مجلة الرسالة/العدد 872/(من وحي الاستقبال)
مجلة الرسالة/العدد 872/(من وحي الاستقبال)
لم يكن استقبال مصر لصاحب الجلالة ملك الأفغان لونا من ألوان
المجاملة التي تصنعها الرسميات في استقبال كل عظيم، ولم تكن
الحفاوة به مظهرا من مظاهر السياسة التي تفرضها الأوضاع نحو ملك
من الملوك، وإنما كان الاستقبال على حرارته والحفاوة على بهجتها
نتيجة طبيعية لشعور أصيل، مبعثه هذه القرابة الروحية العميقة بين
قلوب شعبين مجتمعين حول دين واحد وأبلغ الدلالة على مثل هذا
الشعور هو أن الملك (الأفغاني) لم يكن ضيفا عظيما على الشعب
المصري، بقدر ما كان الملك (المسلم) ضيفا كريما على مصر
المسلمة!!
وإذا رحت تعدد أواصر القربى على شعبين يلتقيان على الجوار أو يفترقان لبعد الديار، فلن تجد أصدق ولا أجمل من أواصر الدين والتقليد واللغة. . . ومدار الصدق فيها أو مدار الجمال أن آصرة منها قد تغني عن الآصرتين، حين لا يكون هناك بد من وجود بعض الفوارق بين تلك الأواصر الثلاث! فاللغة قد تحل محل التقاليد والدين حيث يرجى التقريب بين شتى الميول والأهواء، وقد يقوم الدين مقام اللغة والتقاليد حين ينشد التوحيد بين مختلف العواطف والنزعات، وقد تحقق التقاليد كثيراً من تلك الأمور حين لا يكون الدين واللغة تراثا مشتركا بين الشعوب. ولكن أثر الدين في التقاء النفوس على التآزر والتضافر والإيثار والحب، هو أقوى الروابط الإنسانية وأحفلها بصفات الألفة ومقومات البقاء، لأنه العاطفة الكامنة بين الجوانح كمون الحياة نفسها بكل ما فيها من معاني الوجود الأزلي الذي لا تحده العصور!
وحسبك دليلاً على أثر العاطفة الدينية ما كان يحسه كل مسلم هنا نحو محنة إندونيسيا أو محنة الباكستان. . . آماد وأبعاد، ولغة غير اللغة ووطن غير الوطن وتقاليد غير التقاليد، ولكن الدين وحده قد غطى على كل هذه ليكشف عن شيء واحد: هو هذا الشعور المشترك بمرارة الظلم ووطأة القيد وقداسة الكفاح، يعقبها الأمل الموحد بزوال الغمة وانقشاع الظلمة وانتصار الأحرار. . وليس من شك في أن تلك الدفقات الشعورية المتسامية قد انثالت على خاطر الضيف العظيم وهو يشهد التفاف القلوب المسلمة من حوله، حتى إنه يتحدث عن تلك الدفقات المنثالة بمثل هذه الكلمات: (إنني لأشعر شعوراً عميقا بأن في الإسلام قوة كامنة في تعاليمه ومبادئه، وإن نظاما فيه هذه القوة لا يمكن أن يقهر، وإن الأحداث التي يشهدها العالم ستحرك هذه القوة العظيمة الكامنة بين المسلمين)!
كلمات فيها كل الحق الذي يؤيده تاريخ الإسلام وتؤكده صفحات ماضيه. . وإنها لكلمات من شأنها أن تهز جمود الحاضر وتشعل جذوته الخابية وتنعش روحه الغافية، وتفتح عيون بعض الناس على كثير من الحقائق التي نسيتها بفعل المطامع والضغائن والأحقاد! نعم؛ إن في الإسلام قوة كامنة كما يقول صاحب الجلالة الأفغانية، قوة من طبيعتها ألا تقهر إذا صفت الضمائر وخلصت السرائر وشرفت الغايات، ولكن أين نحن من هذا كله ومأساة فلسطين قد قدمت الدليل كل الدليل على أن بعض الأيدي لا تريد أن تتصافح، وأن بعض الرؤوس لا تريد أن تتسامح، ولو ضاع في سبيل تلك الأثرة البغيضة كل مجد من أمجاد العروبة وكل قرية من قرى فلسطين وكل مبدأ من المبادئ والأخلاق؟!
إن هذه الروح المثالية التي تجلت في حديث صاحب الجلالة الأفغانية عن قوة الإسلام التي لا تقهر، لجديرة بإيقاظ بعض الضمائر التي سمحت لهذه القوة بأن تقهر وهي على أبواب تل أبيب!!
أ. م