مجلة الرسالة/العدد 853/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 853/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
قصة الدموع التي شابت:
جاء إلى الحيات والدمع في عينيه، ورحل عنها والدموع في عينيه. . . وتلك هي قصته: قصة الدمع الذي شاب والشعر في سواد الليل، والروح الذي أكتهل والعمر في ربيع الأمل، والزهر الذي صوَّح والعطر في رياض الشباب!
من هو؟ لا أحد يعرفه. . . لقد عاش غريباً في دنياه: همسة تنطلق من فجاج الصمت لتتلاشى في سكون العدم، وومضة تشع من وراء الأبد لخبو في ظلام اليأس، ولحن ينساب من أوتار الزمن ليشجى كل عابر سبيل!
يخيل إليَّ أنه لم يكن بشراً من البشر. . . لقد كان روحاً: روحاً شرب من خمرة الأسى المعتقة في دنان الشجن حتى ثمل، و: أن الأيام حين طافت عليه بكئوسها قد ثملت معه فنسيت غيره من الشاربين. وكان طيفاً: طيفاً شفه الحزن حتى لكأن الوجود مأتم كبير، ترملت فيه أحلامه ومنيت بالشكل أمانيه، فكل تعزية في حساب الشعور وهم لا يجدي وسلوة لا تحين!
تسألني عنه؟. . . لقد كان (قارئاً) من قراء (الرسالة)، حدثني عن نفسه يوما فكتبت أليه، وشكا إلى الحياة فأشفقت عليه، ثم لم نلتقي بعد ذلك إلا في عالم الرؤى والطيوف! كل ما بقى منه سطور رأيته من خلالها رأى الفكر، وصورة رأيته من ظلالها رأى العين. . . وما تستطيع يدي بعد اليوم أن تمتد إلى رسائله. . . وما تستطيع عيني بعد اليوم أن تنظر إلى صورته. رباه إني لا أخشى أن تحرقني ناره إذا ما قرأت، ولكنني أهاب نبش القبور إذا رقدت فيها الذكريات. . . ولا أن يلوعني وهج نوره إذا ما نظرت، ولكنني أفزع من رؤية الشموع إذا احتضرت على فراش الغروب!
لقد كانت كل رسالة من رسائله تحمل إلي معنى من معاني القبر في كلماتها كم شهدت مصرع الفكر، وفي زفراتها كم شممت رائحة الموت، وفي أناتها كم سمعت صوت النعاة. وكم أشفقت أن يصبح الظن حقيقة. . . وأن أصحو يوماً على وقع أقدام المشيعين.
ألا ما أعجب القدر حين يفرق بين الناس ويدفع كل حي إلى طريق. . . بسمة ترف على الشفاه هنا ودمعة تقرح الجفون هناك وحياة في موكب الصفو تمضي وحياة في موكب الشجو تقيم، وكأس مزاجها الشهد للسكارى وليس فيها للحيارى نصيب، وليل يقصر وليل يطول. . . وندامى. . . ويتامى. . . وفرحت يهتز منها شعور وحرقة تلتهب منها صدور، ويا جرعة الصبر في قلوب الصابرين ما أعمق مرارتها، حين يصور لك الوهم في التراب أكواباً من العزاء!
من حمرة الشفق حيث طويت الشمس الغاربة، يصطبغ اليوم وجدان وأنا أستعيد ذكرى حياة. . . حياة أشبه بحيرة الغرب دفعت به المقادير إلى دار غير داره، فكل ما فيها خواء يبعث على الشكوى ويغرى بالرحيل!. . . ولكم وقفت منه موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودواء الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!
رباه، لقد كنت رحيماً به حين أخذته. . . لقد تحملت سنواته السبع والعشرون فوق ما يحمل طوق الأحياء من عبادك!!
