مجلة الرسالة/العدد 858/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 858/صور من الحياة:
حماقة أب
الأستاذ كامل محمود حبيب
أتذكر - يا صاحبي - يوم أن جذبك أبوك من خضم الأزهر وأنت فتى في ريع الشباب فارع القوام قوي البنية وثيق الأركان جذبك بعد أن عشت في رحابه سنوات تضطرب في متاهات العلم فلا تستقر، وتضل في مضلات المدينة فلا تهتدي، وتضع لقسوة الشيخ فلا تشمخ، وتفزع عن حلقة الدرس فلا تطمئن. لقد كان يعتز بك لأنك ابنه الأصغر فأرسلك إلى الأزهر عسى أن يراك - بعد حين - شيخا، كعمك، تتألق في الجبهة والقفطان وتزهو في العمة واللحية، فتكون قبسا من نور العلم في القرية، والنفحة في ضياء الهدى في المجلس، وموعظة طيبة في ضلال الجهل. ولكن بدا له أن يجذبك من الأزهر قبل أن تبلغ الغاية للتزوج بفتاة في مثل سنك فيها الثراء والجمال، وفي أهلها الجاه والسلطان وفي ذويها العز والمنعة فصحبته إلى القرية والخيال الحلو ويتوثق في رأسك، وان أهابك ليكاد ينشق من شدة الفرح وهو يتألق على جبينك وان خواطرك للتنزي مرحا جامحا ترتسم سماته على قسمات وجهك، وان ذهنك ليضطرب في آفاق جميلة من النشوة واللذة. وأحسست في أعماق نفسك - وأنت في طريقك إلى القرية - انك اليوم تفر من قسوة الشيخ وعنت الدرس، وتنأى عن خشونة العيش وجفوة الغربة لتعيش إلى جانب أمك تستشعر العطف والحنان، وانك ستفر - غدا - من سطوة أبيك وهو غليظ الكبد جافي الطبع جامد الكف لتصير رجلا. . .
وجاءت الزوجة تحمل إليك متعة القلب ولذة النفس، وتزف إليك سعة العيش وسعادة الحياة، وتنزع عنك ذل الحاجة لأبيك، وتلبس ثوب الرجولة الباكرة، وتحطم أغلالا من الإسار كبلك بها أبوك زمانا، فأصبحت حر اليدين واللسان، طليق الآخذ والعطاء، ولا يقيدك غل من سلطان أبيك، ولا تمسك ربقة من جفوته، فاطمأنت نفسك وهدأت نوازعك. ومرت السنون.
وانطلقت في فورة الشباب إلى الغيط نجد المتعة في العمل وتحس السعادة في الجهد، ولا تشغلك اللذة الوضيعة ولا بصرفك اللهو الرخيص، وأنت من بيت فيه الصلاح والدين وفيه الترفع والكبرياء، ففاض جيبك بآمال وفهقت دارك بالنعمة وطفح قلبك بالرضا. وجذبك أسعار المال عن أن تلتفت إلى وراء، ساعة من الزمان لترى اخوتك يتقسمون تراث أبيك وهو ضئيل لا يسمن الجوع ولا يغني من العرى. وجمدت مشاعرك فيما بضطت كفك لواحد منم بقرش ولاحق قلبك على طفل من أبناءهم، فعشت عمرا من عمرك منطويا على نفسك ولا تزيح عن اهلك غمة ولا تفرج كربة ولا تمسح لوعة , على حين انك تنعم بوفرة الثراء وتسع لكثرة المال. وهم يجدون ضيق اليد وكثرة العيال.
وابتسمت لك الحياة مرة أخرى فإذا أنت أب، فاشرق النور في قلبك لدى مطلع الصبا، وانفرجت أساريرك، فآخذت تربيه على نسق من الفساد يطم على العقل دلالا، وتنشاه على نهج من الضلال يعبث بالرأي رحمة به، وتصوغه في قالب من الغي يعطف بالأدب عطفا عليه، والى جانب زوجك تدلل الصبي وتغريه وتدفعه إلى أن يتردى في الجهل والبلج في العناية فأنطلق على سننه يغتمر في لجة من الحمق والسفاهة. وأنت - يا صاحبي تنظر فلا تردعه عن غواية ولا ترده عن نبوة.
