مجلة الرسالة/العدد 856/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 856/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 11 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

علي محمود طه الصديق والإنسان:

في صباح يوم الجمعة الماضي أمسكت يدان صغيرتان بجريدة الأهرام، واندفع صاحب اليدين الصغيرتين نحوي وهو يهتف في دهشة: أبي. . أنظر يا أبي. . . أليس هذا هو علي طه؟ هل مات حقا يا أبي؟! وراحت عينا الصغير تحدقان في الصورة المجللة بالسواد ثم ترتدان إلىفي لهفة المنتظر الذي يريد من فمي جوابا. . . يكذب ما رأته عيناه! ونظرت إلىالفتى الصغير الذي يحلني من نفسه محل أبيه وأجبت: نعم يا بني. . . لقد مات. . . ترى ألا تزال تذكره يا صغيري؟ وقال الصغير وقد غلبه الأسى على أمره: كيف لا أذكره يا أبي؟ ألم أذهب معكما ذات مساء إلى (الأهرام) أنت وتوفيق الحكيم، وهناك في مكتب الصاوي رأيناه؟ أليس هو الذي ضمني إلىصدره، وقبلني، وقال لي: إذا كبرت يا بني فكن أديبا من طراز عمك؟ أليس هو يا أبي. . . صاحب هذا الصورة؟! وقلت للصغير دون أن أنظر إليه حتى لا تقع عيناي على الصورة التي بين يديه: بلى يا بني إنه هو. . . ذلك الإنسان!

ومضيت أرتدي ملابسي، إلىأين يا أبي؟ إلىهناك يا بني. . . إلىحيث أودع الصديق الحبيب الذي ضمك يوما إلىصدره، وقبلك، وأوصاك أن تكون أديبا. . . ألا تأخذني معك يا أبي؟ يعز عليّ ألا آخذك يا بني، أبق هنا حتى أعود إليك. . . بدموعي!

وبعد دقائق كنت هناك. . . كنت في ذلك المكان الذي قدر لي فيه أن أرى علي طه محمولا على الأعناق! وسرت وراء نعشه، سرت في زحمة المشيعين بجسمي، أما فكري. . . فقد كان مع الماضي القريب، كان ينتزع الذكريات الغالية من قبضة الزمن!

في أول عدد من الرسالة كتبت فيه (التعقيبات) حملت سلاحي، وهو قلمي، ودافعت عن الشاعر الذي لا أعرفه: علي محمود طه. . . وفي هذا العدد من الرسالة ألقي سلاحي، وهو قلمي، لأنني لا أستطيع أن أدافع عن الشاعر الذي عرفته: علي محمود طه. . . لقد كنت بالأمس قادراً على أن أدفع عنه هجوم الناس، أما اليوم فليس بوسعي أن أدفع عنه هجوم القدر، ولا أن أرد عوادي القضاء! كان اللقاء الأول بيني وبينه في صحبة الأستاذ صاحب الرسالة، كان هو الذي جمع بيننا فالتقينا. . . كأكرم ما يلتقي الصديق بالصديق. وتكرر بعد ذلك لقاؤنا وعلى مر الأيام. . . ربط الحسب بين قلبينا بأقوى رباط. وفارق علي طه الدنيا وهو قطعة من نفسي. . . نفسي التي وهبتها قطعا لأصحاب الوفاء!

أشهد لقد كان علي طه مثالا فريدا في صداقته وإنسانيته. وأشهد ما رأيت إنساناً يفتح قلبه لأحبابه من أول لقاء كما رأيت هذا الإنسان. . . لقد كان علي طه يقف أبدا وراء قلبه، أشبه بالرجل الكريم الذي يقف وراء بابه في انتظار الطارقين! وما كان أعذب حديثه إذا تحدث. ما كان أروعه وأمتعه! لا أذكر مرة أنني جلست إليهدون أن يلذ لي الصمت الطويل ليفرغ هو للحديث الطويل. . . أنني أحب دائما أن أستمع إلىصوت فنان، ينطلق من بين شفتين تنتسبان إلىإنسان! مرة واحدة هي التي ضقت فيها بحديثه، وأوشكت أن أضع يدي على شفتيه. كان ذلك ونحن نزوره في مرضه الأخير الذي لقي فيه ربه. . . لقد كان الصمت المفروض عليه هو الطريق الوحيد إلىالحياة، ومع ذلك فقد آثر أن يضحي بحياته ليتحدث إلىأحبابه. . . هو الذي كان يعلم أن كل كلمة ينطق بها لسانه تحمل الفناء لكل نبضة من نبضات قلبه! يا رحمة الله له، لقد كان في ذلك اليوم أشبه بزهرة ذابلة. . . هو الذي كم أفاض علينا من عطره وشذاه!

