مجلة الرسالة/العدد 86/أين كانوا يوم كنا؟. . . . . .
مجلة الرسالة/العدد 86/أين كانوا يوم كنا؟. . . . . .
للأستاذ كرم ملحم كرم
صاحب مجلة (العاصفة) البيرونية
لا نجد حولنا غير المعجبين بالأدب الإفرنجي. ومن حق هؤلاء أن يعجبوا بهذا الأدب الكثير الألوان، الجديد، الطري، السائر والحضارة في طريق واحد لا تبتعد عنه ولا يبتعد عنها. من حقهم أن يعجبوا بأدب يوفر لهم ما يحتاجون إليه من غذاء روحي أعده لهم طهاة عرفوا ميولهم فسايروها، ونفحوها بما تستطيب من علم، وبما ترتاح له من ابتكار مستساغ تهضمه المعد والعقول. فالأدب الإفرنجي في القرن العشرين ينضح بعصير يجد فيه كل طالب ما تشتهيه نفسه. فليس له إلا أن يختار. فان أمامه من مختلف الأطعمة، بل أمامه الأطعمة على إطلاقها. فإذا حن إلى التاريخ وجد التاريخ، وإذا حن إلى الشعر لمس من هذه البضاعة ما يروم، وإذا شغف بالرواية وقع منها على ألوان وألوان كبيض العيد، من أحمر وأخضر وأصفر وبنفسجي وبرتقالي
فما عليه ليدرك مبتغاه إلا أن يحرك شفتيه. وهذا الخصب في الأدب الإفرنجي يعود إلى أمرين: الأول أن الغرب اليوم في عز ومنعة، فهو المسيطر الحاكم المستبد. والآخر أن فيه شعباً يقرأ ويقدر مؤلفيه. فإذا أجهد الكاتب ذهنه وكد قريحته فلن يضيع وقته في العبث، فلابد له أن يستفيد، وأن يضمن لنفسه الغذاء والقوت
وسر نجاح الأدب في نجاح الدولة التي تحميه، فمن المحال أن ينشط أدب ويُفك عن عقاله ويزدهر وينمو إن لم تكن هناك دولة يعتمد عليها ويستند إليها. فالأدب العاطل من سلطة تعضده وتؤيده أشبه بالرجل التائه الشريد، بل أشبه باليتيم، يقضي العمر وحيداً ينبذه الكون، وينفر منه الناس، فيعيش في اكمداد واضطراب حتى تدق ساعته الأخيرة فيلفظ الروح
ثم إن هذا الأدب بحاجة إلى من يغذيه بالمال ليعيش، فالأديب ككل ذي صناعة إن لم تمده بما يوفر له طعامه، يعجز من أن يمدك ببنات صدره وعقله. فهو يحتاج إلى الغذاء: إما بأن يرفده الملوك وأصحاب الغنى والجاه والمراتب السنية، وإما أن يقبل الشعب على مؤلفاته يؤدى عنها ما تساوى. وهو إن لم يوفر غذاءه المادي، فكيف يتوفر على صوغ جواهره ف عقد نضيد نظيم تقرّ به العيون وتبتهج القلوب؟
فالأدب الإفرنجي إذاً مدين في خصبه إلى الحظ، فالحظ يخدمه في دول تحميه وتدفعه في طريق الحياة، ويخدمه في شعب يقبل عليه ويشتريه. وأي أدب لا يثمر ما دام الاهتمام به متوالياً بلا انقطاع؟ فالصخر إذا عكف عليه من يفتته أنبت أروع الأزهار، وأينعت فيه أطيب الثمار!
وهذا هو الأدب الفرنسي كم انقضت عليه أزمان فما جاد بالسمين؟. . . لقد ظل عصوراً طويلة ضائعاً، غامض اللون والوجه، لا يستقر على حال ولا يقوم له كيان، مع أن فرنسا عرفت أياماً نضرة في عهد (كلوفيس) و (شالمان).
وانتقلت إليها روائع اللغة اللاتيتية، وعكف الرهبان في أديارها على تدريس الأدب اللاتيني لنشر تعاليم الدين المسيحي. إلا أن هذه الهمة الشماء لم تنهض بالأدب الفرنسي المضطرب اللهجة واللسان. فظل ضائعاً نغلاً لا أب له ولا أم، لا جامعة تربطه ولا قوة يعول عليها فتوحده وتجمع شتيته. حتى جاءه (ماليرب) فاجتهد في تكوينه وفي بناء قواعده. ولاح في الظلماء بصيص نور فخطر للكردينال (ريشيلو) أن يحي هذا الوليد. فأنشأ المجمع العلمي الفرنسي، وقامت بإنشاء هذا المجمع الدعامة الكبرى في بنيان أدب فرنسا
ومن هو (ريشيليو)؟. . . .