جيته بعد قرنين من ميلاده:
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ عباس محمود العقاد مقلاً في عدد أكتوبر من مجلة (الكتاب) جاء فيه: (كارل ياسبر) هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين، وهو إمام الوجودية الألمانية غير مدافع، وله آراء في علم النفس وأدب السلوك تعد من مبتدعات المذاهب الأخلاقية في القرن العشرين، ومن أجل هذه الآراء يعول على تقديره لشاعر الألمان الأكبر جيته في ذكرى ميلاده، بعد انقضاء مائتي عام على ذلك الميلاد. . . قال ياسبر عن منزلة جيته الأدبية: إنه وإن يكن أعظم الشعراء الفنائيين ٍالألمان، وعلا الرغم من التقدير العالمي العظيم الذي نالته روايته (فارس)، لا يقف في عالم الأدب موقف الند من هومير أو دانتي أو شكسبير على أساس عمل خاص من أعماله. ولكنه منقطع النظير حين نقيسه بمجموعة أعماله وجوانب شخصيته التي كان الشعر والبعث العلمي والجهود العلمية من عناصرها الأولية!
وتقدير ياسبر هذا يطابق تقديرنا للنابغ الألماني العظيم فيما كتبناه قبل سبع عشر سنة، لمناسبة الاحتفال بانقضاء مائة سنة على وفاته، فقد قلنا عنه في رسالة صغيرة: إن جيته من العبقريين الذين لا ينبئ قليلهم عن كثيرهم لأنه لم يجمع نفسه في قطعة واحدة ولا موضوع واحد. فهو كثير الجوانب كثير التجزئة: الموضوع الواحد عنده لا يدل على كل موضوعاته، والجزء الصغير لا يدل على جملة الموضوع، فكل فكرة له هي أصغر من الرجل في جميع أفكاره)!
أود أن أقف قليلاً لأناقش هذه الآراء، وأول شيء يستوجب الوقوف ويدعو إلى التعقيب قول الأستاذ العقاد إن كارل ياسبر هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين وإمام الوجودية الألمانية غير مدافع. وأظن أن تاريخ الفلسفة المعاصرة سيقرران الفيلسوف الألماني هيدجر لا (ياسبر) هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين وإمام الوجودية الألمانية غير مدافع. . . وحسبنا في مجال التدليل على صحة هذا الرأي أن نقول إن الوجودية الفرنسية عند (سارتر) قد اتجهت في تقرير مذاهبها إلى الوجودية الألمانية عند (هيدجر)، وأن فلسفة هذا الأخير كانت المنبع الأصيل التي تدفقت منه القاطرات الأولى في الوجودية السارترية، أو الحقل الأول الذي أستمد منه الفيلسوف الفرنسي بذوره الفكرية الضخمة، تلك التي أينعت وأثمرت في الوجود والعدم '. .
أما عن رأي ياسبر في منزلة جيته الأدبية فهو رأي عجيب، ومصدر العجب فيه تلك الموازنة بين أديب وأديب على أساس عمل خاص من أعماله الفنية. . . إن الموازنة على هذا الأساس باطلة، لأن الميزان الحق لأقدار الأدباء لا يقام على أساس فكرة واحدة أو رأي واحد أو كتاب واحد يضم بين دفتيه عدداً من الآراء والأفكار، وإنما يقام الميزان الحق في مجال الموازنة بين أديب وأديب بأن يوضع إنتاج هذا كله في كفة، وأن يوضع في الكفة الأخرى إنتاج ذاك. . . عندئذ يصح الحكم ويستقيم التقدير لأننا نضع عالماً من الفكر أمام علم، ونقابل في ميدان الذهنية المبدع بين حياة وحياة. إننا إذا وازنا مثلاً بين فاوست والإلياذة، أو بين فاوست والكوميديا الإلهية، أو بين فاوست وهملت، لنخرج من هذه الموازنة بأن جيته على أساس هذا العمل الخاص من أعماله لا يقف موقف الند من هومير أو دانتي أو شكسبير، كنا كمثل من يوازن بين شارع في برلين وثلاثة شوارع أخرى في أثينا وروما ولندن، لندلل على أن المدين الأولى لا تقف في مجال الضخامة أو الجمال أو النظافة موقف الند من المدن الثلاث الأخريات. . . تلك ولاشك موازنة لا تليق ومنطق لا يروق!