ما سمعت علي طه مرة يذكر أنسانا بسوء، أو يتناول شاعرا بذم. وكان إذا تحدث عن نفسه فهو الحديث الطليّ الذي يخرج من أعماقه وهو قريب من فكرك وحبيب إلىقلبك، فلا زهو ولا صلف ولا غرور ولا ادعاء. . . ما أثقل الحديث تسمعه من بعض الناس إذا دار حول النفس أو طاف حول معالم الذات! ما أثقله من كل متحدث عن نفسه، وما أخف وقعه على الشعور وأبعد نفاذه إلىالعقول إذا كان المتحدث علي طه. . . كان إذا تحدث عن نفسه فليرسم صورته الإنسانية كما فطره الله عليها. وكان إذا تحدث عن شعره فليحدد طاقته الفنية كما تعارف عليها الناس. . . إيمان عميق بالنفس وإحساس صادق بالقيم. ورحم الله أولئك المؤمنين بأنفسهم، يضعونها الموضع للائق الكريم، دون جور على الحق إذا كان لهم في رحابه نصيب أي نصيب!

رحم الله علي طه، لقد كان واحدا من أولئك. . . . كان يعرف لنفسه قدرها ويعرف لشعره مكانه. . . لم يهبط به أو بها إلىذلك الدرك السحيق الذي يهبط إليهغيره من الشعراء؛ أولئك الذين يضحون بكرامتهم العقلية في سبيل المتعة الزائلة والشهرة الزائفة. . . ويدفعون بها إلىالحضيض لقاء كل زهيد من الأجر وكل تافه من الجزاء! كان شعلة متوقدة من الإحساس بالجمال؛ الجمال في شتى صوره وألوانه ومعانيه: جمال الصداقة، وجمال الكرامة، وجمال الحياة. . . أخلص للجمال الأول فأغترف الأحباب من نبع وفائه، وآمن بالجمال الثاني فقبس الكرام من وهج إبائه. . . وهام بالجمال الأخير فقصر الشعراء عن بلوغ مداه!

كان علي طه أشبه بالبلبل في حياته. . . إذا حلق فلا يحلق إلا في أفق يهيئ له وسائل التغريد، وإذا وقع فلا يقع إلا على غصن يشد له أوتار الغناء! وكان إذا طوّف تخير البقعة التي تثير خيال الشاعر، وإذا شد الرحال فإلى الأرض التي تفجر عواطف الفنان. لقد قضى حياته يفتش عن مواطن الإثارة في كل مشهد من مشاهد الكون وكل مجلي من مجالي الطبيعة، فإذا جلس يوما إلىمائدة الحياة. . . عب من رحيقها المصفى وصب من عصارة الروح في أشهى الدنان. . . .

وكان صاحب ذوق نادر، ذوق كنت أرقبه فيملأ جوانب نفسي تقديرا له وإعجابا به. . . كنت أرقبه إذا ما تحدث عن لوحة فنية راعته، عن قطعة موسيقية هزته، عن أثر أدبي ترك ظلاله في نفسه، عن منظر طبيعي فجر الشعر في أعماقه. . . . عن أي شيء وقعت عليه عينه والتقطه حسه وعاش في طوايا الوجدان! كان مسكنه آية على ذوقه. . . إذا دخلت حكمت على صاحبه من أول نظرة بأنه فنان. . . أنظر إلىهذه اللوحة الرائعة التي تغطي جداراً بأكمله، وإلى تلك التي تغطي الجدار الذي يواجهه. وإلى اللوحات الأخرى الصغيرة التي انتثرت هنا وهناك. . . وتأمل هذا التمثال، وأدر هذه الأسطوانة، وطف ما شئت بأجواء الشرق والغرب، وهيئ شعورك لوقع الفجيعة وأطرق لحظة من زمان. . . إن البلبل الذي كان يصدح هنا قد طوت الريح جناحيه، وهوى من سماء الفن إلىأرض السكون والعدم. . . . ولا رجعة له بعد ذلك ولا إياب!

أذكر أننا تواعدنا على اللقاء ذات مساء في (الأهرام)، ثم خرجنا معا نقصد إلىضفاف النيل والليل ساج والكون غارق في ضياء القمر. . . وراح علي طه يتحدث عن الحياة، وينشد من أشعاره، ويروي من أخباره، ويحلق ما شاء له التحليق على جناح الذكريات. . . وحين يفرغ من هذا كله يمد عينيه إلىالضفة المقابلة ثم يهتف بصوته الحالم: أنظر إلىهذا البيت الجميل الذي ينام في أحضان الزهر. وإلى ذلك البيت الأنيق الذي يستحم في مياه النهر. . . هذه يا صديقي هي الأبيات. . . الأبيات التي أقامها السعداء على دعائم الواقع. أما أبياتنا نحن الشعراء فقد أقمناها على دعائم الخيال!

وأجيبه في صوت يمتزج فيه الإنكار بالعزاء: بالله حسبك. إنها أبيات من حجارة وطين، سيعيش أصحابها نكرات ويموتون كذلك. . . وستمتد إليه ايوما يد البلى فلا يبقي منها حجر ولا أثر أما أبياتك وأبيات الموهوبين من أمثالك فهي من نفس وروح. . . لن تبلى لأنها ستعيش في الضمائر والقلوب، وسيعيش أصحابها ما نطق لسان وما كتب قلم. . . إنك يا صديقي تعكس القضية، إن أصحاب الفن هم أصحاب الواقع. . . لأنهم أصحاب الخلود!

