مجلة الرسالة/العدد 870/الجارم الشاعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 870/الجارم الشاعر

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1950



الأستاذ عبد الجواد سليمان

وعدت القراء أن أعود إليهم على صفحات الرسالة الغراء لنجول جولة مع الجارم في شعره علناً نعطي صورة ولو تقريبية لمقدار حظه من هذه الموهبة الشعرية التي يسكبها الله في بعض قلوب عباده فيلهمون القول، ويتفرجون بفيض من الحكمة يصوغونه نظيماً شعرياً يتفاوتون في بلاغته تفاوتاً يخضع لنصيب كل شاعر من التهيؤ والملكة وسعة الإطلاع، فإن الشعر عاطفة وفكرة، وإحساس وخيال، أو هو كما عرفه بعض الغربيين بأنه (الحقيقة التي تصل إلى القلب رائعة بوساطة العاطفة) أو هو (عرض البواعث النبيلة وساطة الخيال):

أو هو كما يقول الجارم نفسه: -

الشعر عاطفة تقتاد عاطفة ... وفكرة تتجلى بين أفكار

الشعر ' ن لامس الرواح ألهبنا ... كما تقابل تيار بتيار

الشعر مصباح أقوام إذا التمسوا ... ثورة الحياة وزند الأمة الواري

الشعر أنشودة الفنان يرسلها ... إلى القلوب فيحيا بعد إفقار

والباحث في شعر الشاعر لن يصل إلى نتائج صحيحة أو يأتي بحثه قريباً من كبد الحقيقة إلا إذا كان (ديوان الشاعر) أمامه لا يفارقه لحظة، يقلب صفحاته، ويتنقل بين قصائده وينعم النظر بين أبياته، ويطيل التأمل والوقوف عند كل معنى من معانيها مراعياً في تقديره وإصدار أحكامه للشاعر أو عليه كل ما أحاط به من ظروف وملابسات خاصة وعامة عندما نظم قصيدته؛ ومقدراً المناسبة التي قالها فيها والغرض الذي يرمي إليه، ثم يخلص من ذلك إلى الجمع بين المتشابه، والتأليف بين المتقارب، ثم يستنبط جمعه ما هو بصدد الوصول إليه من حقائق عامة ونظريات أدبية هامة، ويسوق من شعر الشاعر الشواهد التي تؤيد دعواه، ومن النقاد السابقين أدلة تدعم قضاياه.

والجارم في ثقافته وسط بين المدرسة القديمة التي يمثلها القدامى من أدباء دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وهما مشتقتان من مصدر الأزهر: وهذه المدرسة القديمة ترتكز في دراستها على القرآن وحديث الرسول والآثار القديمة من دواوين الشعراء في عصو العربية الزاهرة، وكتب الناقدين من أضراب عبد القاهر وأبن رشيق والآمدي والعسكري وغير هؤلاء؛ والمدرسة الحديثة التي يمثلها الأعلام ممن تعلموا تعليماً مدنياً وجنحوا في دراستهم إلى الآداب الغربية ينهلون من حياضها ممن هم على شاكلة لطفي السيد وقاسم أمين وفتحي زغلول ومن سار سيرتهم واهتدى هديهم.

فجاء الجارم في شعره حلقة الاتصال بين المدرستين، ينظم في الحوادث الجلي والمناسبات التاريخية فتسمع فيه شعراً فيه الطابع البدوي والموسيقى العربية، والألفاظ المنتقاة فتخاله رجعياً قديماً وتحسبه ما يقول إلا معاراً، ثم لا تلبث أن تسمعه ثانية فتسمع شاعراً متصرفاً في شعره سامياً في خياله فتلمح روح العصر قد بدا ناطقاً في قصائده مرئياً في أبياته.

