مجلة الرسالة/العدد 861/الملحمة الخالدة
مجلة الرسالة/العدد 861/الملحمة الخالدة
للأستاذ صبحي الصالح
هجرتك - يا رسول الله - ملحمة قدسية نفخ الله فيها من روحه وصور فيها بطولتك ورضيها للمؤمنين لحناً على قيثارة الذكرى. . .
هجرتك - يا نبي الله - ملحمة واقعية لم ينسجها الخيال، بل سجدت لحوادثها القرون والأجيال. . .
هجرتك - يا خاتم الأنبياء - ملحمة خالدة في أعماق القلوب تراها بصيرة المؤمن كلما استشفت حجاب التاريخ أبرز حادثة من حوادث الدهر!
ولقد افتتح الله ملحمة هجرتك بالاضطهاد والعذاب، واختتمها بالفتح والنصر: وبين الفاتحة والخاتمة سلسلة من صور بطولتك ومواطن شجاعتك، ومشاهد نضالك وجهادك، وثل صبرك وأناتك.
ولا غرو. . . فإنك - يا سيد الخلق - المثل الأعلى للشدة في الحق، صدعت به لا تخاف لومة لائم، ولا تضيق بتهكم ساخر، ولا تتألم من عدوان سفيه، بل كنت تجد فيما يحسبه الناس ألماً متعة سامية. . . وما أندر النفوس التي تستشعر مثلك لذة الآلام!
حتى في ذلك اليوم الذي لذت فيه بحائط من حوائط ثقيف وأويت إلى الظل تشكو إلى ربك ضعف قوتك، وقلة حيلتك، وهوانك على الناس، لم تنس أن تناجي مولاك الرحيم بتلك الكلمات التي أترعت قلبك بحلاوة الإيمان حين قلت في ختام ندائك الخفي: (إن لم يك بك علي غضب فلا أبالي).
بلى يا رسول الله كنت سعيداً بآلامك الفوادح، لا تبالي ما دام الله معك يهديك، ويسمع سرك ونجواك، ويكلأك في متقلبك ومثواك.
من أجل ذلك مكر الله بالقوم الذين مكروا بك، فأرسل إليك جبريل الأمين يحذرك من الكيد، ويرسم لك الخطة، ويعين لك المتجه: أن هاجر إلى طيبة ولا تبت على فراشك، فإن القوم يأتمرون بك ليقتلوك. فخرجت من بين المؤتمر تحرسك عين الله بينما رقد على فراشك ابن عمك الشجاع الذي نشئ في حجرك، وأشرب في قلبه حبك، وود لو يموت فداك
وهاجرت وصاحبك الصديق الذي حمل إليك جميع ماله، فأدركته الشفقة على أبيه الضرير وعلى ذويه، فسألته: ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فأجابك باطمئنان: أبقيت الله ورسوله، وأويتما إلى (غار ثور) في ضمير الليل. وقفا القوم آثاركما عند مبرق النهار، وكادوا يصلون إليكما، ويقتحمون الغار عليكما، حتى خاف عليك صاحبك الوفي فقال: لو قتلت فإنما أنا فرد من الأمة وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها يا رسول الله. ثم قال في جزع شديد: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا. . . فهمست في أذنه همستك الخالدة التي فيها رمز الشجاعة الحق: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا. فانزل الله سكينته عليك، وأيدك بجنود لا تراها أعين الناس، وصرف القوم عن الغار، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى؛ فارتدوا خائبين.
أما أنت يا رسول الله فوصلت إلى المدينة وصول الفاتحين، وجعلت فيها المهاجرين والأنصار إخواناً، والأوس والخزرج أعواناً، وجعلت تشريع السماء حكماً بين الناس، وجعلت هؤلاء الناس الذين آمنوا بك كالملائكة الأبرار، بل أصبحوا بهديك رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار!
يومئذ حملت القرآن في يمناك تهدي به المتقين، والحسام في يسراك تدفع به كيد البغاة وعدوان الظالمين، فقضيت على الفتن الحمر، وهدأت العواصف الهوج، وجعلت الدين لله، والعبادة للرازق ذي القوة المتين.
وبدلت العرب من بعد خوفهم أمناً، ومن بعد خصامهم حباً، ومن بعد يأسهم أملاً، ومن بعد قسوتهم حناناً، ومن بعد فوضاهم نظاماً، ومن بعد جهلهم علماً. . .
ولقد كان ربك - يا إمام الأنبياء - قديراً على نصرتك وعصمتك من أذى الناس؛ لكنه أراد أن يذيقك حلاوة النصر بعد مرارة الصبر والمصابرة والكفاح والنضال، حتى يفتح أعين الذين آمنوا على سنته في خلقه، فلا يغتروا بانتسابهم إلى الإسلام من غير جهاد، أو يستسلموا إلى الوهن وهم يحسبون أنهم على ربهم يتوكلون.
وهذه السنن الاجتماعية التي تعلمها المسلمون الأولون من ملحمة هجرتك جعلت منهم أبطالاً يرون الموت في سبيل الله هو الحياة الخالدة، ويرون الحياة إذا غشيها الذل موتاً أبدياً، فحملوا أرواحهم على أكفهم، واشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون.
ثم داول الله الأيام بين الناس، فاصبح المسلمون يترنمون بملحمتك من غير أن يفقهوا أسرارها، ويرددون ذكراها من غير ان تترك فيهم آثارها، فلقد نسوا سنن الله في خلقه أو تناسوها، ولقد جهلوا شريعتهم أو تجاهلوها، فأصبحوا - على كثرتهم - غثاء كغثاء السيل، وأصبحوا يا رسول الله ينتسبون إليك انتساباً، ويحملون من دينك أسماء وألقاباً، ويعيشون على هامش الحياة أذناباً وأعقاباً.
أجل يا سيد المرسلين. . . لقد أذن ربك المنتقم الجبار للزمن العاتي أن يعبث بهم، فنزع من صدور عدوهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، فعادوا بعدك كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمسوا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، يؤثرون حياة الهوان والعبودية على الموت في سبيل الكرامة والحرية حتى تداعت الأمم إليهم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فمزقتهم شر ممزق، وأذاقتهم عذاب الهون.
على أن ملحمة هجرتك - يا بطل الأنبياء - ما برح لها في بعض النفوس أثر، فلقد كتب الله لذكراها الخلود حتى تنفع المؤمنين بالموعظة، وتدعو بالحكمة، وتحي ميت القلوب، وتعيد مجد الدين.
ولقد أفتتح الله ملحمتك بالاضطهاد والعذاب، واختتمها بالفتح والنصر، فهل يريد التاريخ أن يعيد نفسه، وهل تبهرنا اليوم الشدائد والأهوال، لتخلق منا جيلاً جديداً، يستحق نصراً من الله وفتحاً قريباً؟
صبحي الصالح