مجلة الرسالة/العدد 87/مصر وأخواتها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 87/مصر وأخواتها

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1935


كأنما السؤال عن الناس كسؤال الناس لا يتفق مع الرخاء ولا يكون مع الغنى! فإن مصر والعراق يكادان من سعة العيش لا يذكران من وراء الحدود؛ والوحدة العربية في البلدلين على الرأي الأغلب حديث خُرافة أو حديث مجاملة! فلولا الأدب الذي يجمع الفؤاد بالفؤاد، ويربط البلاد بالبلاد، ويصل الأحفاد بالأجداد، لظلت منابت العروبة ومواطن الإسلام إغفالاً لا تُعرف، وإرحاءاً لا تُبلُ.

يزور المصري قطراً من أقطار العرب، فيكون أول ما يرد على سمعه عتب المحبين على الهجر، ولوم الأقربين على القطيعة، وعذل الجيرة على التخاذل؛ فيلقي معاذيره الملوم المحُرج في منطق عي ودفاع غير ناهض؛ ثم يزداد حرجه وتتخاذل حججه كلما رأى قلوبهم، تزخر بعواطفه، وصدورهم تجيش بأمانيه، وألسنتهم تضطرب بأخباره، ونهضتهم تسترشد بنهضته، ووجتههم تسير مع وجهته؛ فصحفه تُقرأ، وكتبه تدرس، وسياسته تحتذي وزعامته تتبع؛ ثم خصومته هي لهم خصومة، وحكومته هي عليهم حكومة، وقومه لقومهم أهل، وبلده لبلادهم قبلة حينئذ يقول لنفسه والخجل والعجب يتعاقبان على وجهه: إن وطني مترامي الحدود فلماذا أحده على الضيق؟ وقومي ضخام العديد فلماذاأحصرهم على القلة؟ وجيراني كرامُ يصفون المودة، ويصدقون العطف، ويولون المعونة، فلماذا أجعل بيني وبينهم سداً من الإهمال والغفلة؟ ن الأمم القوية الناضجة لَتُرخص الأموال والأنفس في التمكين لأدبها ونفوذها وعُروضها في الشرق، فكيف نعرض نحن عن ذلك وهو يأتينا عفواً عن طريق القرابة في البلد والنسب، والوحدة في اللغة والأدب، والمشابهة في الحظ والحالة؟

دع ما ترشد إليه الغريزة من تعاطف الأهل، وتناصر الضعاف، وتعاون الجيرة، وانظر في الأمر من جهة الفائدة: أليست سورية منفذ العراق إلى البحر المتمدن، والسودان طريق مصر إلى النهر المحيي؟؟ ومع ذلك فالعراق مصروف الهم عن سورية، ومصر قليلة العلم بالسودان، فلا تعرف عنه إلا أنه جزء من سياستها! أما أنه قطعة من جسمها، وكلمة من اسمها، فذلك ما لم تعلمه إلا بالسماع، ولم تفهمه إلا في المدرسة

يزور الرسالة الحين بعد الحين أخ من السودان أديب أو طالب، فلا نسمعه يقول أول ما يقول إلا هذا المعنى الواحد في صيغه المتعددة: لأننا لنعلم عنكم كل شيء، وإنكم لتجهلون عنا كل شيء! فسياستكم لا تعرف السودان إلا في المفاوضات، وأدبكم يقف بالوادي عند (الشلالات). وصحافتكم لا تدري أفي الأرض نحن أم في السموات! فهل عُني سياسي بتعرف بلادنا، أم تفرغ أديب لتصوير حياتنا، أم توفر صحافي على درس أحوالنا؟ ولعمري إذا فرقتنا السياسة ولم يجمع شملنا الأدب، فعلى أي صورة نلتقي، وعلى أي حال نتحد؟

ذلك ما يشكوه السوداني المخلص، ويأسى على حدوثه المصري المخلص، وبين الأسى والشكوى ناشئة من الأمل المسفر، وعزيمة من العمل المثمر، تتجليان في العاملين الصادقين من شباب الوادي وكهوله. فالعمل الجليل الذي هُديَتْ إليه ووُفقتْ فيه (البعثة الاقتصادية المصرية) من الرحلة إلى السوادن، والاختلاط بأهله، والاتصال برجاله، والاطلاع على أحواله، والتحدث إلى حكامه، فاتحةُ فصل جديد من تاريخ النيل الحديث، سيسجل فيه رجال الأعمال والأموال تصافُقَ البلدين الشقيقين على المودة وتواصلهما على المنفعة، وتآلفهما على التعاون

فتحت هذه البعثة الميمونة أبواب السوادن الحصينة للنشاط الاقتصادي المصري، وهيأت الأسباب إلى اجتماع الأيدي التي يسقيها النيل ويطعمها النيل على استغلال خصبه في عمران أرضه، واستثمار خيره لسكان حوضه

فإذا أضفنا إلى ذلك عناية الأدب والصحافة بتوحيد الهوى والثقافة، ألفنا من أغاريد الوادي، أعاليه واسافله، نشيداً واحداً تردده الشفاه البيض والسمر، وتتجاوبه سلاسل الجبال الخالدة.

إن الاقتصاد والأدب يكونان الجسم والروح، فلا بد منهما أولا لإنشاء الأمة وإذكاء النهضة وإحكام الصلة؛ وما غزا الغربيون ممالك الشرق إلا بالتعليم والتجارة؛ أما السياسة فلا تأتي إلا آخر الأمر، فتؤيد الواقع، وتثبت الحالة، وتنظم العلاقة، وتحمي المنفعة.

من أجل ذلك كان احتفال المصريين بوداع (البعثة) المصرية ولقاءها، واحتفاء السودانيين بفكرتها وأعضائها. هزاتٍ من العواطف الصادقة والحماسة الدافقة والشعور الواثق المطمئن بأسفار المستقبل عن وجوه الفوز، فيتصل الحبل وينتظم الشمل وتقوم الوحدة بين الشعبين الأخوين على أساس صحيح.

إن من وراء حدودنا اليابسة يا قوم آداباً لا تقل عن آدابنا يحسن أن تُعرف، وشعوباً تتصل بأنسابنا يجب أن تُؤلف، وأسواقاً تفتقر إلى إنتاجنا ينبغي أن تُكشف.

أما حَصْر النظر في حدود البحر فإدمان يفرق البصر، ويجمع الخطر، ويهجم بقوميتنا وأمانينا على الغرق!

أحمد حسن الزيات