فهو مثلاً في إحدى مدائحه الملكية عليه آثار المدرسة القديمة وتأثره بمهج القدماء من الشعراء عندما يقول: -

أقبس الروح من شعاع الراح ... والثم الحسن في جبين الصباح

وأبعث اللحن من سمائك ياش ... عر ونافس به ذوات الجناح

وانهب الحسن من خدود العذارى ... واسرق السحر من عيون الملاح

إلى أن يقول: -

إيه يا شعر أنت سلوى في الدنيا ... إذا ضاق بي فسيح البراح

وفي مثل هذه المناسبة وفي قصيدة أخرى يطل عليك الجارم من مدرسته الحديثة فتبدو على شعره سمات الثقافة الغربية ودراسته الحديثة فقول في الفاروق: -

هو الأمل البسام رف جناحه ... فطارت به من كل قلب بلابله

هو الكوكب اللماح يسطع بالمنى ... وتنطق بالغيث العميم مخايله

ترى بسمة الآمال في بسماته ... وتلمس سر النبل حين تقابله

يفديه غصن الروح ريان ناضراً ... إذا اهتز في كف النسائم مائله

فإن الأمل البسام، وطيران البلبل من القلوب، وسطوع الكواكب بالمنى، وبسمة الآمال واهتزاز الغصن المائل في كف النسائم، وجريان (النسائم) على هذا الوزن في الجمع كلها من التعبيرات العصرية، ووليدة اصطلاحات المدرسة الحديثة في اتجاهات دراستها.

والجارم في كل شعره أو على الأقل في الغالب الكثير منه لا تكاد تفارقه هذه الصفة التي يمثل فيها مدرستي الأدب القديمة والحديثة ويصل بينهما ما يكاد ينقطع.

وهناك صفة أخرى يتميز بها الجارم في شعره، تلكم هي (قدرته على التصرف) في نظمه في مختلف الأغراض، ولعله اكتسب هذه الميزة من كثرة ما قرأ وطول ما توفر على الدراسة والبحث مع حسن استعداد وصفاء وطبع وإدامة النظر في أشعار من سبقوه، ولن تكفي مطلقاً لخلق شاعر حسن التصرف كثرة القراءة وحدها؛ فما أكثر من المكثرين من القراءة، ولكن ما أقل من نجده من بينهم قد توافرت له أداة حسن التصرف في القول؛ بل لابد أن يعزز كثرة القراءة تهيؤ من خيال خصيب وذوق سليم وطبع صاف على نحو ما قال الجرجاني (إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان) أو على نحو ما يقول بكر بن النطاح (الشعر مثل عين الماء إذا تركتها اندفنت وإن استهنتها هتنت) وكما يقول أحمد حسن الزيات في كتابه (دفاع عن البلاغة) (ىلة البلاغة الطبع الموهوب والعلم المكتسب).

فالجارم الذي يجود خياله بصورة للحرب العظمى تعج بالدماء وتتطاير فيها الأشلاء فتشبع منها العقبان في البر والحيتان في البحر، وتعبر عنها هذه الأبيات: -

طاحت بأهل الغرب نار الوغى ... وهبت الريح بهم زعزعا

طاف عليهم بالردى طائف ... فاخترم الأنفس لما سعى

وصاح فيهم للنوى صائح ... فصمت الأسماع مذ أسمعا

قد غصت الأرض بأشلائهم ... وأصبح البحر بهم مترعا

وآن للعقبان أن تكتفي ... ولآن للحيتان أن تشبعا

هو نفسه الجارم الذي يلين ويرق فيسيل ظرفاً وحلاوة في لهو - لحسن تصرفه - فيقول: -

يا سارقات الصبح طال ليلي ... فديتكن بعض هذا الدل

هل جاز في دين الغرام ذلي ... من لي بأن ألقى الصباح من لي؟

باللمح أو باللمس أو باللثم

فيكن ذات حسب ودين ... مشرقة الطلعة والجبين كأنها إحدى الظباء العين ... من عاذري فيهن من معيني

عيل بها صبري وطاش حلمي

حديثها سلافة النديم ... وخلقها تواضع اليتيم

فديتها من ملك كريم ... تعرف فيها نظرة النعيم

أنقى وأصفى من نطاف الغيم

وإن المعاني التي تتضمنها هذه الأساليب (سارقات الصبح، دين الغرام، طاش حلمي) من المعاني البديعة المبتكرة التي تدل على حسن تصرف الشاعر. وإن تشبيه الحديث بسلافة النديم والخلق بتواضع اليتيم، من التشبيهات الجليلة الرائعة.

