مجلة الرسالة/العدد 859/تاريخ الدولة الرسولية باليمن وعلاقاتها بمصر
مجلة الرسالة/العدد 859/تاريخ الدولة الرسولية باليمن وعلاقاتها بمصر
1229 - 1454م
626 - 858 هـ
للأستاذ احمد مختار العيادي
اختلف المؤرخون حول نسب بني رسول، فنسبهم البعض إلى تركماني، ونسبهم البعض الآخر إلى اصل عربي. ومن القائلين بالرأي الثاني المؤرخ علي بن الحسن الخزرجي الذي عاش في كنف تلك الدولة قي القرن الثامن الهجري، إذ قال (ونسبهم من يعرفهم إلى غسان ومن لا يعرفهم إلى التركمان).
ورسول هذا الذي تسمت باسم هذه الدولة، هو محمد بن هارون الذي أدناه الخليفة العباسي المستنجد واختصه برسالته إلى الشام ومصر وانطلق عليه اسم رسول وشهر به وترك اسمه الحقيقي حتى جهل. ثم حدث أن انتقل رسول هذا مع أولاده وأسرته إلى مصر إبان قيام الدولة الأيوبية، فأرسلهم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بصحبة أخيه الملك المعظم توران شاه عند فتحه اليمن. ودخل توران شاه اليمن سنة 1172م (569 هـ) ثم لم يلبث أن عاد إلى مصر سنة 1175م (571 هـ) وصار يحكم اليمن عن طريق نوابه حتى مات سنة 1180م. وحكم اليمن بعد توران شاه عدة من أبناء البيت الأيوبي مات أحدهم مقتولاً وآخر مسموماً.
ولما تولى السلطان العادل الأول الأيوبي ملك مصر، أرسل حفيده الملك المسعود صلاح الدين يوسف بن الكامل - المعروف بأقسيس - إلى اليمن سنة 1215م (621 هـ) وكتب إلى أولاد علي بن رسول والأمراء المصريين باليمن يأمرهم بطاعته. ولقد قويت مكانة بني رسول وعظم نفوذهم في عهد الملك المسعود حتى اشتد خوف بني أيوب على ملك اليمن منهم، واضطر الملك المسعود أن يسجن اثنين من أبناء علي بن رسول سنة 1227م ولكنه أبقى على الإبن الثالث نور الدين عمر وجعله أتايكه.
وفي سنة 1228م (625 هـ) عاد الملك المسعود إلى مصر بعد أن قلد أمور اليمن إلى أتايكه نور الدين عمر وجعله نائبه بها. وتوفى الملك المسعود في مكة أثناء عودته إلى 1229 م (636 هـ) فقام نور الدين عمر يحكم اليمن قياماً كلياً، واضمن الاستقلال بملكها، وأخذ يولي في المدن والحصون من يرتضيه ويثق به، ويعزل ويقتل من يخشاه أو يخالفه، ولكنه مع ذلك اظهر أنه نائب للمسعود ولم يغير سكة ولا خطبة).
ولم يعلن نور الدين عمر استقلاله بملك اليمن وخروجه عن طاعة سلطان مصر إلا في سنة 1232 م حينما ضرب السكة باسمه وأمر الخطباء أن يخطبوا له في سائر أقطار اليمن. ولم يكتف نور الدين بذلك بل أخذ يتقرب من الخلافة العباسية ببغداد ملتمساً منها تشريفه بخلعة السلطنة أي الاعتراف به سلطاناً شرعياً على اليمن. وقد أرسل له الخليفة العباسي المستنصر بالله التشريفة الخليفية والتقليد عن طريق الحجاز سنة 1233 م ولكنها نهبت في الطريق ولم يصل منها شيء إلى اليمن. واضطر الخليفة العباسي أن يرسل غيرها في العام التالي عن طريق البحر - طريق البصرة والخليج الفارسي والمحيط الهندي؛ وعند وصولها اليمن سنة 1234م ارتقى رسول الخليفة منبر مدينة جند وقال: (يا نور الدين! إن العزيز يقرئك السلام ويقول قد تصدقت عليك باليمن ووليتك إياه؛ ثم ألبسه الخلعه الشريفة على المنبر. ولم يكتف السلطان نور الدين بملك اليمن بل حاول السيطرة على الحجاز وانتزاعه من أيدي المصريين، فأخرج الجيوش المصرية من مكة المشرفة مرة بعد أخرى واستعمال عدة من قوادها ونخص بالذكر القائد المصري مبارز الدين علي بن برطاس الذي استسلم لنور الدين ودخل في خدمته سنة 1241 م (639 هـ) وبذا امتد نفوذ بني رسول من مكة إلى حضرموت.