ورب قارئ يعترض على نقدنا لهذا الشق الأول من رأي ياسبر بأن الشق الأخير يتفق وهذا التصحيح، وهو الشق الذي ينادي فيه الفيلسوف الألماني بأن جيته منقطع النظير حين نقيسه بمجموعة أعماله وجوانب شخصيته. . . إن ردنا عليه هو أن جيته ليس منقطع النظير في رأي ياسبر بمجموعة أعماله الأدبية وحدها ولكنه منقطع النظير بشخصيته المتعدد الجوانب والمواهب والملكات، ويدخل في ذلك أدبه وبحوثه العلمية وجهوده العلمية!
وأعجب العجب بعد هذا كله أن ينظر الفيلسوف الألماني ياسبر إلى الشاعر الألماني جيته نظرة قوامها أنه لا يقف في ميدان الأدب موقف الند من شكسبير وأن ينظر الكاتب الإنجليزي كارليل إلى الشاعر الإنجليزي شكسبير نظرة قوامها أنه لا يقف في ميدان الأدب موقف الند من جيته. . . ذلك لأن لكارليل في شاعر الألمان الأكبر رأياً معروفاً سجلته من قبل على صفحات الرسالة، وهو أن جيته أعظم أدباء العالم بلا استثناء!!
حديث لم يخطر لي على بال:
في العدد (225) مجلة المسامرات، وفي الصفحة الثامنة والعشرين يمكنك أن تقرأ مقالاً هذا عنوانه (بين الشيوخ والشباب ما صنع الحداد). . . مقالاً مهدت له المجلة بهذه الكلمات (هي معركة لم تنته بعد، بين الشيوخ والشباب. . . فأولئك يتهمون الجيل الجديد بالسرعة وعدم الاستقرار، وهؤلاء يتهمون السالفين بالجمود والرجعية. وفيما يلي تعرض (المسامرات) مجموعة إجابات من الجيلين.
وبعد أن سجلت المجلة عدداً من الآراء لفريق من شيوخ الأدب وفريق من شبابه، بعد هذا جاء دور أنور المعداوي فقال: (إننا نقدر الشيوخ لأنهم فتحوا أعيننا على الكثير، وهذا التقدير يقف حائلاً بيننا وبين إعلان سخطنا عن التواء بعضهم. . . إن الكاتب ينبغي أن يكون إنساناً قبل كل شيء. وحينما يكون إنساناً تسقط عنه العصبية السخيفة، فلا تجد فارقاً بين كاتب وكاتب. . . وما أقل الكاتب الإنسان عندنا)!
أشهد أن حديثاً كهذا لم يخطر لي على بال، وأشهد أن مجلة المسامرات لم تسألني في أي يوم من الأيام عن رأيي في أي موضوع عرضت له، ولو سألتني لما أجبت. . . لأن في مثل هذه الأحاديث سخفاً لا أحب أن أشارك فيه، ولكنها الصحافة المصرية تنطق الناس بما تشاء لا بما يشاءون! صدقني لو أنطقتني (المسامرات) بما يمكن أن أنطق به لهان الأمر ولكنها - عفا الله عنها - قد جعلت الشيوخ - مع احترامي لهم - إنساناً بلغت به الإنسانية ذلك الحد من التسامح الذي لا أفرق عنده بين كاتب وكاتب!. . إن مجلة (المسامرات) تذكرني ببعض كتاب القصة والمسرحية في مصر، أولئك الذين ينطقون أبطال خيالهم بما لا يمكن أن تنطقهم به الحياة!!
حول الأمانة العلمية في الجامعة:
يذكر القراء تلك القضية التي عرضتها على محكمة الرأي العام الفني في عدد مضى من (الرسالة)، وأعني بها قضية الأمانة العلمية بين أستاذين في الجامعة، هما الدكتور محمد فؤاد شكري والدكتور جمال الدين الشيال. ولقد سألني الكثيرون لماذا لم يرد الدكتور شكري على ما اتهم به من السطو على رسالة زميله وقد انقضت على ذلك أيام وأيام؟. . . أما أنا فقد كنت على وشك أن أعقب على موضوع الأمانة العلمية ظناً مني أن الدكتور شكري قد آثر السلامة فلاذ بالصمت، ولكن أحد زملائه في الجامعة قد أنبأني بأنه متغيب عن وطنه منذ بعيد في مهمة سياسية، ولهذا أرجئ التعقيب مرة أخرى حتى يعود ونسمع دفاعه.
أنور المعداوي