مجلة الرسالة/العدد 871/الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 871/الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة

مجلة الرسالة - العدد 871
الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1950



- 2 -

للدكتور محمد البهي

أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين

وليست وحدة الله في الإسلام هي وحدها أمارة هنا على رقي الإسلام - جرياً على مقاييس الرقي التي وضعها الباحث النفسي استنباطاً من الموازنة بين الطفولة الإنسانية والبلوغ الإنساني - بل مطالبة الإسلام كذلك بوحدة الجماعة الإنسانية عن طريق محو الفوارق، أو إضعافها على الأقل، التي توزع الناس إلى شيع وطوائف، سواء أكانت هذه الفوارق تتصل بالجنس والقبيلة أو بالعوامل الجغرافية أو الاجتماعية أو الثقافية. . . أو غيرها. إذ من لوازم خصائص إدراك الطفل - وكذا الإنسان البدائي - على نحو ما أشرنا من ارتباطه بالمحسوس تقيد صاحبه بالمحسوس الذي في محيطه، لا يوليه الأفضلية فحسب، بل يهبه مزايا الوجود كله، إذ الوجود في واقع الأمر عنده هو ذلك المحيط الذي يعيش فيه.

وعلماء الاجتماع - بالقياس على هذا - يصفون شعباً من الشعوب بالبدائية إذا كان متكوناً من طوائف أو قبائل تقف كل طائفة أو كل قبيلة عند حد وجودها الخاص لا تتجاوزه إلى ما فوقه من معنى الوطن أو الدولة، إذا الإدراك عند مثل هذا الشعب لم يخترق بعد تلك الحجب الظاهرة التي جعلت منه طوائف أو قبائل.

2 - الوجدان:

تتجاوز الآن الجانب الإدراكي للإنسان في مرحلة طفولته الأولى إلى جانبه الوجداني. نراه في هذه الناحية أيضاً يقف عند حد المحسوس: فانفعالاته التي تتنوع إلى لذة وألم: والتي يعبر عنها مرة بالبشر والتهلل أو الضحك كثيراً وأخرى بقبض أسارير الوجه والحزن أو البكاء كثيراً، ترجع إلى ما يدركه مما حوله إدراكاً حسياً فحسب: فهو يفرح بلون الدمية التي يلعب بها لا بقيمتها الذاتية، ويتودد لزميله في ليونة وبشر ليلعب بلعبته أو ليفوز بها لا بما يدركه في الزمالة أو الصداقة من معنى يربط أحد الزميلين بالآخر ويجعل كلاً منهما يسر للقاء الآخر أو التحدث إليه. وهو يحزن - وكثيراً ما يبكي - عند مفارقته لزميله ولكن ليس لما يوجبه معنى الزمالة عند الفرقة بل لفقده لعبة الزميل التي كان يلعب بها في حضرته.

تستهويه الحلوى ولكن لا يغريه التبشير بالجنة، ويخيفه العقاب المادي كالضرب أو الحرمان ولكن لا ترهبه الخشية من الله. فرحه وتألمه إذن لما يبدو من الشيء لا من ذات الشيء وجوهره:

(أ) فوجد أنه مادي، لا يثيره إلا ما هو مادي. ولذته وألمه ماديان مرتبطان أشد ارتباط بالشيء المادي؛ بما يرى فيه، أو يتذوق منه، أو يلعب به. . . الحصول عليه يسبب لذته والحرمان منه يسبب الألم عنده.

حياته هي في الكل والشرب والاستمتاع بالمتع الحسية. لا يعرف من الحياة إلا لوناً واحداً هو هذا اللون. أما انقسام الحياة إلى دنيا وعليا؛ إلى رخيصة وسامية؛ إلى حياة الماديات وحياة المثل والمعنويات فلم يدركه بعد. لم يصل بعد إلى لذة معنوية وشقاء معنوي.