ويروى الخزرجي أن عهد ذلك السلطان انتهى في ذي القعدة سنة 647 هـ (1250 م) عندما اغتاله بعض مماليكه وقتلوه في قصر الجند، كما يروى أن هذا السلطان (استكثر من المماليك البحرية حتى بلغت عدتهم ألف فارس وقيل ثمانمائة، وكانوا يحسنون من الفروسية والرمي ما لا يحسنه المماليك في مصر. وكان معه من المماليك الصغار قريب منهم في العدد خارجاً عن حلقته وعساكر أمرائه). ويلاحظ من رواية الخزرجي أن وفاة السلطان نور الدين عمر كانت في نفس السنة التي توفي فيها السلطان الصالح نجم الدين أيوب في مصر، وهذا يدل على أن فرقة المماليك البحرية التي أسسها نور الدين عمر باليمن تكونت في نفس الوقت الذي تكونت في نفس الوقت الذي تكونت فيه فرقة المماليك البحرية الصالحية التي أسسها السلطان أيوب. وهذا يدل ضمناً على وجود اتصال وثيق بين مصر واليمن، كما يدل أيضا على بطلان الزعم القائل بان لفظ بحرية يرجع إلى بحر النيل وذلك بعد أن ثبت فعلاً وجود فرقة من المماليك البحرية بعيدة عن مصر والنيل.
ومهما يكن من شيء فقد استطاع قتلة السلطان نور الدين أن يجذبوا بقية المماليك إلى جانبهم وان ينادوا بابن أخ السلطان القتيل يدعى فخر الدين، سلطاناً على اليمن، ويسيروا معه نحو العاصمة زبيد لاحتلالها، ولكن الدار الشمس ابنة السلطان المتوفى استطاعت أن تدافع عن المدينة ببسالة ريثما يجيء أخوها الملك المظفر بن نور الدين الذي كان مقيماُ بحصن المهجم، والذي حينما علم بوفاة أبيه وأطماع ابن عمه في ملك اليمن أسرع من فوره نحو زبيد في فبراير سنة 1250م، وصار كلما مر بقبيلة من العرب استخدم خيلها ورجالها حتى تجمع له جيش قوي أوقع الرعب في صفوف أعدائه. وعلى أثر ذلك اجتمع رؤساء المماليك وأعيانهم وهم غالبية جيش الأمير فخر الدين وكتبوا إلى الملك المظفر يطلبون منه الأمان، مأمنهم على أن يسلموه ابن عمه وجماعة المماليك الذين قتلوا أباه. فأجابوه إلى طلبه ودخل المظفر مدينة زبيد في موكب عظيم في مارس سنة 1250 م. واستطاع السلطان المظفر في ظرف ثلاث سنوات أن يستعيد جمع ممتلكات والده التي استقلت عقب مصرعه وأهمها صنعاء والدملوءة وتعز، كما استطاع أن يقضي ثورة على شرفاء الزيدية ومن انضم إليهم من المماليك في صنعاء سنة 1260م.
