انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 863/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 863/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 01 - 1950



أمسية الميلاد لدى الصعلوك

للكاتب الشيلي سلفادور رايسر

بقلم الأديب سليمان علي

كان يلبس بدلة سهرة أحمر اللون طويل الذيل، وعلى أذنيه الشعرواين تقوم في اتزان دقيق قبعة فخمة مريشة، وفي هذا اللباس الرسمي التاريخي كان يرقص فوق صندوق الموسيقى. وكان أمامه على الدوام حشد من النظارة، من الصغار والكبار، مجتمعين حول المعزف للتفرج عليه، معجبين بالمهارة التي يتبع بها أنغام الموسيقى المتغيرة، في نشوة من الضحك من حركاته المثيرة.

وكان لوجهه قدرة عجيبة على الحركة، ولم تنجب الطبيعة مخلوقاً أشد دهاء في تعبيراته الناطقة، وله هذه الثروة من الحركات المضحكة، وهذا الجسم الصغير العجيب المرن الذي تسكنه روح ذات حظ مماثل من المهارة والرغبة في بعث السرور والبهجة. وكانت الموسيقى، وهي حياته الهائمة، والحشد من النظارة، كلها تجلب له المتعة. فإذا جذبه طفل من ذيله مرة، لم بغضبه ذلك أكثر ما يغضب من الشمس المتوهجة على حفافي الطريق، أو من البقع التي يشحب لونها رويداً على ثوبه الأحمر الجميل. وكان سعيداً، وكان اسمه بيبي، وكان بالطبع قرداً.

وفي بعض الأحايين تتحرك خلطه السوداوي من فرط الحنين لوطنه، كما لو كانت بفعل الريح، فيسمع مرة أخرى أغنية وطنه الغاب، الصداح بالأطيار، ويرى الفهد ينساب بين الأجم، والتماسيح تزحف من الطين، وتنسم عبير الأزاهر الهائلة الذائبة التفتح في الحرارة الدائمة. وحينئذ يحرك ذراعيه الطويلتين، ويتذكر كيف كان يتسلق فوق أعالي الأشجار، أو ينزلق برشاقة على جذوعها المعمرة ألف عام، ويذكر وفي قلبه وخزة تلك الكروم التي تنتظم كلدانتلا بين أصابع الغاب الهائلة.

بيد أن هذه الأشياء ما كانت تقلقه إلا فيما ندر؛ فلقد كانت الحياة جميلة ولم يكن مستعبداً كغيره من القردة. كان يسافر في الطريق حراً مع سيده الذي كان صديقه كذلك. وإذا م شعر بحاجة إلى الرياضة، كان في وسعه دائماً أن يرقص على المعزف. وكان رقصه حقاً نوعا من العبادة، وكان القربان الذي يقدمه إلى ذكرياته عن الغابات الهائلة. ولم تكن لديه رغبة للعودة إليها إذ كان ذلك معناه فراق سيده، بيترسون الذي، كان يعبده عبادة. ولم يكن بيترسون يمتاز بشيء ولكنه كان في نظر بيبي يحتل مقام الإله، وكان ما يزال شاباً، شديد النحول، عيناه متعبتان زرقاوان، وشعره طويل يميل للصفرة، ولحيته مهملة. وكان رث الملابس، يمشي مشية بطيئة منتظمة، تلك المشية المملولة التي يمشيها من يدرك أن رحلته لن تكون لها غاية.

وكانت كل الطرق تعرف هذين الصعلوكين: الرجل الذي يحمل الصندوق، وبيبي الذي إما أن يكون قابعاً على كتفه أو دائم القفز في محاذاته، وما كانا يمكثان طويلا في مكان واحد، فكل مكان يبلغانه كان نقطة وصول ورحيل معاً. وفي الليل ينامان في جنبات الطرق تحت الأشجار، ويفضلان دائماً جوار المياه، عند نهر، أو على الأقل عند غدير صغير.