هذا كاهن عالي الرتبة ساد فرنسا ثمانية عشر عاماً
فهو أدهى من قام في البلد الفرنسي من رجال السياسة على إطلاقهم، ولا نستثنى حتى (تاليران) وزير نابليون الأول. فان فرنسا مدينة بعظمتها لهذا الكاهن الذي لم يكن في سياسته كاهناً. فتلاعب بتلك الدولة الكبرى كما يتلاعب بسبحته. فهدم وبنى، وأمات وأحيا وظلم. وشعر بنفور الشعب منه. وأدرك أنه بحاجة إلى ما يرفع من شأنه، فالتفت إلى الأدباء يصلح من شأنهم ويعطف عليهم. فما جهل أن للأدباء ألسنة طوالاً يقتلون بها من يشاؤون، ويقوضون أي ركن راموا تقويضه. ما جهل أن الأدب خالد في بطن التاريخ خلود الممالك، وأن الأدباء أخدان الملوك في البقاء على ممر الأعوام والدهور. وقد يموت الملك ويطوي، ويمحي اسمه حتى من صدور الكتب ولا يموت الأديب ما جهل كل هذا ريشليو صاحب اليد الحديدية، وقاتل الملكة (ماري دي ميدسيس) هماً ونكداً، والمسيطر على الملك لويس الثالث عشر. فدعا إلى إنشاء ذلك المجمع الأدبي، ولا يزال المجمع حتى اليوم ينتسب إليه أربعون أديباً ومؤلفاً وعظيماً، وإنه لساهر على اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي سهر الأم على بنيها، فلا يغفل عنهما لحظة لئلا يسلطا طريقاً غير قويم
وبعد (ريشليو) أطل (الملك الشمس) لويس الرابع عشر، فزاد في توطيد دعائم الأدب الفرنسي. وكان حيال أدباء بني قومه أشبه بملوك العرب حيال أدباء العرب، فجاء بكبار الأدباء يفسح لهم صدر بلاطه، ويخصص لهم المرتبات، ويجزل لهم العطاء، ويدعوهم إلى التأليف. وهو نفسه كان يحاول نظم الشعر، فلمعت في عهده أدمغة أدبية لا تزال حتى اليوم تفيض إشراقاً.
وستظل في هذا الفيضان حتى الأبد. فان ما جاء به أدباء فرنسا في القرن السابع عشر يكاد يكون خير ما أنتجته قرائحهم من سام رفيع وطيد نفيس، فجاروا الأدب اليوناني والأدب اللاتيني في أروع ما عندهما من آثار. واقتبسوا منهما الفن التمثيلي والأمثال الحكيمة في روايات وجيزة على ألسنة الحيوانات. واقتبسوا منهما الفلسفة. ولم يكن للأدب الفرنسي أي ميزة يبهر بها العيون، فأمسى في القرن السابع عشر منارة تهتدي بها أوربا جمعاء، بل يهتدي بها المعالم
فالروح الأدبية استيقظت من ذلك الحين في فرنسا، ومشت في طريق آمنة مرفوعة الرأس متوجة بأكاليل الغار، ولما تزل مسرعة في سيرها الوثاب. أجل، لقد كان لها ومضات في القرن السادس عشر، إلا أنها أشبه بانتفاض الجنين في بطن أمه، يختلج اختلاجاً يدل على أن الحياة أخذت تدب فيه
وليس من حق الفرنسيين أن يزعموا أن أدبهم يرتقي إلى أبعد من القرن السادس عشر. فان يكن لهم بعض فلتات أدبية ترجع إلى ما قبل ذلك العهد فانها لا تستحق العناية. ثم هي موضوعة في لغات متباينة خاضعة للهجات العامية المتداولة يومذاك في شمال فرنسا وفي صميمها، وليس هذا الأدب بالأدب المكتوبة له الحياة. فهو من النفايات التي تطرح جانباً ويضطر التاريخ الأدبي إلى إثباتها لإشارة إلى روح الأدب في عصرها ليس غير وما هي روح الأدب في فرنسا قبل القرن السادس عشر؟. . . . روح فروسية وبطولة تفيض بالحماسة وتنسج الملاحم على طراز ملحمة عنترة في اللغة العربية. إلا أنها ملاحم من شعر لا روعة فيه ولا وحدة ولا قافية، فيكفي أن يكون موزوناً
والعصور التي سبقت العصر السادس عشر في فرنسا لم تكن بالعصور اللامعة في حضاراتها. فما هناك غير حروب وغزوات. فالقوم كانوا يعيشون على صهوات الخيل، يبايعون يوماً هذا الأمير وينتصرون يوماً لذاك، والحروب كانت أبداً عندهم على لظى واضطرام. فما التفتوا إلى الأدب مثلهم إلى السيف.
