مجلة الرسالة/العدد 860/محمود حسن زناتي
مجلة الرسالة/العدد 860/محمود حسن زناتي
كنا ثلاثة ألفت بيننا وحدة الطبع والهوى والسن؛ فالطبع مرح فكه، والهوى درس الأدب وقرض الشعر، والسن فتية لا تجاوز السادسة عشرة. وكان طه قاعدة المثلث، ومحمود وأنا ضلعيه القائمتين، أو كان المبرد صاحب الكامل قلب الطائر، والزمخشري صاحب الكشاف، وثعلب صاحب الفصيح، جناحيه الخافقين وتلك كانت ألقابنا على الترتيب، لقب بها بعضنا بعضاً لنزعة فكرية أو فنية كان ينزعها كل منا في نظر أخويه. ووجه الشبه بيننا وبين المثلث أن وجودنا كان كوجوده، لا يتصور في الذهن ولا في الخارج إلا بأضلاعه الثلاث على أي شكل يكون وأما وجه الشبه بيننا وبين الطائر فإن حياتنا كانت كحياته، تردد إلى كل روضة، وتغريد على كل شجرة، وتحليق في كل جو. كنا نتنقل من حلقة العلم إلى درس الأدب، ومن درس الأدب إلى مجلس الشعر، ومن مجلس الشعر إلى دار الكتب، ومن دار الكتب إلى الجامعة المصرية القديمة، ومن الجامعة إلى إدارات الصحف نعرض عليها ما كنا نسميه يومئذ شعراً؛ ثم ننتهي إلى دار أحدنا فنتدارس ما حصلنا من علم، ونتذاكر ما حفظنا من أدب، ونتنادر بما سمعنا أو رأينا من سخف، فإذا أخطأنا أو نسينا لجأنا إلى ذاكرة طه العجيبة فتعيد ما وعت لا تخرم منه حرفاً؛ فنصحح أو نستكمل أو نستفيد. وإذا سئمنا أو ونينا فزعنا إلى حافظة محمود الخصيبة فيسري عن خواطرنا بمقطعات من أعذب النوادر يحكيها عن نفسه، أو يرويها عن أبيه، أو ينقلها عن حياته وزناتي محدث طليق اللسان متفنن الحديث تسمع منه النادرة عشرين مرة وكأنك لم تسمعها من قبل لجمال عرضه وجاذبية أسلوبه. ثم كان الطائر بقلبه النابض بالأمل والحب، وبجناحيه لخافقين بالخيال والنشوة، يضيق أحياناً بعشه الباغم في ركن من الرواق العباسي بالأزهر المدوي الهادر، فيخرج إلى هدوء الطبيعة يستمتع بمفاتنها في خمائل المطرية أو حدائق الجزيرة، فنتصل بالحياة العصرية، وننال من ثمار المدينة، ثم نعود إلى الأزهر فنجد الاختلاف شديداً بين حياته وحياة الناس فنقلق ونثور، ويكون مظهر هذا القلق وهذه الثورة التمرد على الأزهر المنعزل عن العالم، والسخر من الطلاب المنصرفين إلى الفقه، والعبث بالشيوخ الجاهلين بالأدب وكنا حينئذ في عهد اليفاعة حين يكون العيش كله حباً عارماً لحبيب غير مشهود ولا معهود. كان كل منا يحب أخويه حباً غلب على كل شيء. فإذا اجتمعنا عكفنا على هوى واحد هو الأدب، وإذا افترقنا نزعنا إلى هوى هو نحن الثلاثة. وكنا نعبد الجمال في أي معنى وفي أي صورة، والجمال في حياة أيفاع من طلاب الأزهر لا يرون غير الدمامة، ولا يسمعون غير الفدامة لا يمكن إلا أن يكون حلماً أو خيالاً أو مثالاً أو شيئاً من نحو ذلك، وكنا نعشق الكتب فلم ندع كتاباً في الأدب مطبوعاً ولا مخطوطاً إلا قرأناه أو قلبناه، والمكتبة العربية كانت يومئذ بالنسبة إلينا (الكتب خانة المصرية). وكان محمود أشدنا غراماً بالمكتبات والمخطوطات، فكنا حين ننصرف، طه وأنا، لدراسة الفرنسية ينصرف هو إلى مكتبة الأتراك، أو مكتبة الأزهر، أو دكاكين الوراقين، ينقب عن نوادر الكتب فيستعيرها أو ينسخها أو يشتريها، لذلك كان أعلم الناس بأسماء الكتب وسماتها وشياتها وموضوعاتها ومؤلفيها، وقد ظهر أثر ذلك حينما عمل مغيرا في دار الكتب المصرية فقد انتقد فهارس الدار نقداً قويا عنيفا كان مثار خصومة بينه وبين زملائه. ومحمود كان لا يلاين ولا يهادن إذا كان معه الحق. ولقد كان عمله في وزارة المعارف وفي وزارة الأوقاف نزعاً متصلاً بينه وبين رؤسائه، لأن الوظيفة الحكومية تقتضي صاحبها المصانعة والمهاواة والمساهلة، ومحمود كان مستقيم الطبع فلا يلتوي، شديد الإباء فلا يستكين، قوي الشكيمة فلا ينقاد، حافظ العهد فلا يغضى. من أجل ذلك طلب أن يحال إلى المعاش فأحيل قبل سنه بعشر سنين.
