انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 861/أبو بكر الرازي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 861/أبو بكر الرازي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 01 - 1950



للأستاذ قدري حافظ طوقان

(لقد خصصت جامعة برنسيون في أمريكا أفخم ناحية في

أجمل أبنيتها لمآثر علم من أعلام الحضارة الخالدين - الرازي

-)

الرازي حجة الطب في أوربا حتى القرن السابع عشر للميلاد. ويعده معاصروه طبيب المسلمين غير مدافع. ظهر في منتصف القرن التاسع للميلاد وأشتهر في الطب والكيمياء والجمع بينهما. وهو بنظر المؤرخين من أعظم أطباء القرون الوسطى كما يعتبره غير واحد أنه أبوالطب العربي. قال عنه صاحب الفهرست، (. . . كان الرازي أوحد دهره وفريد عصره، قد جمع المعرفة بعلوم القدماء، سيما الطب. . .) وسماه ابنأبيأصيبعة بجالينوس العرب.

ولقد عرف الخليفة العباسي عضد الدولة مقامه، ورأى أنه يستغل مواهبه ونبوغه، فاستشاره عند بناء البيمارستان العضدي في بغداد في الموضع الذي يجب أن يبنى فيه، وقد سار الرازي في تعيين المكان على طريقة مبتكرة يتحدث بها الأطباء هي محل إعجابهم وتقديرهم. وضع الرازي قطعاً من اللحم في أنحاء مختلفة من بغداد ولاحظ سرعة سير التعفن، وبذلك تحقق من المكان الصحي المناسب لبناء المستشفى، وأراد عضد الدولة أن يكون في هذا المستشفى جماعة من أفاضل الأطباء وأعيانهم فأمر أن يحضروا قائمة بأسماء الأطباء المشهورين فكانوا يزيدون على المائة فاختار منهم خمسين بحسب ما وصل إلى علمه من مهارتهم وبراعتهم في صناعة الطب، فكان الرازي منهم؛ ثم اقتصر من هؤلاء على عشرة فكان الرازي منهم، ثم اختار من العشرة ثلاثة فكان أحدهم، ثم أنه ميز فيما بينهم فبان له أن الرازي أفضلهم فجعله مديراً للبيمارستان العضدي.

وكذلك اعترف بفضله الغربيون وعلماء أمريكا وجامعاتها. ومما يدل على تقديرهم للطب العربي ورجاله اهتمام جامعة برنستون بالحضارة الإسلامية؛ فقد خصصت أفخم ناحية في أبنيتها لمآثر علم من أعلام الحضارة الخالدين - الرازي - كما أنشأت داراً لتدريس العلوم العربية والبحث عن المخطوطات وإخراجها ونقلها إلى الإنكليزية ليتمكن العالم من الوقوف على آثار التراث الإسلامي في تقدم الطب وازدهار العمران.

كان الرازي منتجاً إلى أبعد حدود الإنتاج، فقد وضع من المؤلفات ما يزيد على المائتين والعشرين ضاع معضمها أثناء الانقلابات السياسية في الدول العربية ولم يبق منها إلا القليل في بعض مكتبات أوربا.

ألَّف الرازي كتباً قيمة جداً في الطب، وقد أحدث بعضها أثراً كبيراً في تقدمه وفي طرق المداواة. وقد امتازت بما تجمعه من علوم اليونان والهنود إلى آرائه وبحوثه المبتكرة وملاحظات تدل على النضج والنبوغ كما تمتاز بالأمانة العلمية، إذ نسب كل شيء نقله إلى قائله وأرجعه إلى مصدره. لقد سلك الرازي (كما يتجلى من كتبه) في تجاربه مسلكاً علمياً خالصاً، وهذا ما جعل لبحوثه في الكيمياء قيمة دفعت بعض الباحثين إلى القول: (إن الرازي مؤسس الكيمياء الحديثة في الشرق والغرب معاً).

وضع الرازي كتاباً نفيساً هو كتاب (سر الأسرار) ضمنه المنهاج الذي يسير عليه في إجراء تجاربه، فكان يبدأ بوصف المواد التي يشتغل بها ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعملها. وبعد ذلك يصف الطريقة التي يتبعها في تحضير المركبات. وصف الرازي في كتابه هذا وغيره ما يزيد على عشرين جهازاً - منها المعدني - وصفاً حالفه فيه التوفيق على غرار ما نراه الآن في الكتب الحديثة التي تتعلق بالمختبرات والتجارب. وفوق ذلك كان يشرح كيفية تركيب الأجهزة المعقدة ويدعم شروحه بالتعليمات التفصيلية الواضحة. ولسنا بحاجة إلى القول أن هذا التنظيم الذي يتبعه الرازي هو تنظيم يقوم على أساس علمي يقرب من التنظيم الذي يسير عليه علماء هذا العصر في المختبرات. والرازي من أوائل الذين طبقوا معلوماتهم في الكيمياء على الطب، ومن الذين ينسبون الشفاء إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض.