وتروي المصادر المعاصرة أنه في سنة 1262 م (659 هـ) سار السلطان المظفر بجيش كبير إلى مكة لأداء فريضة الحج. وهناك (طلعت أعلامه الشريفة وأعلام سلطان مصر، فقال له أحد الأمراء: هلاَّ أطلعت أعلامك يا مولانا السلطان قبل أعلام المصريين؟ فقال له السلطان المظفر: أتراني أؤخر أعلام ملك كسر التتر بالأمس وأقدم أعلامي لحضوري). وهذه العبارة إن دلت على شيء فإنما تدل على مقدار النفوذ الذي اكتسبته مصر في أنحاء العالم الإسلامي عقب انتصار سلطانها الملك سيف الدين قطز على المغول في واقعة عين جالوت بفلسطين سنة 1260 م.
وكيفما كان الأمر، أجمعت المصادر المعاصرة على أن السلطان المظفر كان حاكماً قوياً موفقاً ولقد لقبه الخزرجي بلقب خليفة في آخر حكمه. وتوفي السلطان المظفر سنة 1294 م وخلفه على عرش اليمن ابنه الأشرف عمر ثم ابنه المؤيد داود سنة 1297 م.
وفي عهد السلطان المؤيد (سنة 1318 م) أعيد تنظيم الجيش اليمني على نظام الجيش المصري، فيروي الخزرجي أن الأمير علاء الدين كشدغدي (رتب عساكر السلطان المنصورة على ترتيب العساكر المصرية وجعل لها جناحاً للميمنة وجناحاً للميسرة وجعل خلف السلطان عصاب كثيرة، وركب المماليك بالنفخ وجعل منهم طائفة طبردارية، وركب السلطان بهذا الزي). ويجدر بنا أن نلاحظ بصدد تاريخ هذا التنظيم أنه يوافق عهد سلطنة الناصر محمد في مصر أي في الوقت الذي تبلورت فيه النظم الملوكية في مصر وبلغت ذروة الازدهار، فلا عجب إن صارت مصر في ذلك الوقت قبلة أنظار الدول الإسلامية الأخرى وموضع محاكاتها.
وتوفي السلطان المؤيد سنة 1321 م وخلفه ابنه المجاهد الذي سرعان ما قبض على عمه المنصور بن المظفر وسجنه في قلعة تعز وأعلن نفسه سلطاناً سنة 1322 م. غير أن مماليك السلطان المجاهد تمكنوا من تسلق حصن تعز خفية وأطلقوا سراح أستاذهم المجاهد وقبضوا على المعارضين لسلطته وعلى رأسهم الملك المنصور الذي حل محل ابن أخيه في السجن.
وكان السلطان المجاهد يخشى قوة المماليك البحرية، ويخاف خطرهم ولذا (دارت بينه وبينهم عهود وذمم وكتب لهم ميثاقاً بالأمان والوفاء ونادى لهم بذلك في الأسواق ومجامع الناس). غير أن المماليك البحرية سرعان ما قلبوا له ظهر المجن وثاروا عليه سنة 1332 م وهاجموا مدينتي تعز وجند، وعاثوا فيها فساداً كما هاجموا مدينة زبيد واحتلوها، ولما علم السلطان بما فعله المماليك، أمر بقطع أعطياتهم حتى (تعبوا وباع الكثير منهم عدته وثيابه، وجاهروا السلطان القبيح). ولم يكتف السلطان بذلك بل أمر بإباحة قتل المماليك ونهبهم، ووزع قواته على مختلف الطرقات لحراستها وحفظها من عبثهم. ولم يستطع السلطان كبح جماح المماليك إلا في سنة 1334 م حينما أوقع بهم الأشراف والأكراد هزيمة منكرة في وادي جاحف بالقرب من المهجم، حيث قتل كثير من أعيان المماليك نذكر منهم أزبك الصاربي، ولطيناً المجموري، وأيلة السراجي. واحتل السلطان مدينة زبيد وخطب له على منابرها سنة 335 م.
