مجلة الرسالة/العدد 861/إيمان عظيم
مجلة الرسالة/العدد 861/إيمان عظيم
للأستاذ أنور المعداوي
امرأة أحبت كل الحب، وآمنت كل الأيمان بمن تحب. . . وكانت عاشقة برح بها العشق فأذبل منها العيون وقرح الجفون وأحال ليلها سهداً متصلاً يرفده الشوق؛ وحنيناً مضطرماً يلهبه الوجد؛ وهياماً تكفر فيه الجنوب بالمضاجع وتسبح الدموع!
كان حباً عظيماً لأنه وليد إيمان عظيم. . . وهكذا تجسد الحب الصادق في أرفع منازله وأعمق منابعه وأنبل معانيه؛ لم تشوه من جلاله غاية، ولم تعبث بطهره غواية، ولم يرق إلى سمائه جناح في دنيا المحبين!
وما كان أعجبها قصة حب. . . بل وما كان أعجبها قصة حياة! حب لم يكن الباعث عليه شيئاً من الترهيب أو من الترغيب؛ وحياة ما أبعد الشقة فيها بين طرفين؛ وما أكثر التنافر بين بداية ونهاية. وحين يكون الحب خالصاً لوجه الحبيب فقد بلغ الذروة وأشرف على الأوج؛ وحين تكون الحياة تطرفاً في شوطها الأول فهي تطرف في شوطها الأخير، سواء أكان التطرف مصدره الاعتدال هناأمكان مصدره الانحراف هناك!
وهكذا كانت رابعة العدوية. . . وهكذا كانت عاشقة السماء. عاشت في عصر يحفل بالشذوذ ويعج بالمتناقضات، عصر أقبل فيه أناس على الرذيلة حتى ما يردعهم رادع من دين وحتى ما يزجرهم زاجر من خلق؛ فليلهم إغراق في الأثم ونهارهم إمعان في المعصية وأقبل غيرهم على الفضيلة متى ما تهدأ قلوبهم من خوف وما تسكن نفوسهم من قلق، فليلهم إيغال في التهجد ونهارهم إسراف في البكاء. وكانت البصرة في القرن الثاني للهجرة موطناً لأولئك كما كانت موطناً لهؤلاء. . . وإلى المتطرفين في الضلال والوزر سلكت رابعة أول الطريق، وإلى المتطرفين في الإيمان والزهد بلغت من هذا الطريق منتهاه.
انحدرت من صلب أبوين فقيرين؛ لم يجدا ليلة مولدها شيئاً مما يلف به كل وليد. . . وكانت مولاة لآل عتيك، وإلى بطن من بطون قيس تنتسب هذه القبيلة كما تنتسب إليها قبيلة أخرى هي بنو عدوة، ومن هنا سميت عند بعض المؤرخين برابعة القيسية وسميت عند البعض الآخر برابعة العدوية. وحين اكتملت لها الأنوثة ونضجت فيها الفتاة، فقدت العائل في شخص الأب حين مات وحرمت أسباب البقاء في البصرة حين أصابها القحط. .
فهامت على وجهها تلتمس المأوى الذي يرد عنها غائلة الجوع ويدفع مرارة الحرمان. ولكن الأمر ينتهي بها إلى أن تقع في يد من يذيقها ذل الأسر ووطأة الرق وحرقة الهوان!
وهناك، في ذلك السجن الذي لقيت بين جدرانه ألواناً من الظلم وفنوناً من الظلام، رفت روحها في سماء الحبيب أول رفة، وهمس صوتها أول همسة، وانطلقت من بين الجوانح أول مناجاة (إلهي! أنا غريبة يتيمة، أرسف في قيود الرق، ولكن غمي الكبير هو أن أعرف: أراض أنت عنيأم غير راض)؟!. . .
ويجيبها صوت لا تعرف مصدره، ولكن فيه الأمن للخائف والأمل لليائس والعدل للمظلوم: (لا تحزني! ففي يوم الحساب يتطلع المقربون في السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه)!
وامتد أول خيط تعلقت به رابعة لتصعد إلى السماء متكئة على يد الله!!