وتراءى لك إن الصبي يخطو إلى الشباب في غير ريث، ويسير إلى الفتوة في غير مهل، فأشفقت عليه من عصا المعلم إن تقضقض عضمه، وظننت به على ظلام المدرسة أن تهد من قوته فامسكته إلى جانبك يرتشف من غفلتك ويتفيأ من حمقك، فسقط في مهاوي الجهل يعاشر البهيمة في الغيض ويهفو إلى رفاق السوء في القرية. فاخذ بأسباب اللهو الوضيع وارتدع في حماءه الرذيلة، وأنت في عمى عنه، والناس من حواليك يتهامسون بحديث ابنك الوحيد وهو ينفق عن سعة ويبذل في سخاء، ويسف في الطيش ويسف في رعونة. يتهامسون ولا يجرؤ واحد على أن ينفظ أمامك حالة خشية أن ينالك عنت الحديث أو تؤذيك قسوة الخبر، فانضمت الشفاه على عبارات السخط والكراهية وسكتت الألسن عن كلمات المقت والازدراء. وذهبت أن تصحب وحيدك - بين الفينة والفينة - إلى الحقل تبصره بالعمل وتثقفه بالفلاحة وتعلمه حاجات الغيط وتزوده بالنصيحة. علك تجد العون والمساعدة أن وهي جلدك أو انحطت قوتك، فكان يلقى السمع إلى حديثك وذهنه هناك. . . يتلمس اللذة الجارفة من لذات الشباب، ويفتش عن سلوه العارمة من أسباب الطيش، فخيل إليك أن الشباب اصبح رجلا يستطيع إن ينهض بالعمل وان يصرف الأمر، فألقيت إليه بزمامك ودفعته فأندفع. . . اندفع إلى الهاوية.
واطمأنت نفسك حين جاء الشاب يقص عليك - أول مرة قصة الغيط ومافية، ينشر أمامك نواحي العمل، ويبحث معك فنون الزراعة، فتسهلت له في السؤال وتيسرت له في القول، وأحس هو منك الغفلة والضعف، فأنطلق في سبيله ويبعثر في مالك في غير رفق ولا هوادة وركنت أنت إلى الراحة وسكنت إلى العبادة ولا يحز بك أمر ولا يرهقك طلب. وسوست لك زوجك وللمرأة لسان ناعم أملس كجلد الأفعى، ولها الحديث الطري وينسرب في مسالك القلب مثلما يسري سم الثعبان، فما لبثت إن نزلت عن كل مالك ومالها لوحيدك الطائش. وغاب عنك انك بمالك بين يدي لوثة الشباب وتقذف بمال زوجك إلى هوة الضياع.
أحس الفتى أنه اصبح رب هذا البيت، فأراد أن يمكر بك فيحول بينك وبين خلجان الريبة في قلبك ونزوات الضنة في نفسك، فحباك بالمال - بادي ذي بدئ - واسبغ عليك من فيض غلاتك وخصك بالطيب من الطعام وبالغالي من اللباس، وأنت في مكانك لا ترم. فشكرت له عقله الراجح وحمدت له عطفه الوثاق، وسعدت ببره السابغ. ليتك - يا صاحبي - نظرة بعين الرجل العاقل المجرب إلى زلات ابنك الفتى وهو ينحط إلى الدرك الأسفل من الرذيلة في غير وعي أو عقل. أنه الآن يتملقك ليزدل على عينك ستارا كثيفا من الخديعة لا تستشف من وراءه ما يخبئ لك القدر من الضيق والعنت.
ومرت الأيام تصفعك بالشيخوخة الباكرة من طول ما ركنت إلى الراحة، وتقذفك بالزمان من طول ما خاصمت الحركة فذوي عودك وانطوى بشرك ورانت عليك سحابة من الكابة والحزن.
يا لقلبي، لقد اغترك الثراء عن أن تكسب العيش بالكد وصرفك الولد عم أن تقوم علا شانك بالجهد، فقضيت سنوات من عمري على كرسي وثير في ناحية من دارك الأنيقة بين رفاق الود وأخوان الصفاء، فمري الأداء في مفاصلك ويطحنك في غلطة ويعقدك في عجز. فنضرت حواليك فإذا أخوك الأكبر - وهو يكبرك بسنوات وسنوات - يسير بقدميه المسافات الطويلة بالقوة والنشاط لا يصيبه النصب ولا الإرهاق، لأنه عاش عمره يصارع أمواج الحياة ويكافح شدائد الدنيا يظفر بقوته وقوة عياله. تمنيت لو انك عشت مثله فقيرا لا تجد القوة ألا بالثمن الغالي. . . بعرق الجبين.
ويل لك - يا صاحبي - لقد كفرت خواطرك بالنعمة التي سعدت بها زمانا. والتي رفعتك فوق أقرانك وسمت بك على أترابك! فماذا يخبئ لك القدر جزاء ما كفرت؟
وجاءك - بعد أيام - الخبر الأسود يقسم ظهرك ويهد ركنك ويعطف بصبابة من الأمل كنت تترجاها. جاءك الخبر الأسود يقول: أن البنك العقاري قد استولى على كل ما تملك أنت وزوجك وفاء دين ابنك الداعر الغوي. وإن ابنك قد فر من القرية خشية أن يصمه عار الفقر والذل والسؤال!
الآن، فقدت المال والابن معا، أحوج ما تكون إليهما فأصابك الندم على إن ألقيت بابنك في اللجة من الجهل تجرفه في غير هوادة ولا رفق وعلى أن ألقيت بثروتك بين يدي غر أهوج يبددها في سنوات، ثم يطير عنك. . .
والآن، ماذا يختلج في فؤادك - يا صاحبي - وأنت لقي في الناحية من الدار تتعاورك الهموم وتتناهبك الأسقام، وتنوب تحت أثقال ثلاثة من الأفاقة والشيخوخة الواحدة. . .
كامل محمود حبيب