(ب) كذلك يغلب على وجدانه طابع التطرف وعدم الاعتدال: فكثرة حركة الطفل ونشاطه في هذه الحركة عند الفرح، وكثرة بكائه أو شدة صياحه عند الشيء المخيف المرعب تعبر عن هذا التطرف في درجة الوجدان في هذه المرحلة.

والإنسان البدائي كذلك يثيره من الشيء مظهره المادي: يندفع نحو كبير الحجم أو بارق اللون في بشر وسرور، ويبكي - إن لم يول هرباً - مما لم يعهده من قبل.

لا يعرف الجزاء بنوعيه إلا المادي منه. ولهذا يسير المستعمرون بالجهات المتأخرة في الحضارة في معاملة أهل مستعمراتهم من البدائيين طبق هذه الحقيقة النفسية: فإذا أنعموا على إنسان منهم أنعموا عليه بزاهي اللون أو عظيم الحجم مما يلبس أو يؤكل. ونرى لذلك إن أكثر هداياهم إلى الزعماء هناك عبارة عن تيجان من الزجاج الملون يجمع بين كبر الحجم وبريق اللون. كما أن عقابهم ينحصر فيما يؤلم ألماً مادياً كالضرب أو الحرمان من الأكل مثلاً. أما قائمة الشرف وكذا القائمة السوداء مثلاً فلا تعرفان كضربين للجزاء عند البدائيين.

وعبادة هؤلاء - والعبادة مظهر من مظاهر الوجدان - تتمثل في تقديم القرابين المادية لمعبوداتهم مما يؤكل أو يشرب في بيئتهم عادة. بل أساس تخيرهم للمعبود نفسه مادي أيضاً، هو إما نفع مادي أو ضر مادي. وفند - العالم الألماني - في كتابه علم النفس للشعوب يذكر أن الصدفة وحدها هي السبيل الأول لتعيين الآلهة في الديانات الوثنية. على معنى أن حادثاً ما يقع صدفة للفرد أو الجماعة من الناس في مكان معين أو عند شيء معين فيصبح هذا الحادث سبباً في عبادة الفرد أو الجماعة لذلك المكان المعين أو لهذا الشيء المعين، إما ترقباً لمنفعة منه أو طلباً لدفع مشقة تصدر عنه. على حسب نوع الحادث الذي وقع:

فالصحراء كانت تعبد عند قدماء المصريين رجاء أن تدفع عنهم غضبها، وهو تلك الأتربة التي كانت تثيرها العواصف فتغطي الزرع أو تتلف الضرع. و (النيل) كان يقدس منهم كذلك حتى لا يتخلف خيره من ماء وطمى. والصدفة وحدها هي التي جعلت من قدماء المصريين عباداً للصحراء والنيل، وهي أنهم استوطنوا هذه الرقعة من العالم فارتبطوا في حياتهم المادية بهما. بدليل أن غيرهم من الشعوب القديمة ممن سكنوا بقاعاً أخرى - في آسيا مثلاً - لم يعرفوا عبادة النيل والصحراء، ذلك لأن حياتهم المادية لم ترتبط بهما يوماً من الأيام.

وعلى نحو ما رأينا من عدم الاعتدال في وجدان الطفل يسيطر على وجدان البدائي طابع الغلو والتطرف كذلك: هو كثير القهقهة إن سر بشيء ما، كثير النواح والصياح إن تألم من شيء ما. إن أقبل ففي غير احتياط، وإن ولى ففي غير احتياط أيضاً. كثير الشكوى قليل الصبر على ما يؤلمه، كثير الزهو قليل الاتزان في نشوة فرحه.

لكن الإسلام لم ير الحياة في لون مادي فقط؛ بل جعل أسمى نوع من المتعة واللذة في رضا الله، وأقسى نوع من العقاب في غضبه.

الإسلام عاب الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، ولم ير البر في أن تتجه الوجوه قبل المشرق والمغرب ولكن فيما وراء ذلك من الإيمان بالله واليوم الآخر. . . إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة. . .

