مجلة الرسالة/العدد 863/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة لتوجيهية (2):

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 863/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة لتوجيهية (2):

مجلة الرسالة - العدد 863
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة لتوجيهية (2):
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 01 - 1950



غاية الأخلاق عند أرسطو

للأستاذ كمال دسوقي

قلت لك في حديثي الأول أنه بتعمل وتكلف كبيرين نستطيع أن تقتطع نظرية الخير والسعاد لأرسطو لدراستها وتعمقها: فإن هذه النظرية جزء من أخلاقه، والأخلاق جزء من مذهبه، والمذهب في جملته صورة للفيلسوف وعصره وبيئته.

ومن ثم، فإنه لكي تفهم الجزء المطلوب إليك دراسته حق لفهم، يجب أن تضعه في مكانه من الهيكل العام لفلسفة الأرسطية يجب أن تلم بحياة الفيلسوف، وتصنيف كتبه وترتيبها، ثم مذهبه في المنطق والطبيعة وما وراء الطبيعة ثم الأخلاق والسياسة، إلماماً تستطيع معه أن تبين مبلغ الانسجام في عناصر المذهب الأرسطي كله في صلته بالبئة اليونانية.

ليس تاريخ حياة الفيلسوف ذا أهمية إلا بمقدار ما يلقى من ضوء على جوانب فلسفته وما يكشف عن بواعث آرائه وفكره. وسترى أرسطوا في أخلاقه - كما هو في كل نواحي فلسفته، رجلا واقعياً تجريبياً تقوم آراؤه على منطق المشاهدة. ونتائج الملاحظة، في عصر مشبع بالخيال الأفلاطوني، والمثالية المتطرفة والأدب والفن. . . وذلك لما تيسر له من التربية الصحيحة في البلاط المقدوني حيث الترف والتفرغ للعلم وجمع النماذج والإحصاءات. . . هذه التربية التي لم تستطع العشرون سنة التي قضاها في أكاديمية أفلاطون أن تغير من أثرها القوي، فما يزال يختلف مع أستاذه حتى يتخرج عليه - أو يتوفى هذه عنه - أبعد ما يكونان في منهج، كل منهما وفلسفته:

يختلف المنهج عند أرسطو عنه عند أفلاطون، فإن هذا الأخير يسير على طريقة أستاذه سقراط في الحوار والجدل (الديالكتيك) الذي أدخله لأول مرة في اليونان زينون الإيلي في دفاعه عن وحدة أستاذه برميتدس وسكونه بحججه المشهورة، والذي عد أفلاطون إمامه وعمدته حتى أثر به في الأدب اليوناني خمسين سنة كما يقول المؤرخون.

أما أسلوب أرسطو فاسلوب عملي رصين، تذهب به الدقة والتحديد في اللفاظ والمصطلحات إلى حد الغموض أحياناً، ولكنها لا تؤدي به إلى استطراد أو إيجاز يخل أحدهما بمدلول القول. قد يكون هذا التقسيم لكتبه إلى أبوابها وفصولها وفقراتها بهذ البراعة والأحكام من عمل الشراح الكثيرين الذين تتلمذوت على أرسطو تسعة عشر قرنا أو تزيد (حتى بعد عصر النهضة الأوربية بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر)، ولكن مما لا شك فيه أن هؤلاء الأتباع والمفسرين ما كانوا ليصلوا إلى تصنيفها بهذه الدقة والسهولة والنظام، لو لم تكن هي مرتبة في فكر صاحبها وفي كتاباته بهذه الصورة.