وهم إذا صاغوا بعض آثار أدبية فقد صاغوها لخدمة السيف ورجال السيف
على أنهم ما تذوقوا طعم الأدب الصحيح حتى باتوا يجدون فيه ضرورة من الضرورات لا غنى لهم عنها في حياتهم العامة والخاصة. فأصبح الأدب لديهم أشبه بالقوت. وتكاثر رجال الأدب فيهم. وبرز القرن الثامن عشر حافلاً برجال الفكر من أمثال (فولتير) و (جان جاك روسو) وطغى الأدب على السيف واستولى على الأفكار والعقول. ولفت الأنظار إلى مظالم الملوك. فخرج الشعب من غفلته واعد الطريق إلى ثورة 1789، وهي الثورة الفرنسية الكبرى. وهذه الثورة مع اخمادها روح الأدب زمناً، أحيت في الصدور أدبا جديداً شق طريقه (شاتوبريان) ولحقه فيه (لامرتين) و (ألفرد ده موسه) و (فيكتور هوجو)
فالشعر في فرنسا لم يعرف مجده الأسمى في عهد غير ذلك العهد، وتوالت الأيام فما ظهر بين الفرنسيين شاعر يستوي ومن سطع في القرن التاسع عشر من شعراء. نعم، إن القرن العشرين لا يزال في مرحلته الأولى. وليس من العجيب أن يتلألأ فيه نجم يكسف ما أشرق في سماء الأدب الفرنسي من كواكب ونجوم. على أن هذا النجم لا يزال في برجه تسد دونه النوافذ والأبواب
ووقوف الأرحام عن إتحاف فرنسا بهذا الشاعر المتفوق لا يدل على أن الأدب الفرنسي في جمود. فالأدب الفرنسي اليوم كثير الرواج، فائق الإنتاج، يهدي إلى العالم الغث والسمين، المتين والركيك، العالي والسخيف، كل أدب في غليان، ككل بضاعة تجد أسواقاً تقبل عليها وتلتهما. ولا ريب في أن هذه البضاعة تنفد وتذوب. ولا يبقى منها على توالي الأيام غير الجيد الجيد. والجيد دون القليل. فليس كل ما يأتينا به أي أدب من الآداب بالخالد الباقي الرفيع
والفضل في رواج الأدب الفرنسي أن له دولة تحميه. فهو لم ينهض إلا يوم قامت في فرنسا دولة موحدة. وسيظل حياً ما بقيت هذه الدولة تنشر حضارتها في العالمين، فالأدب لا تقوم له قائمة إذا لم يكن إلى جانبه سلطان يذود عنه ويدفعه في طريق النهوض، شأن الأدب الهندي، والأدب الصيني، والأدب الفارسي، والأدب العبراني، والأدب اليوناني، والأدب اللاتيني، والأدب العربي
وأين كان الأدب الفرنسي يوم كان الأدب العربي في الوجود؟
وكان نكرة من النكرات
كان لا شيء
فالأيام لم تكد تلقي بذوره في الأرض
وكم استفاد الأدب الفرنسي من الأدب العربي!
فان مؤرخيه أنفسهم يعترفون بفضل الأدب العربي عليه فلولا الأدب العربي لطال جهل الفرنسيين فلسفة أرسطو. فقد نقلوا فلسفة الحكيم اليوناني إلى لغتهم باعتمادهم اللغة العربية، وكانوا يهتمون بهذه اللغة ويطلعون على دقائقها ويدرسونها يوم كان العرب يحتلون الأندلس. وكم استغلوا من روائعها وكم اقتبسوا منها! فان شعرهم لم يعرف الألوان قبل وقوفهم على الشعر العربي. وبعض المؤرخين يقول إن ذلك الشعر اعتمد القوافي يوم درس الفرنسيون الآداب العربية واطلعوا على منظوم شعراء العرب
فالأدب الفرنسي لم يكن له وجود يوم كان الأدب العربي ريانَ وضاءً، ينشر لواءه من قلب فرنسا وإيطاليا إلى خليج العجم وإلى ما هو أبعد من خليج العجم. أما احتل العرب بلاد الهند؟ أما نشروا فيها حضارتهم؟. . . أما حملوا إليها القرآن ولغة القرآن؟. . . أما جاء زمن سادت فيه لغة القرآن العالم فاحتلت ثلاث قارات: هي أسيا وأفريقيا وأوربا؟. . . .