ورسول الله محمد بن عبد الله عليه السلام كان إذا ضحك ابتسم ولا يقهقه، وإذا بكى - كما حصل عند دفنه ولده إبراهيم - دمعت عيناه فقط. يطلب القرآن الكريم من المؤمنين عدم الجزع والهلع عند المصيبة بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) وفي قوله جل شأنه. (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) فجعل علامة الإيمان بالله - وهو دليل النضج الإنساني والبلوغ العقلي كما سنرى - الاعتدال في الوجدان وعدم التطرف فيه إن في حالة الألم أو في حالة اللذة.

3 - الصلة بالعالم الخارجي:

وإذا انتقلنا من دائرة الوجدان بعد الإدراك في حياة الإنسان في مرحلة طفولته الأول إلى صلة هذا الإنسان بالعالم وجدنا أنه يغلب عليه في هذه الصلة طابع الذاتية والأنانية.

(أنا) هذه الذات، هي الدافع لكفاحه في هذا العالم وهي هدف هذا الكفاح فيه. ويحاول بأسلوب وبآخر أن يمنع الاشتراك فيما يحصل عليه ولو كان مع من هو مصدر الإعطاء من أب أو أم مثلاً.

ولأنه لا يستطيع أن يدرك غير هذا العالم المحس فأهدافه التي يحاول أن يبلغها فيه لا تتجاوز ما يحس منه. كذلك لا يسعى إلى تحصل المثل الرفيعة؛ لا يسعى إلى تحصيل الفضيلة والقيم الأخلاقية. لا يسعى إلى التضحية في سبيل الغير لأنه لم يعترف بالغير بعد. لا يسعى إلى أداء الواجب نحو الجماعة لأنه لم يدرك معنى الجماعة الآن. لا يعرف معنى الزهد، فضلاً عن أن يسعى لتحقيقه. قد يعاف الشيء ولكن لا يزهد فيه.

وما أشبه الإنسان البدائي بالطفل في هذه المرحلة الأولى من مراحل تطوره. لا يعرف البدائي أيضاً حدوداً لمطالب نفسه، ولا دافعاً في الحياة غير ذاته. ذاته كل شيء، وكل شيء في الوجود هو لذاته. إن عبد قلما يعود على ذاته الخاصة من نفع أو اتقاء لما يقع عليها من ضرر. وإن حارب فللغنيمة، وإن هرب من الحرب فلإنقاذ حياته. وإن صادق أو عادى فلمنفعة في المصادقة أو المعاداة.

لا يعرف معنى الوطن فيفديه بالنزول عن بعض ما يملك أو بإجهاد نفسه في سبيله. وما دام لم يعرف الوطن أو الجماعة فتركيز كفاحه لتحقيق مطالبه الخاصة لا ينشأ عن اختيار منه، حتى كأنه آثر نفسه على وطنه أو جماعته عندما نراه يكافح لذاته فقط؛ بل ذلك عن غير إرادة منه بدافع اضطراري من ذاته. إذ الاختيار إنما يكون عند الموازنة، والموازنة لا تكون إلا بعد إدراك لشيئين فأكثر. كأن يدرك أن له ذاتاً، وأن هناك غيرها في العالم من الجماعة أو الوطن، وأن هناك علاقة بين ذاته وهذا الغير تقوم على أداء واجبات نحو هذا الغير وأخذ حقوق من هذا الغير. ولكنه لم يدرك بعد أنه (منفصل) في هذا العالم وفي بيئته، إذ لم يزل يرى أن كل ما في الكون هو، وأن الكون لا يتعدى ذاته.