وكانت لحظة من لحظات الانقلاب في حياة تلك الصوفية المؤمنة، ابتدأت بالصوم والتهجد وقيام الليل، وانتهت بالتحرر من هذا الرق الذي عصف بكل بقية من أمل لولا رعاية السماء. . لقد رآها سيدها ذات ليلة ساجدة تصلي واستمع إليها مبتهلة تقول: (إلهي! أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمة عتبتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن خدمتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبدتك)! وانبثق في هذه المرة ضوء كما انطلق في المرة السابقة صوت، وكلاهما لا تعرف مصدره ولكن فيه الأمن للخائف والأمل لليائس والعدل للمظلوم. . . وإذا بسيدها مرتاع النفس ملتاع الضمير، يقضي الليل كله مؤرق الجفن مضطرب المضجع يريد أن ينتهي في أمرها إلى قرار. فإذا كان النهار مضى إليها يقول: (أي رابعة! لقد وهبتك الحرية، فإن شئت بقيت هنا ونحن جميعاً في خدمتك، وإن شئت رحلت أنى رغبت)!. . . وانطلقت رابعة إلى هناك، إلى حيث تقطف من رياض الحرية كل زهرة، وتعب من ينابيعها كل قطرة، وتستروح من أنسامها كل رخي طيب.
ولا ندري لم تخلت عنها يد الله فنسيت رسالة الأيمان لتتبع خطوات الشيطان؟ ولكنها لم تتخل عنها إلا إلى حين، لتعود بعد ذلك أكثر ما تكون تعلقاً به وحنيناً إليه وتهالكاً عليه. . . لقد اتخذت رابعة من مهنة العزف والغناء وسيلة لكسب العيش والسعي وراء الرزق، وهي وسيلة لم تكن مأمونة العواقب على كل حال، لأنها دفعت بصاحبتها إلى أن تغشى مجالس فيها اللهو والعبث والمجون، وفيها المشاركة في اللذات والانغماس في الشهوات ولا مناص عندئذ من الاستجابة لفنون الأغراء شأن كل جميلة من بنات حواء، وبخاصة إذا ما كانت صاحبة مزاج شاعري كمزاج رابعة، تقوده رهافة الحس وصفاء الطبع وجموح الخيال!
كانت فنانة، وكانت إنسانة. . . وفي الفن تسطع ومضات الرؤى وتتوهج الأحلام، وفي الإنسانية تشف نبضات الهوى وتفيض منابع الإلهام؛ وبهذين السلاحين راحت رابعة تشق صفوف البشر باحثة عن حبيب! ولكن الأرضليست موطناً لهذا الحب المثالي الذي ينشده الفن خالصاً من الشوائب وتبتغيه الإنسانية مبرأ من الأهواء. . . وإذن فلا مناص من أن تولي الفنانة الإنسانة وجهها شطر السماء!
وبدأت نقطة التحول في حياة رابعة. . . إن الماضي الجميل في كنف الحبيب الأعظم لا يزال يطل بذكرياته من خلف ستائر الضباب، وإن القلب الممنى لا يزال يبحث عن قطرة ماء يمكن أن تطفئ ظمأ هواه، وإن الخيال الحائر لا يزال يرقب الأفق البعيد في لهفة المتطلع إلى ما وراء الغمام. ومرة أخرى يمتد ذلك الخيط الإلهي غير المنظور، وتتعلق به رابعة لتصعد إلى السماء متكئة على يد الله!
وكان حباً عظيماً لأنه وليد إيمان عظيم. . . وإذا ما أحبت المرأة من أعماق قلبها فلا شيء في الدنيا يصرفها عن هذا الحب، مهما اعترضت طريقها المحن وامتحنت روحها المغريات! إنها تؤمن بحبها هذا الإيمان الخالص تبذله من ذات نفسها دون أن تنتظر عليه شيئاً من الأجر أو أشياء من العوض. حسبها أن تهب قلبها لمن تحب، وحسبها أن تفني فيه وتذر له الحياة، وحسبها أن تخرج من هذا الفناء بكثير من العزاء!