وأحياناً يكون الجو قائظاً، وأخرى يكون قاراً، وكان بيترسون لا يأبه لتقلبات الطقس، أما بيبي فكان يكره البرد، وفي الليالي العاصفة، الداوية بالرياح، كان يزحف تحت غطاء سيده الصوفي السميك الذي كان يأتي به ويرمقه من تحت بعينين قلقتين لا معتين.

وكان الرجل والقرد يفهمان بعضهما حق الفهم وكانا يتخاطبان بالإشارات البسيطة، والكلمات، والأصوات، وكانا يشعران بصلة غريبة وهما محوطان بوحدة الحقول الهائلة، ووحدة الأرض نفسها التي تفوقها كثيراً، كما يشعر الأخوان بأن كلا منهما ينتمي للآخر. وفي الظلام كان بيبي يمد يده الصغير الشعراء، يلتمس الثقة وهو يدرك أنه واجد في ملمس هذا الرجل النحيف الأبيض الأمان والحب.

كان بيترسون الإله، وبقية العالم من رجال وحيوان، وشجر وحقول وسماء، أشياء أبدعها من موسيقى معزفه. فإذا ما بدأت كان بيبي يرقص، جاعلا رجليه تتبعان النغم في دقة، يلقي بكليته إلى الحركات المعقدة التي تثيرها، ولم يكن ذلك بدافع العمل فحسب، بل بدافع من غريزته الحيوانية، بشعور مبهم لكنه عميق، نحو الإخلاص لسيده ونحو جمال العالم. وكان يرقص أحسن الرقص عندما يكون أسعد حالاً وأطيب نفساً، فيعبر بهذه الطريقة عن شكره وعن فرحه لكونه حياً يرزق.

وفي غسق يوم ذهبي، بلغا إحدى القرى. وكانت قرية صغيرة ذات شارع واحد يمتد على منحدر التل، وينتثر بين الأشجار بضعة منازل فحسب. بيد أنه قبل أن يضع بيترسون معزفه احتشد جمع من الأطفال حوله. وكانوا يهتفون بحبور لدى رؤيتهم بيبي، الذي كان يعابثهم بحركات وجهه، ويأتي بحركات مضحكة، وكلما ازدادوا ضحكاً ازداد سروراً. فلما صدحت الموسيقى، فخمة، مكهربة، كان في نشوة من الحيور، ومالت قبعته المريشة وهو يرقص، وأخذت ساقاه النحيفتان تتحركان بسرعة تزداد شيئاً فشيئاً.

وأخذ الحشد يزداد، وانضم إليه الآن بعض الكبار أيضاً، وكان بينهم شيخ حسن البزة يدخن غليوناً كبيراً، ويطرق برأسه مع الإيقاع الموسيقي، وكان يرمق بيبي بعطف وهو يرقص، وبيترسون وهو يدير يد المعزف كأنه رجل يبعث أسى قديماً، ولما انتهى الدور الثاني، ألقيت بضع نقود في قبعة بيترسون، ولكنها كانت قليلة، فأهل الريف في كرمهم محتاطون. وبينما هو يتأهب للذهاب أقبل الشيخ ذو الغليون وحدثه قائلا (لي حفيد صغير مريض، ولأن الليلة عيد الميلاد، فإنني أرغب أن أقدم إليه متعة فريدة، فهلا قبلت أن تأتي وتلعب له؟ أقصد بجوار فراشه لكي يستطيع أن يرى القرد وهو يرقص؟).

فأطرق بيترسون موافقاً، فلم يكن يحب استعمال الكلمات إذا استطاع إلى ذلك سبيلا. وانطلقا في الطريق معاً - حتى بلغا (فيلا) ذات سقف أحمر، تقوم بين دغل من الأشجار السامقة. ودفع الرجل باب السور، وتبعاه في الممشى المبلط الملتف حول أحواض الزهر المتلألئة حتى بلغا المنزل. ولما وصلا إلى السلم كان بيبي يهمهم بأصوات التطلع والتحمس؛ بيد أن بيترسون كان يمشي بعزم. ولكنهما ما كادا يجتازان عتبة البيت حتى وقف كالمأخوذ. فقد كان في منتصف البهو الواسع الجنبات شجرة من أشجار عيد الميلاد مشرقة بالأنوار.