وعلى هذه الحقيقة النفسية عند البدائيين تقوم سياسة الغربيين المستعمرين في عصرنا الحاضر. يلبون المطالب الشخصية للأفراد، ويقسمون الرقعة الضيقة الواحدة إلى سلطنات أو إمارات ودويلات، ويساعدون رؤساء الإمارات أو السلاطين على تحقيق رغباتهم التي لا تنتهي ولو كانت عبئاً على الصالح العام، وينمون في ذواتهم وأشخاصهم معنى الزهو الخيلاء بما يضعونه تحت تصرفهم من مفاتن هذه الحياة. حتى لكأنهم لا يسمعون من الواحد منهم إلا ترديده: أنا! أنا! في كبرياء أجوف - تجاه الوطنيين فقط -.

وعن هذا الطريق السهل الذي لا يكلفهم شيئاً يأخذون ما ينفق فيه المستعمر عرقه أو ما تزهق في سبيله نفسه من غلات الحاصلات الزراعية والمعادن المستخرجة من أرض الوطنيين المستعمرين.

لكن الإسلام نادى بمصلحة الجماعة وجعلها في الصف الأول إذا تعارضت مع مصلحة الفرد. فرض على الفرد واجبات نحو نفسه ونحو جماعته، وجعل مبدأ (أن لا ضرر ولا ضرار) شعاراً لتعرف هذه الواجبات. بل أكثر من ندائه بالحرص على الجماعة ورعايتها رغب المؤمنين في أن يضحوا بما لهم من نفس ومال وولد في (سبيل الله). وليس سبيل الله إلا إعزاز الجماعة. إذ القربى إلى الله هي المشاركة في إسعاد الغير عن طريق تخفيف آلامه واطمئنان نفسه: فالنصيحة للغير قربى، وبذل المال له قربى، ودفع الضرر عنه قربى، وستر عرضه قربى، والقول المعروف قربى، والتسرية عن نفسه قربى. . . وهكذا. وكلما تعاون الفرد مع الفرد ورأى أن الفرد وجوده وكيانه وجود الأخر واستقراره تقوت الجماعة، إذ إنها تكون حينئذ كالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً.

الإسلام نصح بالزهد في هذه الحياة. وليس الزهد إلا وضع حد بين مطالب الذات ومطالب الغير. ليس إلا وضع نهاية لرغبات الذات. ولذلك كان كفاحاً لتلك الرغبات. هو كفاح يتجه نحو الذات نفسها بعد إن طغت مطامعها وزاد جشعها في عهد الطفولة الإنسانية، وقد يمتد أجلها سنوات في حياة الإنسان.

وإن شئنا قلنا إن الزهد هو تحويل الكفاح في الإنسان من الدائرة الانفرادية أو الأنانية الأولى إلى الدائرة الجماعية. ليس الزهد عبارة عن موقف سلبي في الحياة وتعطيلاً لقوة الكفاح والسعي في الإنسان، فقد كان محمد بن عبد الله زاهداً وكان مع ذلك في مقدمة المكافحين.

4 - السلوك

وإذا تركنا هذه الظاهرة النفسية التي ذكرناها الآن كإحدى ظواهر الطفولة الأولى للإنسان إلى الحديث عن سلوكه في هذه المرحلة وجدنا طابع الوقتية من جهة والتقليد من جهة أخرى يسيطران على هذا السلوك:

(ا) ينتقل الطفل في هذه المرحلة بسرعة من حال إلى آخر. لا يلبث تمسكه بالشيء طويلاً ولا يبقى إعجابه فترة زمنية واضحة، كما لا يستمر تألمه من الحرمان وبكائه على فقد الشيء طويلاً كذلك. يقبل البدل والعوض في يسر وسرعة لكن بشرط أن يكون هذا العوض أكثر إغراء له بكبر حجمه أو بكثرة لمعانه أو بشدة تفاوته في اختلاط الألوان الزاهية، وإن كان ضعيف القيمة قليل الجودة.