وأنها لتقدم الدليل من نثرها حيث تناجيه في هدأة الليل والناس نيام: (إلهي! أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك)!. . . فإذا أسفر الصبح هتف في موكب الشجن وقدة الهيام: (إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري: أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أمرددتها علي فأشقى؟! فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، ولو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك)!. . . وإنها لتقدم الدليل من شعرها مرة أخرى حيث تقول: أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فذكر شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فما الحمد في ذا، ولا ذاك لي ... ولكن الحمد في ذا وذاكا
وتسوق بعض المصادر هذه الأبيات في موقف اللقاء بينهما وبين (ذي النون المصري) حيث تطالعنا هذه القصة: (قال سعد بن عثمان: كنت مع ذي النون المصري رحمه الله في تيه بني إسرائيل، وإذا بشخص قد أقبل، فقلت: يا أستاذ! شخص قد أتى. فقال لي: أنظر من هو، فإنه لا يضع قدمه في هذا المكان إلا صديق. فنظرت فإذا هي أمرأة، فقلت: إنها امرأة. صديقة ورب الكعبة. فابتدر إليها وسلم عليها فقالت: ما للرجال ومخاطبة النساء! فقال: أنا أخوك ذو النون ولست من أهل التهم. فقالت: مرحباً، حياك الله بالسلام. فقال لها: ما حملك على الدخول في هذا الموضع؟ فقالت: آية من كتاب الله عز وجل، قوله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)؛ فقال لها: صفي لي المحبة، فقالت: سبحان الله! أنت عارفٌ بها وتتكلم بلسان المعرفة وتسألني عنها؟! فقال لها: للسائل حق الجواب. فأنشدت تقول:
أحبك حبين حب الهوى=وحب لأنك أهلٌ لذاكا
هذه نماذج من النثر والشعر تصور هذا الحب الإلهي في إطارها لخالد، وأنها لقليل من كثير. . . وأي إطار هو؟ أنه إطار اللهفة الضارعة التي تنشد الرضا عن هذا الحب ولا تنشد سواه، وتلجأ إلى كل وسيلة من الوسائل بغية الكشف عن أثر البذل والتضحية في حساب الخالق العظيم. . . وإنه لحساب لا يخطئ التقدير حين يزن بذل الباذلين وتضحية الصابرين، وأي بذل وتضحية في حياة رابعة أبلغ من أن تقص خادمتها (عبدة) من أنبائها فتقول: (كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها وهي فزعة: يا نفسُ، كم تنامين! وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور)! أو أن تحدث هي عن نفسها فتقول: (إني لأضن باللقمة الطيبة أن أطعمها نفسي، وإني لأرى ذراعي قد سمن لأحزن)!. . . أو أن يقول عنها ابن منظور: (دخلت علي رابعة وهي ساجدة، فلما أحست بمكاني رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة المستنقع من كثرة البكاء)!
ولم تكن تعبده رغبة في جنته ولا رهبة من ناره، وإنما كانت تعبده عبادة الذين يرون وجهه: (يا الهي، إذا كنت أعبدك خوف النار فأحرقني بنارك، أو طمعاً في الجنة فحرِّم علي جنتك، وإذا كنت لا أعبدك إلا من أجلك فلا تحرمني جمال وجهك). . . ويا له من حب ذلك الذي أذبل منها العيون وقرح الجفون، وأحال ليلها سهداً متصلاً يرفدهُ الشوق، وحنيناً مضطرماً يلهب الوجد، وهياماً تكفر فيه الجنوب بالمضاجع، وتسبح الدموع.
وما أروع العقاب حين يصل المحب من نفس حبيبه إلى المكان الذي يؤثره ويرضاه، هنالك ترفع الكلفة ويفسح الطريق ويتسع العفو الإلهي لكل مقال يقتضيه مقام، ولو كان اعتراضاً مهذباً أو غير مهذب في رأي الذين لا يشعرون. . . وإذا ما اعترضت رابعة على حكم القدر فلا تثريب عليها ولا جناح، لأنها في موقف النجوى التي يطلقها القلب المفعم بصدق الحب وحرارة الولاء، أو في لحظة الهوى العارم التي يخفت فيها صوت الشعور والوجدان؛ ولن يضيق حلم الخالق العظيم بصيحة تنبعث من فجاج روح كم قدمت إلى ربها صوراً فاتنة من أدب الخطاب، روح تلك الصوفية المؤمنة التي قال عنها مالك بن دينار: (أتيتها فإذا هي تقول: كم من شهوة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها. . . يا رب، أما كان لك عقوبة ولا أدب غير النار)؟!
لا يضيرني في رأيي من هذا العقاب الذي خطر لها يوماً أن تتوجه به إلى رحاب الخالق العظيم، لأنالعقوبة الكبرى في منطق رابعة العدوية ليست النار التي تحرق الأجساد حين يحال بينها وبين جنته، ولكنها النار التي تحرق القلوب حين يحال بينها وبين رضاه. . . وهذا هو الجحيم الذي كانت تتصوره في عالمها الفكري الذي طبع حبها بذلك الطابع الذي لا شبيه له ولا نظير.
ومع ذلك فقد ذهب بعض الغلاة إلى أن رابعة بهذا القول قد اجترأت على مقام الخالق العظيم. . . ولكنهم في غمرة هذا الغلو الحائر قد نسوا أن يذكروا هذه الحقيقة؛ وهي أن رابعة قد مكثت أربعين سنة لا ترفع رأسها حياءً من الله!!
أنور المعداوي