انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 860/بودلير وفن الشعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 860/بودلير وفن الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 12 - 1949



للأستاذ عبد الفتاح الديدى

يرتكن الأساس الوضعي للنقد الأدبي عند كتاب الغرب إلى أمرين: نظرية في الجمال ونظرية في الخيال. فهاتان النظريتان بمثابة العمود الفقري عند الغربيين في كل نقد أدبي، ويكونان المحور الأصلي الذي تدور حوله الأقوال وتنبعث منه الأحكام. وبتوالي الأيام نشأت في نفوسنا عادة البدء بالسؤال عن هذين الجانبين عند الإطلاع على مؤلف في الأصول النقدية أو عند الوقوف على استعراض أدبي للمذاهب. وإذا كنت أحاول التقديم بهذه الملاحظة فلأنني أحب أن أوجه أنظار النقاد في مصر إلى أن عملهم لن يكون ذا قيمة أو اعتبار ما دام منحصراً في تلك الدائرة المقفلة دائرة التعليق الخالص.

فهكذا عودنا نقاد الغرب واستطعنا بذلك أن ندرك الأغوار البعيدة التي تسند كلامهم الظاهر وتتعهد أفكارهم الجادية. فإذا ما ساق إليك أحدهم حكما في إحدى مشكلات الفن، قدم له تحليلا وافرا عن النظرية الفلسفية التي يبني عليها آرائه، والبحث النفسي الذي يعتمد عليه في تفسير ما يبديه من الاعتراضات والتوضيحات. فلا يخلو - والأمر كذلك - بحث نقدي من فكرة في الجمال وفكرة في الخيال.

أما فكرة الجمال فمن شأنها أن تربط بين مفهوم الذوق عند الفنان وبين مفهومه عند عامة الناس. إلى جانب أنها تحدد البعد الذي يستند إليه الناقد في تحديد القيمة الأدبية من جانب الشكل والتنغيم. وبذلك تصبح فكرة الجمال موضع الاتفاق الشعوري بين الناس، وملتقى الاحساسات الغامضة في الاستحسان والاستهجان. ثم نلاحظ شيئا آخر وهو أن نظرية الجمال عند الناقد تبرر مسلكه في الاعتراض، وتؤيد مذهبه في المآخذ التي يبديها عند مراجعة الأعمال الأدبية. فأول ما يخطر على ذهن القارئ عندما يقرأ مقالا في النقد الأدبي هو التساؤل عن السبب الذي يجعلك في موقف بالذات لا تكون في سواه، أو الدافع الذي يحملك على إعلان رأيك خاليا من المسوغات أو المبررات. فالفكرة الجمالية عند الناقد من هذه الناحية تغنيه - في الوقت نفسه - عن الشرح والتعليل في كل لحظة من اللحظات التي تمر به وهو بصدد التفنيد والمؤاخذة والوزن.

أما فكرة الخيال فتنفذ إلى أعماق النفس البشرية كما تفسر لنا شيئين على جانب عظيم م الأهمية بالنسبة إلى العمل الأدبي. أما الشيء الأول فهو الكشف عن مقومات العمل الأدبي كما هي مطبوعة في نفسية الفنان المبدع، والإعلان عن قيمة الخلق الفني بطريقة من الطرق الخاصة التي انفردت بها مدرسة وتحدد بها اتجاه. كذلك يعين التفسير السيكلوجي للخيال الفني المبدع على تقييد الأديب بطريقة معينة في التعبير عن الأزمات التي تمر به والأهواء التي تنتابه. فالفنان محصور - في هذا النطاق الضيق الذي يهيئه خياله - بآفاق مدارك خاصة. وعلاوة على هذا نستطيع أن نجد في غضون كلامنا عن الخيال ما يبرز لنل ملامح التصور الذهني في العقلية المبدعة، وما يرينا تلك الصلة التي تربط بين خيال الفنان وبين عناصر الطبيعة الخارجية من ناحية التكوين والملاحظة والالتفات.

وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نرتفع بالاتجاه النقدي عند بودلير إلى حد الحكم على عمله بأنه مذهب متكامل، يمكننا - مع ذلك - أن نجد لديه أساسين من الجمال والخيال اللذين يكفيان لدعم أقواله. فمن ناحية الجمال نشاهد عنده تفصيلا دقيقا لبعض الأمور التي تكون شبكة مترابطة، وتقيم بنيانا متماسكا إلى حد بعيد. فهو أولا يخص الجمال بصفة تعبر عن شخصيته أجمل تعبير، وتوضح طابعه الروحي في الإعداد الشعري والتقويم النقدي سواء بسواء. إذ يقول أن الجمال لا يمكن أن يكون مطلقا وأبديا، ويلزمه الارتباط بالحياة اليومية والأشياء العامة حتى يتمثل ويصير حقيقة من الحقائق. فالجمال الخالص أسطورة من الأساطير لا يعرفها العمل الأدبي إلا إذا كانت متعلقة بالجزئيات الحاصلة في مجرى أمورنا العادية.

