انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 857/من فلسفة الحياة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 857/من فلسفة الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 12 - 1949



(لذة) الألم!. .

قليلون جداً أولئك الذين يجدون في الألم لذة وفي الشقاء متعة. . . لأن الناس اعتادوا أن يملوا قلوبهم سروراً ونفوسهم مرحاً بما راق لهم من وسائل اللهو والعبث أو المال والبني ن!! أما أن يكون الألم (متعة) وفي الشقاء (لذة). . . فذلك مالم يعهدوا، وذلك ما لم تدركه أو يبلغه تفكيرهم. كنت أرى جمال العالم وأحس بروعة الوجود وإبداع الخالق خلال القطرات التي تذرفها عيناي. . . وكنت أجد نفسي في أمتع ساعاتها وأروع لحظاتها يوم يفعم قلبي ألماً وتملأ نفسي تعاسة، فينطلق لساني من معقله ويفك قلمي من قيوده، ويبدآن يتعاونان: قلم ولسان. . . ولسان وقلم. . فأصنع في ساعة الألم أضعاف ما أصنع في أجمل ساعات السرور!

كنتأبحث عن الألم في كل مكان. . . وهو مني جد قريب، في نفسي، في مأكلي ومشربي، في ملبسي ومسكني، في فؤادي وأحاسيسي ومشاعري. . . ولكني كنت لا أكتفي بذلك وإنما أطمع دوماً في مزيد. . . فأروح أبحث عنه في كل زاوية. وفي كل ركن وفي كل مكان!

حقاً لقد كان الألم ضالتي المنشودة. . وكانت الدموع مناي، فلم أكن أطيق عنهما صبراً حتى أصبحا زميلين لي رفيقين لأحاسيسي ومشاعري!

كنت إذا ما رأيت (مشهداً) يبعث على الألم والحسرة نقمت على (البشرية) الجشعة المتغطرسة المتمثلة في هؤلاء (السادة) الذين يمتصون الدماء ويحيلون عرق الكادحين إلى ذهب يعبثون به على (الموائد الخضر) والليالي الحمر. . . وبتناء ما بدا لهم من الحدائق والقصور. . . ثم أرثي لحال (البشرية) - البشرية التعسة المعذبة المتمثلة في هؤلاء الأبرياء الذين يفنون أنفسهم في سبيل المجتمع ويحيلون دماءهم حجارة يؤسسون بها صرح الأمة ثم لا ينالون أخيراً. . . بعض ما يستحقون!

أحب الألم يا صاحبي. . . حب الجبان للحياة. . . والأناني لنفسه. . . ولكنك لن تراني يوماً أتألم، فذلك سر خفي بيني وبين نفسي. . . وإنما ستراني دائماً وأبداً ضاحكاً مسروراً، مرحاً مبتهجاً بالحياة. . . لا تفارق الابتسامة شفتي. . . وإنما ستردد حنجرتي ضحكاتي الرنانة المعهودة! وما أعظم الألم. . . وأمتعه!

وما أقل من يدرك قيمته قيمته الحقا التي تزكي النفس وتطهر الروح من أدران الآم والأنانية والجشع والأطماع ثم تضفي على الباحث عنه عن الألم ثوب ملاك طاهر ومسوح نبي كريم!

ليتني أتألم دائماً. . . ليرتبط قلبي بالمجموع. . . ويتصل بالوجود بأواصر الرحمة القوية ورباط الحنان المتين. . .

بذلك أكون على اتصال دائم بالإنسانية المعذبة وأبنائها الأشقياء. . . وبذلك نكون شركاء في السراء والضراء. . . حتى يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه. . .

ابن الشراة

-