة. ثم إن عصر الليثي كان قد انتهى فأقام في ضيعته وكان كثير من الأدباء يزورونه هناك أو في داره بباب اللوق فيكرم مثواهم ويحسن لقاءهم. وبقي على ذلك حتى مات في عام 1896.
شعره
لا يوجد بين أيدينا ديوان الليثي. ولا نعرف أنه قال شعراً قبل عصر إسماعيل. وقد اعتمدت في حديثي عن شعره على ما نشر في الوقائع المصرية. وتنبعث شاعريته في عهدي إسماعيل، وتوفيق.
قال يمدح الخديوي إسماعيل:
أنعم بطيب ليال لحن كالغرر ... في جبهة الدهر تسمو عن سنا القمر
بها تزف الأماني في مواكبها ... لكل راج ويرعاها أخو السمر
علا بها الدهر شأناً وهي تتحفه ... بحلية المجد حتى فاز بالوطر
قد قلدت كل جيد من بدائعها ... وأنعمت بمراد السمع والبصر
كأنها والليالي الغر سالفة ... ليلات قدر توافينا على قدر
وقفت أمام هذه الأبيات وحاولت أن أستكشف ما حوته من المعاني فلم أظفر بشيء. واجتهدت في إخراج الصورة الشعرية التي تخيلها الرجل حينما نظم هذه القصيدة فلم أخرج بصورة ولا شبه صورة. ليال لحن كالغرر بها تزف الأماني لكل راج. وما معنى قوله (ويرعاها أخو السمر) ولم خص أخا السمر؟ (علا بها الدهر) وهنا كرر كلمة الدهر. وهذه الليالي تتحف الدهر بحلية المجد. فما معنى هذا؟ وكيف فاز الدهر بالوطر؟ وما هو المعنى الطريف في قوله (وأنعمت بمراد السمع والبصر)؟ ثم قال (كأنها والليالي الغر سالفة) فكرر كلمة (الغر). لاشك في أن هذا لغو لا طائل وراءه. وهذه الأبيات على طولها لا تحمل غير معنى تافه جداً. يريد أن يقول إن هذه ليال سعيدة فأسهب على غير جدوى.
وقال:
وكيف ولا خديوي مصر ألبسها ... ثوباً من الطول مأموناً من القصر
تجر أذيال إعزاز بمقدمه ... حتى بها مصر سامت كل مفتخر
وفاخرت كل إقليم يناظرها ... وقد جرى النيل عند الفخر بالخبر
فأي معنى تحمله هذه الأبيات؟ أراد الرجل أن يقول إن البلاد فرحت بقدوم الخديوي وابتهجت بعودته فلم يوفق في إبراز هذا المعنى البسيط في ثوب قشيب. فجعل الليالي تجر أذيال إعزاز وقال (حتى بها مصر سامت كل مفتخر) ثم كرر هذا المعنى في قوله:
(وفاخرت كل إقليم يناظرها) وما هو المعنى الطريف أو الصورة الشعرية التي في قوله (وقد جرى النيل عند الفخر بالخبر)؟ لن نخرج من وراء هذا الكلام بفائدة لا كثيرة ولا قليلة.
ثم قال:
أهلا بمقدم روح القطر من سعدت ... به الرعية واستولت على الظفر
مليكنا المفرد الساري إلى نسق ... في العدل مسراه أعيى كل مقتدر
لقد خلعت على الألقاب ثوب علا ... وشرفت بك بين البدو والحضر
حتى غدا أعظم الألقاب مفتقراً ... إليك كي يرتقي في عالم الصور
ولو يقول بلغنا قدر قدركم ... أهدى اللسان ثناء الآي والسور
ومفهوم أن يقول إن الرعية سعدت بمقدم الخديوي. أما قوله (واستولت على الظفر) فغير مفهوم ولا مقبول ولا مما يستقيم ولا مما يستساغ. ومعنى البيت الثاني تافه. وأراد أن يقول في الأبيات الثلاثة الباقية إن الألقاب ارتفعت بالخديوي وتشرفت فأنى بهذا المعنى الضئيل في ثلاثة أبيات كلها عبث وهراء.