وبذلك ينتهي الجمال إلى أن يكون عملا نسبيا في كل الأحوال ما دام الاختلاف قائما في نماذج الحياة تتأثر بالزمان والمكان. وفي رأي بودلير أن هؤلاء الشعراء الذين يطلبون الجمال المطلق، وينشدون البدعة الخالدة ليسوا إلا شيعة من المفتونين. فكل زمن وكل جماعة - كما يقول - لها تعبيرها الخاص عن الجمال في نظرها. ولا بد للشاعر أن يسعى حثيثا كيما يحقق مثلا للجمال في نفسه يلائم أوضاع العصر ويساير ركب الزمن ويفي بما للبيئة عليه من الآثار والأفضال.

ومن أهم خصائص الجمال في العمل الأدبي لديه أن يلفت النظر ويثير الدهشة بأي شكل من الأشكال. فلا بد من تحقيق هذه اللفتة وتلك الدهشة بأن يعمد الأديب إلى القواعد النقدية والأصول المدرسية فيخرج عليها، وأن يفارق سنة الاتباع الحرفي لأحكام الرقباء مهما كانوا. ويقول إنه من أجل المحافظة على الفرحة التي تثيرها الدهشة في النفس، والإبقاء على النشوة التي تحدثها الجدة والغرابة في الوجدان، ينبغي أن يظل الكاتب حريصا على التنويع والابتكار في النماذج المعروضة والأحاسيس المجتلاة. ذلك لأنه إذا ضاع التنوع في أعمال الأديب اختلطت النماذج واعتجنت الوحدات وصارت على هيئة رتيبة خالية من الشخصية والحياة، شبيهة بالانقفال والعدم. ويؤكد بودلير دائما هذه الحقيقة: وهي أن الجميل دائما خارق للعادة وخارج على المألوف وغير موافق لما أتى به الغير في نفس المجال.

أما نظريته في الارتباط فهي وثيقة الارتباط بمنحاه الشعري وشديدة الالتصاق بروحه في الفن والتأليف. فبودلير واحد من أولئك الحالمين الذين نشدوا اللذة في استقصاء المجهول، وبحثوا عن المتعة بعيدا عن الحياة الواقعية الكالحة. فأبعد شيء عن فهم بودلير هو القول بالرسالة الاجتماعية والأخلاقية التي يؤديها فن من الفنون والشعر خاصة. وذلك طبيعي ولازم جدا ما دمنا نجد في الانفعال الشعري فسحة من أجل الانطلاق إلى حيث تستطيع النفس أن ترضي شهوتها في البزوغ، وتبعا لما نصادفه أمام وهج الإحساس الفني من اللفحات التي تهبنا كل عوامل الشرود والانبثاق. ففي مقابل الطبيعة التي يلمس بشاعتها، والواقع الماثل الذي يحس بقبحه ودمامته، يضع بودلير عالم الخيال. وهناك يفضل بودلير مظاهر التشوه والمرض على مظاهر الصحة والانسجام، ويضع نتاج الوهم في مرتبة من التقدير والاهتمام أعلى من مرتبة الحقائق الواردة من عالم الحياة.

فالخيال بالنسبة إلى الفنان يعلو على أية موهبة أخرى ويفوق كل ملكات الدماغ. وإذا كان هناك ما يؤيد هذا القول فإننا نكتفي بأن نعرف معرفة أكيدة أن عالم الفنان من خلقه، وأن الدنيا عنده وليدة وهمه وتصوره، حتى نقدر ما لهذه الوظيفة العقلية من أهمية بالغة. فالعالم الظاهري الموجود عبارة عن المجال الذي ينشط فيه الفنان كيما ينتقي آلاته وأدواته، ويختار النماذج والصور اللازمة بالنسبة إليه. ولا يتم ذلك إلا على نحو معين هو الذي يكشف عن مقومات الشخصية التي تقوم بالانتقاء، والذاتية التي تستتر وراء عملية الاختيار. فالمجال الحيوي لنفسية الفنان هو الأشياء الخارجية.