وإنك لتلمس لأرسطو منهجاً خاصا في دراسة موضوعات كتبه مما تقرأ في موضوع الأخلاق الذي أنت بسبيله: فإنه إذ يحدد لك منذ البدء غاية دراسته التي يهدف إليها تحديداً واضحاً بالأمثلة يسرد لك كل ما قيل حول هذه الدراسة من آراء. وهنا يقال إن أرسطو كانت معلوماته أوسع ما في زمانه، وأنه في مرحلة دراسته الطويلة التي قاربت الأربعين سنة قد استوعب كافة النظريات في العلم والفلسفة التي ظهرت، فهو يورد لك طرفاً منها فيستبعد الخاطئ بعد نقده، ويستبقي الصواب بعد إنصافه وحمده، فيتقصى مشاكله ويزيد عليه بما يوءدي إلى النتيجة السليمة والحل الواقعي الصحيح. . والأخلاق لها عند أرسطو منهج يستقيه من مشاهدة واقع الحياة وملاحظة أمور الناس؛ وهو المنهج العلمي الصحيح لهذا العلم في عصرنا الحديث كما يقول به فلاسفة الإنجليز من الاخلاقيين. فعلى الأخلاق في نظرهم أن تعرض لدراسة ما هو كائن فعلاً لا كما يجب أن يكون.

وللأخلاق مكانها من فلسفة أرسطو، فإن لأرسطو في هذا الفن كتابين آخرين غير الأخلاق النيقوماخية المنسوب إلى نيقوماخوس ابن أرسطو من زوجته الثانية أربليس، الذي خلد في شخصه أسم أبيه هو، وخلد هذا في كتاب الأخلاق الذي أهداه إليه. أما الكتابان الآخران في الأخلاق، فأحدهما يسمى الأخلاق إلى أوديموس، وهو أسبق من أخلاق نيقوماخوس وأقل دقة وأحكاماً. والثاني يسمى الأخلاق الكبرى. وفيه يلخص أرسطو في مقالتين اثنتين ما سبق أن أورده في الكتابين آنفي الذكر.

والمكان الذي أريدك أن تضع فيه الأخلاق الأرسطية بهذا المعنى وفي مصادرها هذه أحب أن تنظر إليه من ثلاثة وجوه: مكان دراسة الأخلاق من مراحل حياة أرسطو ذاتها، في أي مرحلة هي؛ وهذه المصادر ذاتها أين يأتي ترتيبها في جملة مؤلفات أرسطو حسب تنصيف المؤرخين لها؛ ثم أخيراً الأخلاق كعلم وفن أين موقعها من العلوم الأخرى.

أما من حيث مكان الدراسة الأخلاقية من حياة أرسطو فتستيطع أن تقول إنها تأتي في دور الأستاذية من هذه الحياة - خصوصاً الكتاب الذي بيد أيدينا. وذلك لما تحمل هذه الكتب من أسماء تظن بها أن تجعل أرسطو من أصحابها في موقف الأب أو الأستاذ - من ناحية، ومن ناحية أُخرى لرسوخ قلمه وثبات فكره فيما يتعلق بدراستها، فإن حياة أرسطو يمتدُّ الطلب فيها (طلب العلم) حتى الثمانة والثلاثين، والرحلة والسفر وتثقيف الاسكندر حتى الخمسين، ثم يأتي دور اللوقيون والأستاذية والتأليف حتى الثالثة والستين، كما تجدون من تصفح تاريخ حياته.

أما موضع مصادر الأخلاق الارسطية بقية كتبه ولوحة مؤلفاته، فيأتي - حسب تصنيف أندرونيقوس الردوسي لجملة كتابات أرسطو - في المجموعة الرابعة، إذ تشمل المجموعة الأولى الكتب المنطقية بوصف المنطق مدخل العلوم ومقدمتها، أو الإبساغوجى كما يسميه مناطق العرب؛ وبوصفه علم العقل أو الآلة أو الأورغانون كما يقول أرسطو نفسه. ولابد من تقديم العلم الذي يفحص الأداة الفكرية قبل فحص الأفكار التي تمخضت عنها هذه الأداة ذاتها؛ ثم تأتي في المقام الثاني كتب الطبيعة، ومنها طبيعيات كبرى تبحث المبادئ العامة المشتركة في جميع الأشياء والطبائع؛ وطبيعيات صغرى تعرض لدراسة أمور جزئية بعينها، والمجموعة الثالثة يسميها الشارح ما بعد الطبيعة: أي التي تأتي في الدور والترتيب بعد كتب الطبيعة وسماها البعض ما وراء الطبيعة، باعتبار ما تعرض له من أمور لا تمت إلى الطبيعة ولا إلى الحس بسبب، بل هي إلى الأمور الكلية المجردة والمبدأ الأول وعلة العلل أقرب والحرف في أسم هذا العلم يحتمل التأويلين. وعلى كل حال فإن فلاسفة العرب يسمون هذا العلم الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي.