ثم قال:
فلا عدمنا أياديك التي عظمت ... في مصر حتى غدت للملك كالأسر
وازينت بقدوم جاء يقدمه ... طير المسرات بين الزعر والزهر
وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً ... فاق الدراري سنا في رائق الدهر
والبيت الأول تافه المعنى. أما البيت الثاني فإنه جمع بين تفاهة المعنى وضعف التأليف. ولا أظن شاعراً يحترم نفسه يقول (بقدوم جاء يقدمه). والبيت الثالث خلو من المعنى.
ثم قال:
والأنس دار بأقداح السرور وقد ... حيا الرعية واستملى أخا النظر
فكل ذي فكرة أبدى نتائجها ... في مدح علياك لكن غير مبتكر
تملي عليه معانيك الحسان فما ... يجيد شيئاً سوى تنظيم منتثر
لازال ذا الدهر يسعى في رغائبكم ... وما أردتم مراد الدهر والقدر
أما قوله (والأنس دار بأقداح السرور) ففيه صورة من حياة الندماء التي لازمته في ذلك الوقت. وقوله (حيي الرعية واستملى أخا النظر) خلو من كل معنى. والأبيات التالية تافهة المعنى.
وقال:
والملك يبسم عن عدل يقارنه ... تمام فضل وإحسان مدى العصر
ما أختال ذا القرفي برد الأمان بكم ... وكف بالصفو كف البغي والكدر
وردت باريس سر الود تعلنه ... وقد صدرت حميد السعي والسير
وعدت في فتية فاقوا النجوم سناً ... منك استمدوا وهم في الدهر كالغرر
ومعنى البيت الأول قد تقدم قبل ذلك بأبيات. وكذلك صورة ابتسام الملك فقد وردت في قوله (وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً). وليس في الأبيات التالية من المعنى ما يستحق الذكر. وقد امتازت هذه الأبيات دون سائر القصيدة بظهور الصنعة اللفظية فيها. فهناك طباق بين (أمان) و (بغي) وبين (صفو) و (كدر) وجناس بين (كف) و (كف). وطباق بين (ورد) و (صدر).
وأول ما نلاحظه على هذه القصيدة أن الشاعر كرر بعض المفردات فذكر كلمة (الدهر) ستة مرات. وقد كرر ذلك بعض التعابير. ومثال ذلك قوله (تسمو عن سنا القمر) و (فاق الدراري سنا في رائق الدهر) و (عدت في فتية فاقوا النجوم سنا) وقوله (وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً) و (الملك يبسم عن عدل يقارئه). كما كرر بعض المعاني على تفاهتها فإذا أضفنا إلى ما تقدم ضعفه المتناهي في الصياغة استطعنا أن نقول إن الليثي لم يك شيئاً في عهد إسماعيل.
والآن ننتقل معك يا علي لنرى كيف كنت تقول الشعر في زمن توفيق.
بعد أن فشلت الثورة العرابية شرع المصريون يتبرءون منها ويتنصلون من تبعتها. ومن كان منهم قد انضم إلى صفوفها أخذ ينتحل المعاذير ويذكر أنه اضطر إلى الانضمام إلى الثوار تحت الضغط والإرهاب. ولعبد الله فكري قصيدتان طويلتان نظمهما عقب الاحتلال البريطاني نفي فيهما ما نسب إليه من ميله إلى الثوار. ولليثي قصيدة أنشأها في هذا الغرض. ولكن الليثي في قصيدته يبدو أنبل نفساً وأسمى شأناً من عبد الله فكري. وقبل أن نتكلم عن قصيدة الليثي نريد أن نشير إلى ملاحظة صغيرة؛ وهي أن العلاقة بين الشاعر وبين الخديوي إسماعيل كانت قد فترت في الأيام الأخيرة من حكم هذا العاهل. والدليل على ذلك أن الليثي كان قد شد رحاله إلى ضيعته. وهناك وصلت إليه قصيدة من عبد الله فكري يبشره فيها بخلع إسماعيل. ومما جاء فيها قوله:
واقرأ على الشيخ الجليل تحية ... مقرونة بالشوق والتبجيل
وقل البشارة مصر ولي أمرها ... توفيقها من بعد إسماعيل
ولو لم يكن عبد الله فكري يأنس في الليثي ارتياحاً لمثل هذا الأمر لما أسرع يزف إليه ذلك النبأ، وجعل من خلع إسماعيل بشارة يبعث بها إلى الليثي. والدليل على ذلك مذكور في نفس هذه القصيدة وهو:
حتى إذا استأنست من تصديقه ... بعلائم التكبير والتضليل
فانهض به في الحال نهضة مسرع ... للعود لا يلوي على تعليل
وعلائم التكبير والتهليل لا تبدو إلا ممن يطغى عليه الفرح والسرور. هذه مقدمة أتينا بها تمهيداً للكلام على قصيدة الليثي التي نظمها بعد هزيمة العرابيين والتي بدأها بقوله:
كل حال لضده يتحول ... فالزم الصبر إذ عليه المعول يا فؤادي استرح فما الشأن إلا ... ما به مظهر القضاه تتنزل
رب ساع لحتفه وهو ممن ... ظن بالسعي للعلا يتوصل
قدر غالب وسر الخفايا ... فوق عقل الأريب مهما تكمل
غاية العقل حيرة وعقال ... واللبيب الذكي من فد تأمل
وهذا كلام لا يقال في قصيدة يريد ناظمها أن يعتذر فيها عما نسب إليه من تهمة خطيرة، ويتبرأ من ذنب عظيم، ويطلب الصفح والمغفرة وهذا الاستهلال أليق بقصائد الرثاء، ففيه حث على التزام الصبر، وحض على الرضى بالقضاء والقدر. ولم يكن المقام يستدعي ذلك. فقد كان الخديوي توفيق في حالة فرح وسرور يعد انتصاره على أعدائه واطمئنانه على عرشه وملكه فكان من المناسب أن يبدأ الشاعر قصيدته بالتهنئة أو الاعتذار. ولكنه لم يفعل ذلك بل افتتحها بهذه الأبيات التي يظهر عليها طابع الحزن والأسى والاستسلام الذي يتمثل في قوله:
يا فؤادي استرح فما الشأن إلا ... ما به مظهر القضاء تنزل
فمم استوحى الليثي هذه الأبيات؟ وما هو الدافع النفسي الذي حرك لسانه وأنطقه بهذا المطلع؟ ومن هذا الذي خاطبه بقوله (فالزم الصبر إذ عليه المعول)؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نذكر أن الأحوال في أوائل عهد توفيق لم تكن تسمح بعقد مجالس الأنس والطرب التي لا تظهر مواهب الليثي في غيرها فلم تكن العلاقات بين الشاعر والخديوي في السنوات الأولى من حكمه كالعلاقات التي كانت بينه وبين إسماعيل إبان عظمته ومجده. ولو كانت الصلة قوية بين الليثي والخديوي لصحبه إلى الإسكندرية فيمن صحبه من خاصته. ويتضح من هذا المطلع الحزين الباكي أن الشاعر انضم إلى صفوف العرابيين اعتقاداً منه أن حركتهم ترمي إلى صيانة الوطن والدفاع عنه ضد الإنكليز. والليثي أزهري، والأزهريون قد انضووا تحت لواء العرابيين مدفوعين بالنعرة الدينية والعاطفة الوطنية فمن المعقول أن يحذو الليثي حذو إخوانه ويندمج في صفوف العرابيين. ويشجعه على ذلك ورود الأنباء الكاذبة المنبئة بانتصار الجيش المصري وانهزام الإنجليز.
ولاشك في أن الليثي قد خاطب نفسه في هذه الأبيات وحثها على الصبر، وحضها على الرضى بما جاءت بها المقادير وبكي عليها ما أصاب البلاد من الكوارث والخطوب.
ثم قال:
كيف ننسى وحادثات الليالي ... فاجأتنا بكارث ليس يحمل
أذهبت أنفساً وغالت نفيساً ... وذوي مربع الحظوظ وأمحل
كان أقليمنا رياض صفاء ... فيه للواردين أعذب منهل
للكلام صلة
محمد سيد كيلاني