ولا ترجع أهمية الخيال عند بودلير إلى هذا فحسب، وإنما ترجع أيضا إلى اعتقاد بودلير في نوع من الواقعية الداخلية أو من الانطواء الذاتي. وإذا صح ذلك لعب الخيال دوراً كبيراً في أعمال الفنان تبعا للارتباط الحاصل فيما بين التكييف الداخلي ووسائل النقل؛ أعني فيما بين القدرة على التهيئة والإعداد وبين الحواس المختلفة. فالهدف الذي يسعى الفن إلى تحقيقه ذاتي إلى أقصى درجة، والمرمى الذي يبغي النفاذ إليه فردي بحكم الضرورة، ولا يكاد الفنان خاصة من بين كل الناس يفارق نفسه. فالفنان يمتاز أولا وقبل كل شيء بأنه صاحب خيال أو متخيل، يقبس النار من روحه ليضئ بها الأشياء، ويعكس المشاعر على باطنه لتعود فتنير الحياة. فالخيال الخصب عند الفنان هو الذي يوحي إليه بترجمة المظاهر الطبيعية في صورة أشعار منظومة وترانيم حية، وفعل الخيال إنما يظهر حقيقة في عملية الاختيار بين الأشياء التي يتجاوب معها، والأحداث التي ينفعل لها، والمظاهر التي يتأثر بها.

وبناء على هذه الأنظار المتتالية في الخيال والجمال، آمن بودلير بضرورة الفصل بين المهمة التي يقوم بها الشعر والمهمات الأخرى التي تقوم بها علوم الأخلاق والفلسفة. فالشعر لا يعرف شيئاً عن هذه الخدمات التي يزعم بعض أصحاب المدارس الفنية أنها تقوم على يديه وتتأدى به وتخلص عن طريقه. وإذا أخذنا الشعر على أنه أداة اجتماعية لرفع المستوى العام في الأخلاق أو ترقية المنحى الشائع في التفكير، فقد كل ما له من صبغة الذاتية، وصار محكوما عليه بالموت بين أكفان التقليد الزائف، وعلى صحائف الخطابة الجوفاء. وهذا الحكم مبني في نظر بودلير على أساس أن الفن بنقص قدره حينما يخضع لما تمليه عليه الطبيعة الخارجية وعند ما ينحى بازاء مشاهد الحياة.

فالدور الذي يقوم به الفنان لا يعتمد على النقل والتقليد وإنما يعتمد على معارضة الأشياء الموجودة وإنكارها إنكاراً يتمثل في إقحام الذات عند الكتابة النثرية أو الشعرية كلما أمكن. فأول عمل من أعمال الفنان هو إسقاط الطبيعة في الخارج وإحلال النفس الإنسانية محلها. وإذا أمكن هذا أصبح من العسير أن نخضع الشعر للقيود البرانية، وخرجت عن نطاق العمل الأدبي كل محاولة من قبيل الإصلاح والإرشاد والتعليم. وعلى هذا النحو يكون للشعر غرض واحد؛ وهذا الغرض الواحد هو نفسه. وفي صورته العليا أو على نحوه الأمثل تغيب عن الشعر كل نزعة سياسة وتختفي مظاهر البحث الفلسفي حتى يبقى في النهاية جوهرة الفردي العميق.

وإذا نظرنا في هذه الآراء التي سردها بودلير والتي آمن بها إلى آخر حياته، وجدناها لا تخلو من اتجاه موحد أو من نظرية مستقلة. وعلى الرغم مما قد نجده في شعره من توزع بين كثير من المذاهب الشعرية ومن تأثر بما شاع وقتئذ من المدارس لا نكاد نعثر في نقده على خطوط غير أصيلة أو على سمات طفيلية. ويستطيع النقاد بعد تحليل بسيط أن يوقفوك على عناصر رومانتيكية أو على عناصر برناسية في شعر بودلير؛ أما في موقفة النقدي فلا يمكنهم إلا أن يقروا بشخصيته الناقدة التي تقف في الناحية المقابلة للرومانتيكية والتي تسخر من البارناسية وتواجه المذهب الواقعي بدون أي تراجع أو انثناء عن نزعته الفردية الواضحة وعن إيمانه الفني الخاص به دون سواه.

ومما يلاحظ في النهاية أنه لا يستطيع واحد من الناس اتباع ما جاء في كلام بودلير من الأفكار وما تخلل عباراته من الآراء النقدية. وذلك لأن بودلير لم يعمل على إتمام حلقات مفقودة كثيرة في طيات مذهبه، ولم يكن من المثابرة والانكباب بحيث يمكنه أن يأخذ شيئاً من الأشياء مأخذا جديا وأن ينظر إلى الحياة نظرة فيها عناية أو غيرة أو اهتمام. والعيب الأصيل الذي يتمثل في غياب عنصر الحيوية من النقد البودليري إنما يأتي عن هذه الروح الذاتية المفرطة التي أمتاز بها الرجل طيلة أيامه على الأرض. كان فرديا زيادة عما يلزم بالنسبة إلى ناقد يريد الخير للأدب وينشد الرفعة للفن الذي يعمل كاهنا في محرابه. وكان يشعر بالعبث والتفاهة في شئون الحياة على نحو أفقده كل اعتبار للتقدم وكل تقدير للارتقاء الذي تصيبه الأعمال العادية.

