مجلة الرسالة/العدد 860/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 860/رسالة النقد
نهضة العراق الأدبية القرن التاسع عشر
للأستاذ إبراهيم الوائلي
(تتمة لما نشر في العدد الماضي)
لندع هذا ونتحدث عن إعجابنا بموقف الدكتور من الرثاء عند السيد حيدر ولا سيما في رثائه لأل البيت وبخاصة الإمام الحسين، فقد وفى الدراسة هنا عمقا وتحليلا وتحدث عن العوامل النفسية والثقافية التي هيأت للشاعر هذا الجو الفسيح وكونت منه شاعراً متين التعبير قوي العاطفة مشبوب الإحساس يستطيع أن يحلق بجناحين من صدق الشعور والأداء مع الشريف الرضي ومهيار الديلمي. وأهم هذه العوامل كونه علوي النسب يتصل بالإمام الحسين، وكونه نشأ يتيما فقيراً، ثم ثقافته التي تلقاها في مدينة الحلة تحت رعاية عمه السيد مهدي الشاعر المعروف وتردد على أندية بغداد والنجف حتى ذاعت شهرته في العراق بما وهب من قلبه للألم والحسرة، ومن لسانه للتعبير الصادق، فترك سبعا
وعشرين قصيدة معظمها في مأساة الحسين وكلها من وحي الألم الدفين واللوعة المكبوتة. ومن هذه الروائع قوله في قصيدة يرثي بها الإمام الحسين ويبدؤها بالفخر والتحسر:
إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم ... فلا مشت بي في طرق العلا قدم
لا بد أن أتداوى بالقنا فلقد ... صبرت حتى فؤادي كله ألم
عندي من العزم سر لا أبوح به ... حتى تبوح به الهندية الخذم
لا أرضعت لي العلا ابنا صفو درتها ... إن هكذا ظل رمحي وهو منفطم
والقصيدة طويلة فيها من الملاحم تصوير البطولة في أعنف أدوارها، ومن المآسي نهاية هذه البطولة إلى القتل الشنيع، ذلك هو موقف الحسين كيف بدأ وكيف انتهى. وكل قصائد السيد حيدر في فاجعة كربلاء لا تقل أهمية عن هذه القصيدة من حيث التصوير والعاطفة.
وكنت أود من الدكتور أن يضع السيد حيدراً في مصاف شعراء المآسي أمثال (إشيل) و (اسفوكل) و (اوروبيد) قبل أن ينتظر منه آلام (فرتر) وتأملات (لامارتين) فإن المآسي توجد في كل زمان ومكان. وقد وجد السيد حيدر مأساة حقيقية علقت دماؤها بالفرات وامت شفقها الأحمر إلى ما وراء ذلك فأطلق لها لسان الشعر يصبغه بمشاهدها الحزينة وألوانها الحمر ويسبغ عليها من القصة حبك الأسلوب وربط الحوادث وروعة التصوير. ولا تزال - تحتل المكانة الأولى من قصائد السيد حيدر - وستبقى في مواكب عاشوراء في العراق وغير العراق.
وتحدث الدكتور عن الشيخ التميمي وسماه (أبا تمام الصغير) لأن المترجم له كان مولعا بشعر الطائي معجبا به مقتفيا أثره في البديع والتلوين اللفظي وإن لم يدرك شأوه. ولولع التميمي بالطائي رثاه بقصيدة على ما بينهما من بعد في الزمن. ودراسة الدكتور لهذا الشاعر لا تعدو ترجمة حياته العلمية والمادية مع شيء من المقارنة بينه وبين أبي تمام. ولكنها على كل حال دراسة قيمة ذات شأن في تاريخ هذا الشاعر.
وممن تحدث عنهم الدكتور البصير شاعر أثير في نسبه ومكانته السياسية والأدبية وهذا الشاعر هو عبد الباقي العمري الموصلي، ففي نسبه يتصل بالخليفة عمر ابن الخطاب، وفي مكانته السياسية كان نائبا لوالي الموصل فنائبا لوالي بغداد وهو منصب له خطره وشأنه في ذلك الوقت، وفي مكانته الأدبية كان شاعراً من الطبقة الممتازة في عصره. وكان لشعره صدى عظيم في مدن العراق وقد ساجله وقرظ شعره طائفة كبيرة من شعراء عصره منهم السيد حيدر والأخرس، وأنتج غير مؤلفاته الأخر ديوانين من الشعر أحدهما (الترياق الفاروقي في منشآت الفاروقي) وقد طبع في مصر، ويشمل هذا الديوان قصائده السياسية والاجتماعية وما قاله في المدح وفي مطارحاته مع الشعراء، ومن أبدع النماذج التي اختارها الدكتور من هذا الديوان قول الفاروقي في وصف التلغراف.