ووقف بيترسون ساكناً لا يريم، وطرفه معلق بالشجرة. لم تكن شجرة حقيقية، ولكنها صنعت بمهارة من الورق المقوى والقماش، غير أنها كانت في نفس بيرسون محملة بالذكريات كأنما ينبعث من أبرها صمغ الصنوبر من مسقط رأسه، وكأنها تميل أمام الرياح العاتية في تلك الخلجات البعيدة، حيث الوجوه القديمة المحبوبة، وقد حدثته الشجرة بلغتهم، وهي تهمس في رفق عبر السنين التي تفصيل بينهم.

وكان بيبي يرتعش على كتفه في تعاطف. ومع أن الشجرة المقلدة لم تكن تهمه في شيء إلا أن طول الصحبة هيأ له السبيل النفاذ إلى قلب سيده، فأحس الآن بشيء غريب وحزين في أعماقه؛ لذلك تعلق بالكتف العريض وأخذ يرتعش، وأحس بحنين إلى مسقط رأسه دون أن يدرك السبب.

(هلا تفضلت وأتيت من هنا؟) كان الصوت المتكلم متقدماً في السن حاراً، وكانت صاحبته متقدمة في السن ذات حرارة أيضاً. ورمقتها بعطف وقالت ثانية (من هنا. . . هنا تماماً. . .)

وهز بيترسون نفسه وتبعها مجتازاً البهو ودخل من باب مفتوح. وكان في الغرفة التي دخلاها صبي أبيض الوجه مستلق على سرير في فتور. وأنزل بيترسون المعزف عن ظهره، وبدأ يدير الذراع. وتدفق النغم منه في قوة غير منتظرة بينما ترددت على حوائط المنزل أصداء وأصداء.

كانت نفس الموسيقى، الفالس القديم الذي تردد مراراً وتكراراً. بيد أنه كان هناك اختلاف. وكان يبدو للصعلوك أن المعزف فقد إيقاعه الميكانيكي المألوف وأنه لبى نداء عاطفته، كأنه آلة صنعت ليده بجرأة. . . فشجرة عيد الميلاد تلك بثلجها الصناعي المقلد، وهذا المنزل الفسيح المضيء، والقوم المسنون الطيبون، والغلام الصغير، جميعهم، أدركتهم الموسيقى، وكانت هنالك أيضاً، الصور التي في قلبه: الغابات الشمالية والوجوه واللغة التي كاد ينسى كيف يتكلمها.

وبينما كان يلعب كان بيبي يقفز في سعادة، وجلس الغلام المريض في سريره يصفق بيديه الضعيفتين، وأخيراً انتهى الدور، وسكت المعزف.

وكان بيترسون يهم برفعه إلى كتفه عندما وجد نفسه للمرة الثانية ذلك المساء في غيبوبة من العاطفة، قد هاجمته وأمسكت به، وقد توقف ذراعه في حركة صعوده، وعيناه محملقتان، فمن فوق رأس الشيخ كانت عينان في زرقة البحيرات الشمالية ترنوان إليه، عينان ساكنتان هادئتان، مليئتان بحنان لا يحتمل. وتقدمت امرأة طوال ذات حسن وجمال وهي تبتسم، وربتت على رأس بيبي. وقالت إن الموسيقى كانت لطيفة جداً، أفلا يمكنهم البقاء واللعب أمام ضيوفها قبيل منتصف الليل؟ ويمكنهم في نفس الوقت أن يستريحوا ويأكلوا في المطبخ. وأطرق بيترسون إطراقه خرساء. وخرج دون أن يجرؤ على النظر مرة أخرى.

