مجلة الرسالة/العدد 87/ضرورة الوحدة الأدبية بين مصر والسودان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 87/ضرورة الوحدة الأدبية بين مصر والسودان

مجلة الرسالة - العدد 87
ضرورة الوحدة الأدبية بين مصر والسودان
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1935



بقلم التيجاني يوسف بشير

لن يكون مثل الأدب يصوغ الأمم على أسلوب واحد، ويصنع منها عقلية واحدة، ويقيم أساس وحدتها على الروح، وبناء مجتمعها على العاطفة، ودعامة ألفتها على الجمال، وقاعدة إخائها على الصدق، وصرح كيانها على يقظة الشعور، فلا يتزلزل ولا يضطرب

ولن يكون مثل الأدب يوحد بين مشاعر الأمم، ويعين على توحيد المنافع، ويحقق من حلم الوحدة بما فيه من صور الفكر وجمال الفنون. ولا يمكن لها من ذلك إلا أن تعنى به فتوحد من الأساليب، وتوافق بين الإنتاج، وتقارب بين الأفكار ووجهة النظر إلى الكون والحياة، فمركز الأدب في وحدة الأمم مركز الفكرة في خلق الأدب، تؤسسه على القوة، وتبعثه على الجمال، وتنهضه على العاطفة، فيكسب من دقائقها في الصياغة والتعبير ما يأخذ على قاعدته الأمم فيهبها من دقائقه هو ما نأخذ به أفرادها على وحدة الشعور وجماعاتها على توحيد المصلحة. ولا أنفع لمصر ولا أجدى للسودان في سبيل وحدتهما الكبرى من أن يعني كلاهما بتقريب الفكر من بعضه، وتوجيهه بعد ذلك إلى منحى واحد، فتحقق الوحدة في كل شيء، ويستقيم لهما التواشج ويتم الامتزاج

فالأدب كان وما يزال أصدق ما يحمل إلى الفرد خصائص الفرد، وأقوى ما يعكس على الأمة مميزات الأمة، فيجمع بينهما في المشابه، ويوفق بينهما في الميول. وهو بما يدفع من جمال ويصور من لذة، وينقل من مثلٍ للاجتماع، وفروضٍ للإنسانية، وقوالب للحياة، إنما يقتضي بما فيه من قوة الإيحاء أن يوحد من نظام الحياة في الشكل كما وحد بينه في الدخائل. وما فرضت أمة أدبها على أخرى إلا كان معنى ذلك أنها تفرض عليها النظام الذي تسير عليه، وتعين لها الحياة التي تؤمن بها، والغرض الذي ترمي إليه. فإذا جاءت مقاييس الأدب عندهما بمقدار واحد جاءت على وفق ذلك مصاير السياسة وأقيسة الحكم. وإن أوربا الآن لتبلغ بأدبها في الشرق ما جعل كثيراً من خصائص الحياة الغربية موزعة عليه بأوفى قسط وأوفره. وما كانت لتبلغ هذا المبلغ إلا بما يقوم به أدبها من بث صور الحياة العقلية في العالم. وعلى قدر ما فرضت أدبها على الشرق فرصت سيادتها عليه، وعلى قدر ما سنت له من أقيسة أدبها ومعايير الجمال فيه، كانت سياسة الحكم تنصب على مقاييس بقدرها كثرة وتعداداً

وإن مصر لتتمتع منذ قرون بعيدة بأدب فيه من خصائص (المصري) وملازمات حياته ما يكفل لها أن تنتظم الشرق في وحدة أدبية تامة متى كان لها أن تعنى بذلك عناية خاصة، وأن تعمل في سبيله، فتقيم له المؤتمرات وتدعو إليها، وتنظم له المجامع وتبعث له البعثات، وتكون له في كل بلد (رابطة)، وتنشئ من أجله في كل قطر سوقاً، لتضمن لها في كل شعب حقوقاً. ولكن مصر لم تعمل لذلك حتى في ألزم شعب لها وألصقها به. وذلك هو السودان. . .