وإذا ذهبنا إلى القول بأن بودلير لم يكن قادراً على تركيز مجهوداته في عمل من الأعمال أو بذل عنايته في باب من الأبواب فليس معنى ذلك أنه كان قليل الأهمية في تاريخ النقد؛ لأن مذهبه النقدي لا يخلو من نفحة عبقرية استندت إلى فلسفة في التحليل وجمال في التفصيل وقوة من الأداء. ويقول (رينيه لالو) تأييدا لكلامنا هذا في كتابه عن مراحل الشعر الفرنسي (ص86) إن مقالتيه عن الفن الرومانتيكي والتشوفات الجمالية تثبتان ضلاعة مواهبه النقدية. وأغلب ظني أنه استفاد كثيرا من التوجيهات التي كان يصدرها في تعليقاته عن الفنون الأخرى كالموسيقى والرسم ولكن الذي لا شك فيه أنه قد استفاد كثيراً من الاتجاه الذي سار فيه سان بيف والخطوات التي مشى في إثرها. إن الاثنين - بودلير وسان بيف - هما الناقدان المهمان في الحركة الرومانتيكية إذا نظرنا إليها محصورة في النطاق الفرنسي.

وأهم ما يمكن أن يعزى إلى بودلير في حركته النقدية هو أنه فتح الباب أمام الرمزية الصحيحة كيما تتقدم وكيما تأخذ مكانها المرموق بين المذاهب. فليس فن بودلير في النظم وحده هو الذي يضع جرثومة الرمزية وإنما يأتي في غضون كلامه النظري عن الفن الخالص ما يمكن أن ينظر إليه المؤرخ على أنه إرهاصات خالية من الزيف، وتباشير ممتلئة بالحياة، ودلائل قاطعة على الأسبقية والبدء.

وإذ نعتى هاهنا بتوكيد هذه الحقيقة فلأننا نؤمن إيمانا قويا بأن كل حركة نقدية لا تلتفت هذه اللفتة ولا تبذل عنايتها في هذا الجانب ستفقد غير قليل من أهميتها. لسبب بسيط وهو أن الأدب الخالص لا يكون إلا رمزيا للغاية، ولا يستطيعإلا أن ينصرف هذا المنصرف للتفرقة بين بعضه كفن وبين بعضه الآخر كعلم. وأول بيان كامل عن الرمزية هو ذلك الذي كتبه موريا في الملحق الأدبي للفيجارو بتاريخ 18 سبتمبر عام 1886 حيث جاء فيه أن هذا المذهب إنما يهتدي بآثار بودلير عن (المجاوبات) عادة كنمط فريد للشعر الرمزي وهذه ترجمتها:

إن الطبيعة معبد أركانه أحياء،

يدعون ألسنهم أحيانا فتنطق بالكلمات المبهمة.

ويجوس الإنسان بين غابات الرموز،

فيرمقها بنظرات أليفة.

ومثلما تختلط إرجاع الصوت من بعيد،

في وحدة مظلمة عميقة،

رحبة مثل الليل ومثل الضوء،

تتشابه الروائح والألوان والأصوات،

والمعبد ملآن بالروائح الزكية كلحم الأطفال، الحلوة كأنغام المزمار

الخضراء كلون المراعي

وملآن بأشياء أخرى مرتشاة وغنية ومنتصرة

وله اتساع الأشياء اللانهائية،

بفضل العنبر والمسك واللبان والبخور،

الذي يذكي هيمان الروح والحواس،

أما من ناحية العمل النقدي فيذكرون أنه هاجم الشعر بنزعاته الفكرية والإصلاحية وأسبغ عليه من لدنه روح الغموض وأدخل فيه موجة التحليق. ثم أنه قد عمل على تخليص الشعر من العقبات التي عاقته عن التقدم وحرمته الحياة فترة طويلة من الزمن. وإذا كان الكثيرون من النقاد قد اكتفوا بأنهم نقاد فبودلير قد أعطانا النموذج قبل أن يعطينا الفكرة وبين لنا تفصيلا وإجمالا. . أعني نظريا وواقعيا معا، فأصبح يعد بحق من بين أكبر من أثر في الشعر والنقد الحديثين وأخطر من رسم عليهما خطوطا بارزة ستبقى إلى الأبد محتفظة باسمه وطابعه.

عبد الفتاح الديدي