لذا ينعدم الإيمان بشيء هنا في هذه المرحلة. وبالتالي لا يوجد كفاح من أجل العقيدة أو المبدأ. إذ مأخوذ في طبيعة الإيمان أنه ليس التصديق فحسب، بل الاستمرار فيما يصدق به الإنسان. وتختلف درجات المؤمنين حسب تفاوتهم في هذا الاستمرار لا حسب التصديق والإقرار.

الثبات على الشيء أو على المبدأ ميزة الرشيد من الإنسان. والتحول عن الشيء ميزة الطفل في طفولته الأولى أو ذلك الإنسان البدائي، وهو ذلك الذي لم تكتمل إنسانيته بعد. . .

سبب ذلك أن العالم مشحون بالمحسات أو الماديات والطفل مرتبط بما هو مادي محس أيما ارتباط لا يستطيع الانفكاك عنه إلى الآن. فهذه المادية اللانهائية للعالم لا تخلو من مغريات كثيرة تشغله في صحوته ويقظته، وهو منجذب نحو آحادها لا يلبث عند واحد منها إلا بمقدار ما يجذبه الآخر.

أما الرشيد فقد استطاع أن يقف على قدميه في هذا العالم يتخير منه مل يريد. إن أقبل على شيء ما أو أدبر عن شيء ما فعن إدراك فتصميم. لاختياره سبب وعلة. فهو يقف عند ما اختار، ما دام سبب الاختيار قائماً على نفسه. وقلما يتغير السبب إذا كان عن تفتيش وروية - شأن من بلغ بلوغاً عقلياً -.

(ب) كذلك يخضع الطفل في سلوكه لعامل التقليد: يخالف اتجاهه السابق في السير تقليداً لمن هو أكبر منه. لا يستطيع الإجابة عن سر تحوله سوى أن فلاناً - الأب أو خلافه - هكذا صنع:

والبدائي لا يختلف عنه في سلوكه: يتميز بكثرة التحول والتنقل، ثم باتباع التقليد فيه. لا يطول عجبه ولا تطول صداقته ولا زمالته. لا يستمر حزنه وبكائه، يضحك وما زالت الدموع في مقلته أو على خده. صديقه بالأمس عدوه اليوم.

يأتي من التصرفات ما يناقض بعضه بعضاً. ولو فتشنا في سبب تناقضه وجدناه التقليد فيما أتى به.

وما عللنا به سلوك الطفل هناك هو ما نعلل به سلوك البدائي هنا. كلاهما في هذا العالم كمن وقف في مهب الريح، يدفع في سيره دون أن يستطيع اختيار اتجاه معين. إن بدأ بالسير لا يعرف متى يقف؟ وأين يكون

إن الإسلام قام على دعائم فالإيمان أولها في نظره. لا لأنه أساس يتفرع عليه غيره من مبادئ أخرى؛ بل لأنه في الواقع الفيصل في الحياة الإنسانية. هو أمارة على انتقال الإنسان من مرحلة أدنى إلى أخرى أرقى منها في تطوره.

لم يثن الإسلام على المؤمنين به وحدهم لأيمانهم؛ بل احترم كذلك أهل الكتاب ممن لم يحرفوا الكلم عن مواضعه. أما غير أهل الكتاب من الوثنيين، أما أهل الكتاب الذين بدلوا دين الله فهم أمامه سواء في عدم انتقاله من حال الطفولة الإنسانية إلى حال الاكتمال والرشد الإنساني. لا يحق لهم إذن عهد ولا ذمة.

الإسلام وإن شاد بالإيمان فأشادته بذلك الذي جاء نتيجة الروية واستقلال الفكر ووليد النظرة الحرة، لا ذلك الذي أساسه التقليد. (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون). يريد من الإيمان ذلك الذي هو عنوان الرشد الإنساني.

أما الإقرار نتيجة التقليد فهو بالأحرى أمارة الطفولة، لا يلبث صاحبه أن ينتقل مما أقر به أولاً إلى الإقرار بشيء آخر تدفعه إليه مغريات العالم ومفاتنه الظاهرة. . (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). أولئك هم البدائيون في الإنسانية، هم أطفال ولو بلغوا الحلم.