وأين كان شعراء فرنسا يوم عرفت الجاهلية أصحاب المعلقات؟.
وأين كان فيكتور هوجو يوم نشأ المتنبي؟
وأين كان (فولتير) يوم عرفت الآداب العربية أبا العلاء المعري؟. . .
لقد سبقناهم بألف ومئة سنة. هذا إذا خضعنا لقول القائلين أن الأدب العربي عرف الحياة في القرن الخامس للميلاد. مع أن الأدب العربي انبثق قبل هذا الزمن بمئات السنين. فمن المحال أن يبلغ أي أدب من الآداب الكمال الفني في وثبة واحدة. فلا بد له من عصور ريثما ينضج. أن هو إلا أشبه بالطبخة. وهذه الطبخة لا تكفيها سنة ولا عشر سنوات. فهي بحاجة إلى مئة سنة على الأقل لتصلح للمضغ والازدراد. ونحن عرفنا أول شعر عربي أتصل بنا مستوفي الشروط كامل العدة. إذاً فلابد أن تكون الأجيال التي بدأت قرض هذا الشعر قد تولت عجنه قبل اختماره بمئات السنين
ومن المؤسف ألا يكون للأدب العربي تاريخ صحيح نرجع إليه. فالكتابة كانت مجهولة لدى عرب الجاهلية وهم أبناء البادية والقفار. وهم البعيدون عن كل حضارة. فما وصلت إلينا أشعارهم التي قرضوها في بدء عهدهم بالشعر. فالحفاظ والرواة جاؤونا عنهم بكل غريب. فحدثونا عن العرب البائدة أحاديث لا يقرها عقل ولا صواب. ونحلوا الشعر العربي حتى جدنا آدم، وقالوا إن سفر أيوب كتب باللغة الغربية. وإن موسى تقله منه إلى العبرانية. وتفننوا فيما اختلفوا من روايات عن عاد وثمود وطسم وجديس. فإذا آمنا وصدقنا هذه الروايات كان لنا أن نقول إن اللغة العربية حفلت بالأدب الراقي قبل العصر المسيحي، وإنها من اللغات الأولى التي تخاطب بها الناس. على أننا نكتفي منها بأن تكون آدابها ارتقت إلى المستوى العالي في القرن الخامس للميلاد، يوم قامت فيها الممالك تحالف الفرس من جانب والروم من جانب آخر. فالآداب العربية أثمرت في ذلك الحين ثماراً طيبة لا يزال العطر منها يفوح، ولا تزال مثالاً يحتذى
وإننا لنرى في امرئ القيس على ما في شعره من الكلام الخشن - مما تكن تنبو عنه الآذان في ذلك العصر - سيداً من سادات الأدب لم يعرف أمثاله الأدب الفرنسي في غير القرن السابع عشر. وامرؤ ألقيس عرفه الأدب العربي في القرن السادس. وهذا أصدق دليل على أننا سبقنا القوم بألف ومائة عام
وكانت الآداب العربية وافرة الجني في عهدها الأول. وظهر الإسلام فزادها ثروة على ثروة. وخصوصاً في كتابه القرآن. فالقرآن أفضل ما تحفل به اللغة العربية، وإذا اكتفينا بأن ننظر إليه ككتاب يحفظ للغة العربية متانتها وبلاغتها، ويعدو الخاضعين لتعاليمه إلى قراءته وترديد آياته. فهم وحده يقي اللغة الموت، ويرد عنها البلاء، ويصونها من الضياع.
ولولاه لاضمحلت اللغة العربية في عصر الانحطاط وتلاشي كل أثر منها
ومال الخلفاء في صدر الإسلام إلى الشعراء فزادوا في إحياء لغة العرب، وهم كانوا في حاجة إلى الشعراء. لقد كانوا في حاجة إلى شعرهم ينالون به من خصومهم ويهدمون من أمجادهم، تشبهاً بالرسول في موقفه من شاعره حسان. ولم يكن للصحف وجود في ذلك الحين. فبحث الخلفاء - وفي طليعتهم معاوية - عمن يقوم بالطعن على خصومه في كلام يردده الحداة ويتناقله الركبان، فلم يجد أمامه غير الشعراء وسادة القريض. ومما زاد في حاجته إليهم اضطراره إلى الكفاح والنضال بعد انتزاعه الخلافة من علي بن أبي طالب. فأصبح للشعر ولقائليه شأن. خصوصاً وقد تعددت في ذلك الحين الأحزاب السياسية والدينية، وأمسى كل سيد قوم بحاجة إلى من يطنب في الثناء عليه ويغالي. ولم يكن ثمة غير الشعراء يصوغون من المديح عقوداً ويتقاضون عنها نقوداً.