وهو نفسه الجارم الذي يبكي أمير الشعراء (شوقي) ويصور فجيعة مصر والشعر فيه تصويراً مقدرة الجارم على التصوير الشعري فيقول: -

مات يا طير صادح تسجد الط ... ير إذا رجع الصدى تحنانه

نبرات تخالها صوت داوو ... د بلفظ تخاله تبيانه

مات شوقي وكان أنفذ سهم ... صائب الرمي من سهام الكنانة

أبك للشمس في السماء أخاها ... وإبك للدهر قلبه ولسانه

وابكه للنجوم كم سامرته ... مالئات بوحيها آذانه

وابك للروض واصفا ًيخجل الرو ... ض إذا هز باليراع بنانه

وابكه للخيال صفوا نقياً ... إنه كان في الورى ترجمانه

ملأ الشرق موت من ملأ الشر ... ق حياة وقوة وزكانه

ثم ينتقل بحسن تصرفه - من تصوير هول المصيبة بوفاة شوقي وخسلرةمصر والشرق العربي فيه، إلى تصوير قومية شوقي وحبه لمصر وتعلقه بكل ما هو مصري من نبل وخضرة وخمائل، وأنه يعشق من أجل مصر النيل والجزيرة وجسر إسماعيل وعين شمس و. . . و. . . فيقول: -

كان صبا بمصركم هام شوقاً ... برباها وبثها أحزانه

دفن اللهو والصبا في ثراها ... وطوى من شبابه عنفوانه

هي بستانه فغرد فيه ... وحبا كل قلبه بستانه يحرس الفن في ظلاله نواحيه ... ويرمي عن دوحه غربانه

يعشق النيل والخمائل ته ... تز بشطيه خضرة ولدانه

يعشق النيل والجزيرة تغر ... يه وقد لف حولها أردانه

يعشق الجسر والسفائن تهفو ... حوله كالحمائم الظمآنة

ويحب السواد من عين شمس ... ملئاً من روائه أجفانه

ثم يطلع علينا الجارم بعد ذلك بصورة جديدة - دون أن يعدم سعة الحيلة وحسن التصرف - صور فيها شوقي إماماً لمن ينشدون الخلود ومثلاً أعلى لمن يتوقون لحسن الذكرى وطيب الأحدوثة يحتذ به كل من تصبو نفسه إلى ذلك فيقول: -

هكذا كل من يريد خلوداً ... يجعل الكون كله ميدانه

هكذا فليسر إلى المجد من يشا ... ء ويرفع بذكره أوطانه

ثم يلم بأخلاق شوقي بأبيات ستة يجمع فيها مكارم الأخلاق التي يتسابق أعزاء الرجال في تحصيلها لتزداد بها عزتهم حصانة وقوة فيقول: -

خلق كالندى وقد نقط الز ... هر فحلى وشي الرياض وزانه

وصبا يملأ الزمان ابتساماً ... وحجا يملأ الزمان رزانة

وسماح يلقى الصريخ بوجه ... تحسد الشمس في الضحى لمعانه

شمم في تواضع وحياء ... في وقار وفطنة في لقائه

وحديث حلوه روعة الشعر ... فلو كان ذا قواف لكانه

ويقين بالله ما مسه الضعف ... ولا طائف من الشك شانه

ثم ينتقل بعد ذلك - وعماده حسن تصرفه - إلى مناجاة شوقي في حنان شعري وأسف على فراقه ودعاء له من قلبه مع اعتذار واعتبار قائلاً: -

أيها الراحل الكريم لقد كن ... ت سواد العيون أو إنسانه

نم قليلاً في جنة الخلد وانعم ... برضا الله واغتنم غفرانه

كيف يوفى الشعر من ملك الشع ... ر وألقى لغيره أوزانه

ورثاء البيان جهد مقل ... للذي خلد الزمان بيانه

نهج من المناهج القويمة السليمة رسمه الجارم بطبعه الشعري الأصيل وسار عليه فكان موفقاً فيما نظم من قصيدة. أليس هو النهج الذي رسمه عبد العزيز الجرجاني للشاعر وأوصاه بالتزامه ليسلم من الزلل فقال (ولا أمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه بل أرى أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبكائك ولا هزلك بمنزلة جدك. . .

بل ترتب كلامك مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف؛ ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام؛ فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به طريق لا يشاركه الآخر فيه).

عبد الجواد سليمان

المدرس بمعلمات سوهاج