وبعد هذه العلوم النظرية بأقسامها الثلاثة تأتي العلوم العلمية والفنية؛ فالمجموعة الرابعة مختصة بكتب الأخلاق وكتب السياسة والخامسة خاصة بكتب الأدب والشعر والفن. فإن أرسطو قد كتب حتى في هذه الشئون، وما تدرس في تاريخآداب اللغات من أقسام القصة وأنواع الشعر والخطابة وغيرها أنت مدين به لأرسطو - هذا المارد الجبار الذي بم يدع علماً ولا فناً إلا سبق في الكتابة فيه؛ والذي يعيش الفكر الإنساني عالة عليه مهما جدد أو تقدم.

ولن يعسر عليك - بعد إذ وقفت على تصنيف كتب أرسطو أن تبين موضع الأخلاق في لوحة العلوم وقائمة المعارف عنده، لما هنالك من تقارب كبير بين تقسيم العلوم عنده وتصنيف الشراح لكتبه. فإن العلم ينقسم عند أرسطو - باعتباره الغاية التي يؤدي أليها - غلى نظري وعملي.

فالنظري غايته العلم والمعرفة لذاتها ابتغاء الوصول إلى الحقيقة. فإن تعلق العلم والمعرفة بموجود هو مادة وحس وحركة فهو العلم الطبيعي، وإن تعلق بموجودات مجردة عن هذه ولكنها كم ومقدار فهو العلم الرياضي. وإن كانت مطلقة التجريد عن ذلك كله فالعلم الإلهي أو الميتافيزيقا.

أما العلم العملي فليس الغرض منه مجرد الوقوف على الحقيقة أو الحق وبالإنجليزية أعني العلم للعلم والمعرفة لذاتها كالعلم النظري، بل يتجاوز ذلك إلى العمل والتدبير. فموضوعة الخير وبالإنجليزية فإن كان الخير الذي تنشده يتعلق بالإنسان وحده وفي ذاته فذلك علم الأخلاق. وإن تعلق بأسرته ومن يعاملهم من أهله فذلك تدبير المنزل؛ وإن أمتد ليتناول تدبير أمور المملكة أو الدولة جميعاً من حيث هي مجموعة فذلك علم السياسة.

رأيت إذن أين يضع أرسطو علم الأخلاق من لوحة علومه؟ هو أول العلوم العملية التي تدبر أمر الإنسان بما هو إنسان. فإن شئت بعد هذا أن ترجع معي إلى هذا التصنيف الذي توسع به فلاسفة العرب ونقله منهم الفارابي وابن سينا وغيرهم، فلاحظ ما يأتي:

(1) لم يدخل أرسطو في هذا التصنيف علم المنطق لأنه اعتبره مدخلا ومقدمة كما قلنا. وإنما أحل محله العلم الرياضي بعد أن قدم عليه الطبيعي، وأن لم يؤلف هو في الرياضة كتباً مستقلة.

(2) أن العلوم النظرية تتدرج حسب نزوعها إلى التجريد - فالميتافيزيقا أرقاها، ولهذا يسميها العرب العلم الأول (الطبيعيات) والأوسط (الرياضيات) والأعلى (الإلهيات).

(3) والعلوم العلمية تتدرج من الوحدة إلى الكثرة ومن تدبير شئون القرد إلى تدبير شئون الدولة.

(4) والعلم النظري أشرف من العملي لأنه يراد به كمال العقل الإنساني.

(5) كما أن العلم العملي أشرف من الفني لأنه يدبر أمر الإنسان ويتعلق به بينما يعمل الفن في الأشياء والمحسوسات.

وذلك بعض ما تجد في فلسفة أرسطو في ترتيب وانتظام ومذهبية.

وإنك بعد هذا لجدير بأن تقوم على قراءة أرسطو وتحليله معي بأفق أوسع وفهم جديد، حين تلتقي مرة ثالثة في الحديث المقبل إن شاء الله.

كمال دسوقي