ويتجلى فضل الرازي على الكيمياء بصورة واضحة في تقسيمه المواد الكيميائية المعروفة في زمنه إلى أربعة أقسام أساسية وهي: المواد المعدنية، والمواد النباتية، والمواد الحيوانية، والمواد المشتقة. ثم قسم المعدنيات لكثرتها واختلاف خواصها إلى ست طوائف. ولا يخفى ما في هذا التقسيم من بحث وتجربة وهو يدل على (المام تام بخواص هذه المواد وتفاعلاتها بعضها مع بعض. . .) واستحضر الرازي بعض الحوامض ولا تزال الطرق التي اتبعها في ذلك متبعة إلى الآن. واستخرج الكحول باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة. واشتغل الرازي في حساب الكثافات النوعية للسوائل (واستعمل كذلك ميزاناً خاصاً سماه الميزان الطبيعي).

وجاء الرازي بفكرة جديدة تعارض الفلسفة القديمة الموروثة وهي (أن الجسم يحوي في ذاته مبدأ الحركة) وهي تشبه ما ذهب إليه (ليبنتز) في القرن السابع عشر. ويعلق (دي بور) على هذا فيقول: (. . . ولو أن رأي الرازي هذا وجد من يؤمن به ويتم بناءه لكان نظرية مثمرة في العلم الطبيعي. . .).

والرازي يعظم صناعة الطب وما يتصل بها من دراسات. ولعل هذا من عوامل اهتمامه بالكيمياء. وهو ما يمتاز على الأطباء الذين عاصروه والذين أتوا بعده في كونه لمس أثر النواحي النفسية في العلاج والتطبيب. فهو يرى (. . . أن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس) ذلك لأنللنفس الشأن الأول فيما بينها وبين البدن من صلة، فنجد أنه أوجب على طبيب الجسم أن يكون طبيباً للروح. فمن أقواله التي وردت في كتبه: (. . . على الطبيب ان يوهم مريضه بالصحة ويرجيه بها وإن لم يثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس. . .).

وللرازي مؤلفات قيمة في الطب، ولعل كتاب الحاوي من أعظمها وأجلها. وهو يتكون من قسمين: يبحث الأول في الأقرباذين، والثاني في ملاحظات سريرية تتعلق بدراسة سير المرض مع العلاج المستعمل وتطور حالة المريض ونتيجة العلاج وقد عدد (ماكس مايرهوف) للرازي 33 ملاحظة سريرية في أكثرها متاع وطرافة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية واعتمد عليه كبار علماء أوربا وأخذوا عنه الشيء الكثير وبقي مرجعهم في مدارسهم وجامعاتهم إلى منتصف القرن الرابع عشر للميلاد. وله كتب أخرى جليلة دفعت بالطب خطوات إلى الأمام، منها كتاب المنصوري الذي يحوي على وصف دقيق لتشريح أعضاء الجسم كلها. وهو أول كتاب عربي وصل إلينا في هذا البحث. ترجم إلى اللاتينية وكانت له أهمية كبرى في أوربا وبقي معمولاً به عند الأطباء وفي الجامعات حتى القرن السابع عشر للميلاد. وله أيضاً كتاب في الأمراض التي تعتري جسم الإنسان وكيفية معالجتها بالأدوية المختلفة والأغذية المتنوعة وقد أجاد فيه إجادة أثارت دهشة أطباء الغرب. وبقي هذا الكتاب عدة قرون دستوراً يرجع إليه علماء أوربا في الموضوعات والبحوث الطبية. وله كتاب الأسرار في الكيمياء ترجمة (كريمونا) في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد، وكان الكتاب المعول عليه والمدرسي في أوربا مدة طويلة. وقد رجع إليه (باكون) واستشهد بمحتوياته.

وكذلك للرازي كتاب نفيس في الحصبة والجدري هو من روائع الطب الإسلامي عرض فيه للمرة الأولى تفاصيل هذه الأمراض وأعراضها والتفرقة بينها. وقد أدخل فيه ملاحظات وآراء لم يسبق إليها، ترجمه الأوربيون إلى اللاتينية وغيرها من اللغات. وله كتب عديدة وردت في كتاب طبقات الأطباء لا يتسع المجال لذكرها. ولكن من الطريف أن نذكر أن أحدها كتاب موضوعه (كتاب من لا يحضره الطبيب) ويعرف بطب الفقراء وقد شرح فيه كيفية معالجة المرض في غياب الطبيب والأدوية الموجودة في كل مكان.

وأعترف الغربيون بمآثره وابتكاراته في أمراض النساء والولادة والمسائل الرمدية. وكذلك له جهود في الأمراض التناسلية وجراحة العيون. وفوق ذلك قال بالعدوى الوراثية.

وأختم الكلام عن الرازي بالقول الشائع المعروف:

(كان الطب معدوماً فأحياه جالينوس، وكان الطب متفرقاً فجمعه الرازي) والرازي في الواقع لم يقف عند الجمع بل أضاف إضافات مهمة دفعت بالبحوث الطبية والكيماوية خطوات إلى الأمام.

قدري حافظ طوقان