فكثر الإقبال عليهم وأكثروا هم من التقلب في مدح هذا يوماً وذاك يوماً آخر استداراً لرفده وعطائه. وراجت بضاعة الشعر فتكاثر الشعراء، وأورقت رياض الأدب، ومعظم الذين حفلت بهم من المكتسبين. غير أن هؤلاء المتكسبين جادوا بأحسن ما عندهم رغبة منهم في غنم أوفر مبلغ مستطاع
وأكثر عصور الأدب ازدهاراً في اللغة العربية هو العصر العباسي، بل الأعصر العباسية على إطلاقها. فقد بلغ الأدب العربي في ذلك الحين القمة، وما اكتفى رجالة بالشعر يصوغونه على الفطرة والسليقة، بل تعمقوا في الأدب يدرسونه وينتقدونه ويؤلفون فيه الكتب والأسفار، فولجوا الأبواب كلها: من نظم ونثر، من نقد ورواية، من علم وتاريخ، وامتزجوا بمن حولهم من الأمم، فوقفوا على الأدب الفارسي والأدب اليوناني، وأضافوا إلى كنوز الأدب العربي كنزاً آخر، وهو كنز لا يقل في شيء عما تفاخر به اللغة الفرنسية من نفائس وروائع، فما نفحها به أدباؤها في عصر (الملك الشمس) والقرن الثامن عشر والتاسع عشر لا يزيد قدره الفني ما طفحت به اللغة العربية في الأعصر العباسية، وكل ما للأدب الفرنسي من ميزة أنه أكثر تنظيماً وتبويباً، وأحكم وحدة وارتباطاً، فالأدب العربي يكاد يكون خالياً من الوحدة والارتباط، فلا صلة بين أجزائه وموضوعاته، ولا لحمة في مؤلفاته. فهي متناثرة كحجارة البناء المطروحة على الطريق تحتاج إلى البنائين ليرصفوا بعضها فوق بعض ويقيموا منها داراً عامرة
أما الإنتاج فلا نبالغ إذا قلنا إنه يوشك أن يكون والإنتاج الفرنسي في مستوى واحد، وما على من يرتاب فيما نقول إلا أن يطلع على ما أبقاه العهد العباسي من جليل نفيس. فالخزائن تكاد تضيق بروائع تلك الأعصر الزاهرة
والفضل فضل الدولة القائمة، بل الدول التي قامت في تلك الأعصر. ولو ظلت في مناعتها لكان الأدب العربي اليوم في رقي الأدب الغربي إن لم يكن أرقى منه. ولكن سقوط بغداد في أيدي أعداء العرب طعن الأدب العربي في صميمه. وكان عهد الانحطاط. واستمر هذا الانحطاط طويلاً. استمر ستمائة عام. وفي هذه الأعوام الستمائة جمدت اللغة العربية جموداً قاتلاً. وكادت أركانها تنهار لولا القرآن وبعض الهائمين بها. وفيما هي ترقد رقادها الفاجع تحركت الآداب الأخرى وبنت لها قصوراً منيعة ننظر إليها اليوم معجبين، ونكاد نتناسى في ظلالها أن لنا أدباً حياً لا يقل شأناً عن سائر الآداب الحية، ولكننا وقفنا بينما مشى سوانا، وبينما نرى أننا عاجزون عن اللحاق به. وهذا اليأس زاد في ضعفنا وخمولنا
وقد نظل ضعفاء خاملين لا تقوم لنا قائمة إلا يوم تقوم دولة عربية حرة يتقيأ أديبنا ظلال قبابها العالية. فإذا كتب أو أنشأ علم أن الأيدي تمتد من كل جانب للوقوف على ما كتب أو أنشأ، وما دامت هذه الدولة غير موجودة أو واهية القوى، فلأدب العربي يعيش على سواعد عشاقه. وسواعد عشاقه لا تكفي للنهوض به. فكل ما تفعل أنها ترد عنه عوادي الزمن، وتنقذه من الفناء ريثما يأتيه يوم يرفع فيه رأسه، ويغزو من يغزوه، ويبطش بمن يكتسحه
فالأدب يلمع عندما تلمع الدولة التي يحمل لواءها
وليس الأدب العربي بالشاذ عن القاعدة مع كل ما في القواعد من شواذ!. . . .
(بيروت)
كرم ملحم كرم