كلما فكرت في تعليل ذلك لم أجد ما يشفع لمصر في إفلات ما كان وما لا يزال يتهيأ لها أن تحقق فيه أن السودان قطعة من مصر يصح فيها ما يصح في مصر، ويجري على هذه ما يجري على تلك. ولا ينبغي أن نخادع أنفسنا في تقرير الحقائق، فان كل ما حصل لم يكن إلا نتيجة طبيعية لجهل مصر بالسودان وإغفالها بدأة بدء توثيق العلائق الأدبية والروحية بينهما، حتى لقد استغل سادتنا الإنجليز جهل مصر الفاضح بنا فوطدوا مصالحهم في السودان وانتزعوا منه كل ما يدل على مصر، إلا علماً ما تكاد تحس له بوجود. ولو قد كان لمصر أن تصرف عنايتها بعد عام 1924 إلى العلائق الأدبية وتنميتها لما اتسعت الهوة الفاصلة بين القطرين إلى هذا المدى، ولما قامت الموانع حتى دون أبسط شيء لا يغير من مجرى الحوادث بقليل. ولكن مصر لم يكن يهمها بعد ذلك أن تعود للتفكير فيما يجعل الوشيجة بينهما قوية على الحوادث، جديدة مع الأيام حتى ضرب الإنجليز ضربتهم القاضية، ووقفوا دون المصري والسوداني حتى عن معرفة ما ليس بد أن يعرفه كل عن أخيه، لأنهم - وقد استغلوا هذا الجهل - كانوا يعلمون أن ما ضربوا عليه من العلائق كان شيئاً لابد منه، فلا ينفيه الإنكار ولا يطمس عليه النسيان أو التغافل. ولهذا فهم أشد خشية أن يطلع أحد، وخاصة إن كان سودانياً على الحقيقة التي عبثوا بها. على وجود الصلات التي دفنت حيةً بعد أن جهدوا في خنقها، ولكنها كانت أطول نفساً وأكثر حيوية أن تموت، على روابط صنعها الله وأحكم في توثيقها، ولا حل لما عقد؛ وكانوا موفقين فيما أرادوا من تفرقة، حتى لقد حاولوا بما يبثون ويذيعون من ضروب الإرهاب وألوان النكال أن يجعلوا اسم مصر بعد عام 24 شيئاً لا تسوغ القوانين النطق به، وكلما شددوا في النكير وأمعنوا في المنع، كان اسمها أشد إغراء وأكثر جاذبية وأقوى على لفت النظر، وحمل عامة الناس أن يبحثوا عن السر الغامض الذي يأبى عليهم الإنجليز الاتصال به. ومصر - ألا سامح الله مصر - مع هذا كله لم يكن يهمها أن تعرف عن السودان شيئاً وهي تطالب بكل ما فيه. . .!

والآن. . . . لقد بلغ الإنجليز ما أرادوا. وضربت يد الغدر والمطامع على كل شيء، حتى لتوشك أن تضرب على النيل فيتزلزل فينفلق فلا يعود يعرف أين تكون مصر. ولقد طالما عبثت الأطماع بما بين مصر والسودان من ألفة وتعاطف، وأفسد الاستعمار هنا - في السودان - والحماية هناك ما بين هذين القطرين من روابط وصلات كلها بر وكلها رحمة. . . الآن لقد تم لهم ما أرادوا، ففرقوا وباعدوا، وأغربوا في التفرقة، وأفلحوا في مغالطة الحقائق الطبيعية، وتنكروا لخرائط الجغرافيين، وكابروا وخادعوا أن يكون شيء من هذا جديراً أن يحملهم على الاعتراف بخطئهم فيما حاولوا أن يطمسوا عليه من صلات كانت مصر هي في الحق أول من أغفل العمل في توثيقها والعناية بها، فماذا تفعل الآن. . . .؟

نحن نطل اليوم على عهد جديد تأخذ العلائق فيه صوراً جديدة فيها من صحة المعرفة وحسن التفاهم ما يملؤنا ثقة بالمستقبل وإيماناً به، وشعوراً بالوحدة والعمل لها في جميع ما تقضي به مصالح القطرين، وفي كل ما لا ينبغي إلا أن يكونا متحدين في بطيعة (الجوار) إذا لم يكن إلا هذا ما يملي بوجوب هذه الوحدة في اتجاه الحس والشعور، وفي تبادل المنافع والمصالح. وأما وقد كان هناك من مستلزمات الوحدة ما يجعل الجوار في آخر قائمة العلائق من لغة ودين وأدب وعروبة ونيلٍ زاخرٍ هادرٍ متدفق يصور الرباط المقدس بين بلدين أشد ما يكونان تلازماً وارتباطاً. أما وقد كان كل ذلك فقد توفرت بواعث توحيد الأمتين كما يتوحد النيل قطرةً إلى قطرةٍ وموجةً إلى أخرى وفياً إلى فيض. ولكن على أي أساس يقوم؟ إن شيئاً من سيرة مصر الأولى في السودان لن يعود إليها والحالة كما هي من تفكك في علائق الأدب وتباينٍ في وجهة التفكير - هذا كلام صريح لا مكان فيه للتأويل - وإنا لنرى قبل ل شيء أن تقوم الصلات على الأدب في بعض ما تقوم عليه، ولن يمر على ذلك عهد إلا ويجيء من بعده ما يكفل للقطرين الشقيقين أن يدفقا على مجرى واحد كما يفعل النيل. لا أن تظل نقرأ ونسمع بإلحاح مصر في سبيل السودان، فنعجب لها وهي لا تعرف عنا شيئاً صحيحاً. فان من الخير لنا ولا أن نلتقي الآن على الفكر ونتصل على الأدب من أن نظل هكذا لا صلتُنا بصلة ولا تعارفنا بتعارف، ولا انفصالنا بانفصال. ففي مصر (روابط) للأدب وفيها مجامع للعلم، وعندها شباب مثقف، وفيها صحف كثيرة، فكم هو أنفع لها وأجدى للسودان أن تعنى صحفها بشئونه فتأخذها بالمعالجة، وتكب عليها بالدرس، وتتناول أدبه بالنقد والتحليل فتقارب بين الأدبين وتلائم بين الذوقين. وكم هو خير لنا ولها وأكفل للوحدة، وأبقى على المعرفة أن تبعث البعوث العلمية والأدبية - والاقتصادية كما فعلت الآن - فتحقق من حلم الوحدة بالعمل، وتخرج بأقوالها إلى التنفيذ

ام درمان - سودان

التيجاني يوسف بشير