ويعترض علي طه في لطف ثم يقول: أصحاب الفن هم أصحاب الخلود؟ هذا حق جميل، ولكن الحق المر أنهم ليسوا كذلك هنا. . . في هذا الشرق يا صديقي! الشرق الذي قال عنه الزيات كلمة ستظل إلىالأبد شعاراً له. . . ترى أتذكر قوله: (. . . إن النابغ في أمم الشرق يعيش وكأنه لم يولد، ثم يموت وكأنه لم يعش؛ ذلك لأن الحياة فيها لا تزال نوعا من السكر الغليظ يذهل الناس عن الوجود أكثر العمر، فإذا أفاقوا - وقليلاً ما يفيقون - عربد بعضهم على بعض!!).

وأقول ردا على اعتراضه: إن هذه الكلمة قد تعبر عن الشرق في هذا الجيل، ولكنها لن تعبر عنه إلىالأبد كما تظن. . . إن أبناء هذا الجيل لن يؤرخوا الأدب وحدهم وكذلك لم يؤرخه أبناء الأجيال الماضية. . . إن هناك أجيالا آتية ستكون أوسع أفقا وأكثر ذوقا وأوفر فهما وأعمق ثقافة، فليطمئن كل صاحب حق إلىأنه سيظفر بحقه. . . إن لم يكن اليوم فغدا، وإن لم يكن في الغد القريب ففي الغد البعيد على كل حال. . . يا أخي ما أكثر طمعك! ألا يكفيك أنك ملء السمع والبصر في كل مكان؟!

ويتوقف علي طه عن المسير ثم يقول: كلمات يسمعها الشاعر من الناقد ما دام على قيد الحياة. . . فإذا مات. . . . قبض الناقد قلمه عن تقويم شعره واكتفى بكلمة رثاء! وأهمس في أذنه ضاحكا: إذا مت قبلي فلا تخف. . . سأكتب عنك مقالا! ويغرق علي طه في الضحك ثم يقول: وأنت أيضا لا تخف. . . سأرثيك ببيت من الشعر! إن مقالا واحداً من الكاتب لا يستحق غير بيت واحد من الشاعر. . . ويعود علي طه فيتحدث عن الحياة، وينشد من أشعاره، ويروي من أخباره، ويحلق ما شاء له التحليق على جناح الذكريات!

يا أخي. . . يا صديقي. . . يا أيها اللطيف الذي مر بدنياي مرور الطائر الغريب رفرف في سماء الله. . . يا أيها الحلم الذي أيقظ الدجى في خيالي ثم أغفى على جبين الصباح. . . يا أيها الأمل الذي عانق قلبي عناق النسمة العابرة لضفاف جدول ضمآن. . . يا آيها الشعاع الذي رقرق النور في حسي ثم أفرغ في كأسي مرارة الظلام. . . . يا أيها الشراع الذي هز بالشدو شاطئ وقَّبل أمواجي ورحل قبلي إلىالشاطئ المجهول. . . وأشواقنا التي استحالت في معبد الحب دعاءً وصلاة!!

يا أخي. . . يا صديقي إن وفاءك يطوق عنقي. إن دينك يثقل كاهلي. . . لقد تحدثت في هذا العدد عن علي طه الصديق، والإنسان أما في الأعداد المقبلة. . . فسيكون الحديث عن علي طه الشاعر والفنان.

دمعة وفاء من حقيبة البريد:

صورة يتبعها نعي. . . لمن الصورة. . . ولمن كان هذا النعي الطويل يا علي؟. . . . أحقاً أنك أنت يا شاعر؟. . . أحقاً أنك تتوارى عن الحياة التي ملأتها نغماً؟. . . أحقاً أنك أنت يا شاعر؟!

جمعتني به الحياة على شطها ألفاني قبيل مرضه بقليل. . . وطال بيننا الحديث. . . وحديثه حلو طويل. . . يسمعه السامع فلا يمل. . . . ويستزيد!. . . قال لي في ختام حديثه: من ينعيني بعد موتي. . . إنني أحس المنية تقربني. . . أتنعينني يا فتاة؟!. . . ما كنت أعلم حين سألتك عما أقول في نعيك بعد موتك. . . وحين قلت لك مازحة أأقول فيك:

يا راحلاً عن فتنة الدنيا التي ... ملئت من الأكدار والأحزان

ما كنت أعلم حين أجبتني: لا. . . دعي ذلك لأهل الزهد، وقولي في: (مات شاعر الغيد الحسان. . . مات عابد الحسن والجمال). إن هذا يكفيني أن يكون من إحداهن! قلت يا ويلتا. . . يرى الجميلُ الدميمَ جميلا!

والآن. . . وقد حلت الفجيعة ووقع الخطب. . . ما حيلتي في نعيك يا علي ولست من أهل البيان؟!

أحقا أنك أنت يا شاعر؟؟

هذه الدمعة الصادقة، تلقيتها من الأديبة الفاضلة (ل. م). وقد رأيت أن أسجلها هنا وفاءً للوفاء. . . ووفاء للفقيد.

أنور المعداوي