ذو نقرات تسمع الصم الدعا ... وكم بها من عبرة لمن وعى
نهاية الإيجاز في تقريره ... وغاية الإعجاز في تعبيره
مسافة العام مع العامين ... يقطعها كطرفة في العين
في لحظة من مركز الخلافة ... يسري فينتهي إلى الرصافة
وسيره في سائر الأقطار ... ألطف من طيف الخيال الساري
إن الذي أبدعه تخييلا ... (مستوجب ثنائي الجميلا)
أما ديوانه الثاني فهو (الباقيات الصالحات) ويشتمل على مدائحه في النبي الكريم والإمام علي وأولاده من الأئمة الإثنى عشر، والذي يجب أن يقال: أن العمري لم يكن شيعي المذهب ولكنه يظهر في ديوانه هذا صاحب فكرة واضحة فهو يحمل إلى جانب إحساسه الديني شعوراً سياسياً يتجلى كل منهما في حملته الشعواء على بني أمية لجعلهم الخلافة وراثية بعد أن كانت انتخابية، ويتعرض لمصرع الحسين في كربلاء بأكثر من قصيدة ويحكم بكفر يزيد بن معاوية، ومما قاله في بني أمية:
واحربا يا آل حرب منكم ... يا آل حرب منكم واحربا
لكم وفيكم وعليكم وبكم ... ما لو شرحناه فضحنا الكتبا
ومن أشهر مدائحه في النبي (ص) قصيدته التي يقول فيها:
تخيرك الله من آدم ... ولولاك آدم لم يخلق
كما أن له في الإمام علي قصائد مشهورة منها التي يقول في أولها:
أنت العلي الذي فوق السما رفعا ... ببطن مكة وسط لبيت إذ وضعا
وقد شرحها أبو الثناء الآلوسي. ومن هذه القصائد قصيدة مشهورة يصف بها رحلته النهرية إلى الكوفة وهو قاصد زيارة الإمام علي ففيها إلى جانب المدح وصف رائع للسفينة التي أقلته إلى الكوفة:
بنا من بنات الماء للكوفة الغرا ... سبوح سرت ليلا فسبحان من أسرى
تمد جناحا من قوادمه الصبا ... تروم بأكتاف الغري لها وكرا
والغري أسم من أسماء النجف، وكان المنتظر أن لا يغفل الدكتور هذه القصيدة من بين ما اختاره للشاعر فهي من روائع الشعر.
ومن أبياته المشهورة في رثاء الحسين قول يخاطب نهر الفرات:
بعداً لشطك يا فرات فمر لا ... تحلو فإنك لا هنى ولا مرى
أيسوغ لي منك الورود وعنك قد ... صدر الإمام سليل ساقي الكوثر
ومن طريف ما يذكر عن وفائه لأصحابه ببيتان كتبهما على ديوان الشيخ صالح التميمي الذي سبقت الإشارة إليه وهما:
نعم، رب هذا الشعر قد كان صاحبي ... يلائمني في فنه وألائمه
وقفت على ديوانه بعد بعده ... (وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه) وتحدث الدكتور عن عبد الغفار الأخرس فتناول شعره وحياته خير تناول وسايره في كل المواضيع التي نظم فيها ماعدا ناحية واحدة لا أدري لماذا أغفلها الدكتور وهي ناحية الألم والحزن والتبرم بالحياة، فالأخرس إلى جانب مجونه ولهوه وما يصوره شعره من هذا المجون واللهو كان يضيق بدنياه في كثير من اللحظات ولا سيما أن حياته المادية كانت ضنينة النبع - فيتألم ويصف ألمه، وفي ديوانه ما يكفي لتسجيل هذه الظاهرة وقد أتناول هذه الناحية عند الأخرس في فرصة أخرى.
وفي الكتابة عدا هؤلاء دراسات وافية عن السيد جعفر الحلي والسيد إبراهيم الطباطبائي أستاذ الشيخ محسن الكاظمي دفين مصر. وعن الشيخ محمد - أو الشيخ حمادي - نوح والشيخ محسن الخضري النجفي، والشاعر العاشق الشهير الشيخ عباس النجفي صاحب القصيدة النونية التي أشرنا إليها في معرض الحديث عن الحبوبي.
كما تحدث بإفاضة واستيعاب عن العالم الشهير السيد محمود الآلوسي الحسيني صاحب المؤلفات الكثيرة ومنها تفسيره الشائع في مصر والبلاد العربية والمسمى (روح المعاني). وعن الشيخ جعفر الشرقي النجفي والد الشاعر الكبير الشيخ علي الشرقي عضو مجلس الشيوخ ووزير الدولة ببغداد. ودراسات أخرى لشعراء وعلماء آخرين. وفي خاتمة الكتاب استطراد لهؤلاء الشعراء واستعراض لقيمة هذه النهضة الأدبية في العراق ومقدار ما تتسم به من مكانة بالنسبة للقرون الهجرية الأولى. ثم مقارنة بين مركز العراق الأدبي في القرن التاسع عشر وبين مركز الآداب في البلاد العربية الأخرى؛ وهنا يصرح الدكتور بأن مركز العراق الأدبي في هذا القرن يبذ البلاد العربية جميعا سوى مصر التي أنجبت البارودي وإن يكن في العراق ثلاثة من أمثاله آنذاك.
وفي الكتاب ملحق تضمن دراسة شاعرين ممن تحدث عنهم في محطة الشرق الأدنى أولهما السيد عبد المطلب وهو ابن أخ السيد حيدر الحلي السالف الذكر، والثاني أبو المحاسن الشاعر الكربلائي ووزير المعارف في وزارة جعفر باشا العسكري سنة 1923 وقد توفي بعدها بقليل. وكان الأنسب ألا يقحم هذا الشاعر الأخير مع هؤلاء الذين تقدموا لا من الناحية الشعرية بل من الناحية الزمنية.
والذي يجب أن نختم به كلمتنا عن هذا الكتاب الذي استصفاه الدكتور البصير من ينابيع متعددة فأجراه في جدول فياض رقيق الحواشي هو القيمة التاريخية بل القيمة الأدبية والفنية. فإن هذا الكتاب قد جمع أشتاتا من صفحات الأدب كانت متفرقة هنا وهناك، وظلالا من الشعر كانت متباعدة تجهد الرائد والمتتبع، وأكثر من هذا الذي قلناه أن الكتاب لا يستغني عنه من يريد أن يؤرخ للأدب العربي الحديث تاريخا صحيحاً شاملا. فإلى الدكتور البصير شكرنا الجزيل على ما أسداه للمكتبة العربية وللأدباء والباحثين في هذا الكتاب وفي غيره من مؤلفاته الأخر.
إبراهيم الوائلي