ويروى الخزرجي في حوادث سنة 725 هـ (1325 م) من عهد السلطان المجاهد أن جيشاً مصرياً يبلغ عدده ألفي فارس، وصل إلى اليمن في شهر رجب (يونيو) من تلك السنة وعليه الأمير سيف الدين بيبرس والأمير جمال الدين طيلان، ومعهم اثنان وعشرون ألف جمل تحمل عددهم، فأستقبلهم السلطان في زبيد، فلما دنو منه ترجلوا وقبلوا الأرض بين يديه وساروا في خدمته ساعة، وألبسوه خلعة فاخرة وعمامة بعدبتين. وبعد أن أقاموا في زبيد عدة أيام صحبوا السلطان إلى تعز. ويضيف الخزرجي أن المصريين عاثوا في المدينة فساداً، فكانوا لا يجدون طعاماً إلا أخذوه بثمن بخس وانتهبوا بيوتاً كثيرة، وضربوا كثيراً من الناس حتى قتلوهم، وقطعوا جميع الزرع في مدينة تعز وضواحيها، وارتفعت أسعار الحاجيات وضاقت البلاد على أهلها.
ولم يرحل الجيش المصري عن اليمن متوجهاً إلى الشام ألا في شهر يوليو (شعبان) من نفس السنة، وقد فرح أهل اليمن برحيلهم.
وتوفي السلطان المجاهد سنة 1363 م وخلفه ابنه الأفضل العباسي الذي تخلل عهده عدة ثورات قام بها الأشراف والمماليك وبعض أخوته. وبالرغم من أن أجزاء كثيرة من الدولة الرسولية استقلت في عهد السلطان الأشرف بن الأفضل سنة 1379 م، فإن نفوذ ذلك السلطان ظل قوياً وظلت وفود الدولة المجاورة مثل الهند والحبشة تفد إلية وتخطب وده وتقدم له مختلف الهدايا. وبعد موت السلطان الأشرف سنة 1400 م صار تولية السلاطين وغزلهم يحدث في فترات قصيرة تتخللها عدة ثورات للمماليك وتخص بالذكر المماليك المصريين المقيمين باليمن والمعروفين هناك باسم (المماليك الغرباء).
وانتهى الأمر باستيلاء بني طاهر على اليمن سنة 1454 م فانتهت بذلك دولة بني رسول.
من كل ما تقدم ترى أن هناك أوجه شبه عديدة بين الدولة الرسولية في اليمن ودولة المماليك في مصر. فلقد عاصرت كل منهما الأخرى تقريباً إذ قامت الدولة الرسولية سنة 1229 م أحد وعشرين سنة قبيل قيام الدولة المملوكية، وظلت تلك الدولة زمناً وعاصرت الدولة المملوكية بمصر حتى سنة 1454 م. وكان سلاطين الدولتين في بادئ الأمر أتباعاً لسلاطين الأيوبيين ثم تمكنوا بقوة نفوذهم وضعف أسيادهم أن يستأثروا بالملك لأنفسهم. واعتمدت كلتا الدولتين على فرق من المماليك ولا سيما المماليك البحرية الذين لعبوا درواً خطيراً في تاريخ كلا البلدين. هذا وقد عرف عن سلاطين الدولتين بصفة عامه ميلهم الشديد نحو الفنون والآداب وبناء المدارس والمساجد والقصور. وهناك وجه شبه أخير تتلمسه في تقرب سلاطين الدولتين للخلافة العباسية ببغداد لأن اعترافها بهم سوف يقوي من نفوذهم الأدبي ويكسبهم صفة شرعية للحكم. وقد ظلت الدولة الرسولية على ولائها واحترامها لخلافة بغداد حتى بعد أن قضى المغول عليها وقتلوا الخليفة المستعصم سنة 1258 م (656 هـ) إذ ظل اسم الخليفة المقتول يدعى له سائر منابر اليمن حتى أواخر القرن الثامن الهجري. وفي ذلك يقول الخزرجي (في سنة 640 هـ مات الخليفة المستنصر وتولى الخلافة بعده ولده المستعصم بالله أمير المؤمنين أبو احمد، وهو الذي يدعى له سائر المنابر إلى وقتنا هذا من سنة ثمان وتسعين وسبعمائة).
أحمد مختار العبادي