عرفت محموداً في درس النحو، وعرفت طه في درس الأدب، وكان بين المعرفتين شهران أو ثلاثة. كنت أحضر درس النحو الذي يلقيه الشيخ عبد الله دراز في مسجد محمد بك أبو الذهب، وكانت لي بين رفاقي شهرة بصنع الكلام الموزون المقفى، فكان هذا يطلب مدحه في باشا، وذاك بطلب تهنئة لعمدة، وذلك يريد مرثية في قريب. وعلم ذلك محمود فجاءني ذات يوم وأنا في الدرس يشكو إلي أنه صنع تاريخاً لمولود في شطر ولكنه يحتاج إلى واحد ليتم به عدد السنين 1904. فنظرت في التاريخ فأعياني أن أجد هذا الواحد، فقلت له أكتب الشطر الأول هكذا: (وبالفرد استعنت لكي أؤرخ) والفرد معناه الله ومعناه الواحد المطلوب. فضعه بين قوسين واحسبه واحداً. أما جزم المضارع فللضرورة، والضرورات ترفع المجرورات. فسر محمود بهذا الحل سروراً عظيماً وصحبني في ذلك اليوم لا نكاد نفترق حتى أثلثنا بطه في درس المرصفي، فتوثقت بيننا عرى المودة، وتصادقنا على المحبوب والمكروه، وتصافينا على القرب والبعد، ومُلِّي كل منا أخويه خمساً وأربعين سنة تصدع فيها الشمل، وافترق الطريق، واختلفت الحظوظ، واتسعت الفروق، وثقلت الأعباء، وكثرت الأصدقاء، وتوزع القلب، وتغيرت الدنيا، واحترب العالم كله مرتين، ولكن صداقة الشباب ظلت راسخة الأصل في أعماق الفؤاد لا يعبث بها الحدثان ولا ينال منها الزمن.
كنا ثلاثة فأصبحنا اثنين: طه حسين وأنا. أما محمود زناتي فقد سبقنا إلى الغاية التي لا بد أن يبلغها كل حي. مات محمود وبكاه طه في (الأهرام) بكاء هز قلب الخلي واستدر عين الغريب. وبكاء طه على محمود بكاء على عهد مضى لن يعود، وعلى صديق قضى لن يعوض - مات محمود على فراش غير دافئ ولا وثير؛ لأنه كان وحيد أبويه، وكان أبوه وحيد جديه، فلم يكن له من عصبيته لا أخ ولا عم، وكان الله قد جعله عقيماً فلم يكن له من صلبه ابن ولا بنت. ونزل به منذ ثلاث سنين مرض فادح طال وأعضل حتى سلبه الأمل وحرمه الراحة ونقله بنو أخواله إلى ناي وهو في نهاية الشوط ونزاع الروح. وكان طيلة مرضه إذا هذى ينشد شعر الشنقيطي وكان يحفظه كله، وإذا وعى ذكر طه والزيات وتمنى لو يهادنه المرض وتعاوده الصحة فيغشى ما كان يغشى من أماكن، ويزور ما كان يزور من أصحاب! رحمك الله يا محمود وبرد بالغفران والرضوان ثراك! لقد كنت حريصاً على الوداد حين ضاع الوداد، وسخياً بالوفاء حين عز الوفاء. وأحسن الله عزاءك وأطال بقائك يا أخي طه! لقد ذكرتني أواخر الصبا وأوائل الشباب وعهداً غفل عنا الزمان فيه فنعمنا بالإخاء المحض والصفاء الخالص! ومن الذي ينسى أيها الأخ الكريم ربيعه وهو في الخريف، وشروقه وهو في الغروب؟ لقد ابتدأنا في الرواق العباسي ومعنا الشباب والأمل ومحمود، ثم انتهينا إلى مجمع فؤاد ومعنا الشيخوخة والذكرى ولا شيء!
احمد حسن الزيات