وبعد بضع ساعات، حينما عادوا إلى البهو كانت الشجرة متلألئة كسماء صافية بالليل. كانت مئات الشمعات تبرق على أغصانها، وحولها لفيف من الناس يتكلمون ويضحكون كانوا يتنادون بالأسماء في ثقة كأنهم بذلك ينطقون بكلمة السر التي تسمح لهم بالدخول إلى وليمة الحياة. وكان الجو المرح، مرح القلوب المؤتلفة، يندفع كالغيم المتألق فوق رؤوسهم، ولم تلمس بيترسون الومضة المتألقة، وأحس أنه مطرود كلل. وظن لحظة أنه رأى العينين الزرقاوين اللتين أثرتا فيه كل هذا التأثير، ولكنهما غابا ثانية. وأنزل المعزف باحتراس في أحد الأركان وانتظر الإذن بالعزف.

وسرعان ما أعطاه الشيخ ذو الغليون الإشارة. وصحا بيبي الذي كان ممسكاً بلحيته وهو نعسان بدافع الخوف من صوت الموسيقى وقفز على سطح المعزف ولكن لم يلق إليه أحد بالا. فقد بدأ الناس يرقصون، رقصة الفالس على إيقاع الموسيقى، التي كانت تنبعث في اضطراب من المعزف القديم، وهم يغنون بصوت أعلى من صوته المنكسر، في حبور وانشغال حتى أن أحداً منهم لم يدرك متى تنقطع عن العزف. وتراجع بيترسون إلى ركنه، وهو من ارتباكه لا يستطيع معرفة السبيل إلى الخروج.

ودوت في الغرفة أصوات أجراس كنيسة آتية من بعيد ولكنها واضحة. وسكن القوم فجأة، وأقبل الشيخ نحو بيترسون ووضع في يده حفنة من النقود، وهو يشكره بأدب. فهم بيترسون يرد عليه ثم رفع معزفه إلى كتفه، وأخذ بيبي النعسان في ذراعيه وكان على مقربة من الباب عندما أبصر العينين الزرقاوين مرة أخرى وابتسمتا له من بعيد، وابتسم الوجه جميعه في ثنيات تصاعدية حتى أصبحت بيضاء اللون. وجمدت ملامحه وهي تعبر عن أسى بالغ، وكان وراءها دموع لم تذرف. فهو الذي مضت عليه سنوات لا يعرف له سكناً يأويه، ولا طريقاً يفضله عن طريق. هو الذي لم يكن له من رفيق سوى قردة الراقص، أدرك فجأة أنه سوف يعرف الآن الوحدة الحقة. شجرة صنوبر شمالية معلق بها أنوار، عينان جميلتان، وللمرة الأولى اللوعة الكاملة للفراق. . . وأحنى رأسه، بشكل مضحك. لقد كان يقول كلمة الوداع.

وفي الخارج، كانت ظلال مكدسة وسكون وسماء معلق بها أنجم هائلة منداة. وأغلق الباب خلفه ووقف على رأس السلم وهو يرسل الطرف في قلب الليل. كان وحيداً، وسيكون وحيداً أبدا. دان تنتظره أنوار في نهاية الطريق، والطريق نفسه لا نهاية له.

ونزل أول سلمة، ثم وقف فجأة. لقد فتح الباب مرة أخرى، والتفت فرأى، العينين الزرقاوين، والقامة الطويلة الرقيقة، وقد تحدد قوامها وهو يومض بين إطار الليل المظلم.

وتقدمت في تردد ومدت يدها. وقالت (سامحني. لقد رأيت. . . هنالك. . . هل في الإمكان أن أمد لك يد المعونة بأي سبيل؟) وجمد بيترسون في مكانه برهة، ثم أخذ اليد الممدودة إليه في بطأ؛ ولمسها بشفتيه ثم تركها تسقط، ووقف الجسم اللامع ساكناً في فتحة الباب، والضوء يكلل شعره كأنه ألسنة اللهب الصغيرة، وانتزع نظرته بعيداً وأسرع في النزول من السلم وأغلق الباب أخيراً ولكنه لم يبطئ من خطواته، وكان يكاد يجري حين بلغ قارعة الطريق. والتفت ذارعا بيبي حول رقبته وقرعت أجراس الكنائس إيذاناً بصلاة منتصف الليل.

محمد سليمان علي

المهندس