5 - الحكم والتقدير

ومما يتصل بهذا الجانب النفسي الذي عالجناه الآن - وهو السلوك الإنساني في مرحلة الطفولة - جانب آخر له أهميته وهو طابع الحكم أساس وزن قيم الأشياء عند الإنسان في هذه المرحلة أو من هو شبيه له.

(أ) يغلب على حكمه طابع التذبذب والتردد، لأنه في حكمه على الشيء دائماً متغير في نظره: فبينما يقدر الشيء للونه إذا به ينفر منه لمذاقه. وبينما يقبل على والده أو أمه بالتقبيل - إن أخذ من أحدهما قطعة من الحلوى مثلاً - إذا به يثب بالضرب على من يناديه منهما للنوم أو يدعوه للهدوء والسكينة.

هو لم يختبر ما نال إعجابه أولاً ثم نفر عنه ثانياً ليقف على شيء ثابت فيه، وهو ماله من حقيقة وكنه حتى يكون الحكم عليه مرتبطاً بماله من هذه الحقيقة. ولم يعرف بعد أيضاً في أبيه معنى الأبوة وفي أمه معنى الأمومة حتى يربط تقديره لأحدهما بذلك المعنى الباقي فيه.

(ب) ولم يستوف في وزنه للشيء عناصر التقويم فيه، إذ الجزء للشيء يعبر عن نفس الشيء في تصوره وإدراكه - كما ذكرنا ذلك أولاً -.

فتقويمه إذن للشيء تقويم له بجزئه، وبجزء تأثر به هو، وقد لا يكون من مقومات ذات الشيء: فكراهيته لإنسان لأنه أدرك فيه مغايرة البشرة لما ألف رؤيته من الناس، وحبه لإنسان لأنه أعطاه ما يهواه لا يتصل ذلك بتقويم الإنسان بما هو يه إنسان.

هنا تتقدم الثقة العامة بأحكامه وتقديراته، لأن أساسها متغير وسريع في تغيره كذلك.

وتقديرات الإنسان البدائي، وإعطاؤه القيم للأشياء لا يتفاوت في الطابع الأساس عما يعرف للطفل في مرحلة طفولته الأولى من التغير وعدم الثبات: يجري في التقدير وراء ما يتصل بأنانيته أو ما يدركه من ظواهر الأشياء دون ما يتصل بذات الشيء وجوهره. يبدو ذلك في تصرفاته المتقلبة - كما رأينا -.

لا يعرف مقياساً عاماً في وزنه وتقديره أنه لم يهتد بعد إلى الحقائق. وقلما يصل إلى حكم استوعب فيه عناصر الحكم الصحيح عند الرشيد.

لكن الإسلام طلب أن يكون التفتيش والاختيار والروية أساس الحكم: يقول تعالى مخاطباً المؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). ويقول مخاطباً رسوله الكريم: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون). فلم يرض أن يكون الظاهر المدرك الأول وهلة أساس الحكم ثم العمل والتصرف.

وهكذا في كل جانب من جوانب الطفولة الإنسانية - في الطفل مرحلته الأولى أو في الإنسان البدائي - لو وقعنا على مظاهره وعرفنا بطريق المقابلة بظاهر الرشد والنضج العقلي وحدنا الإسلام يمثل منتهى الرقي حسب معايير الإنسان. ومع ذلك ليس من صنع إنسان كامل، لأن هذا الإنسان الكامل لم يكن حقيقة واقعة ولم يزل بعد فكرة، وسيظل فكرة ومثالاً فقط. الإسلام وحي من الله الذي هو فوق التجديد الإنساني، إذ هو سر الوجود وسيبقى سر الوجود ما دامت السماوات والأرض، وما دام الإنسان يعيش ويبحث.

محمد البهي