مجلة الرسالة/العدد 851/في مجمع فؤاد الأول للغة العربية:
مجلة الرسالة/العدد 851/في مجمع فؤاد الأول للغة العربية:
خطبة الاستقبال
للأستاذ محمد فريد أبو حديد بك
سيدي الرئيس. سادتي.
عندما علمت بأنني سأقوم مقامي. هذا أستقبل حضرة الأستاذ أحمد حسن الزيات، شعرت في نفسي غبْطة وارتياحاً، لا لأني سأجد فرصة للتحدث عن زميل كريم وأديب كبير بمناسبة اختياره عضواً في المجمع فحسب، بل لأني ذهبت مع الذكرى إلى ماض بعيد أتأمل فيه صوراً عزيزة لاحت لي مع صورة إلى الصديق الذي عرفته ونحن بعد عند الأفق الشرقي من الحياة وما زلت أنعم بصداقته إلى اليوم.
عرفت الأستاذ الزيات منذ خمس وثلاثين سنة، وكنا عند ذلك زملاء في التدريس بمعهد أهلي ضم نخبة من صفوة الأصدقاء الفضلاء هم اليوم من أعز من تفخر البلاد بهم.
رأيت منه أول ما رأيت شاباً أنيقاً في ثيابه الشرقية الجميلة، وكان وديعاً كما هو اليوم، نبيلاً في حديثه، هادئ الصوت إذا تكلم، يغضي حياء وهو يفيض جداً وعلماً وأدباً.
ثم زادت معرفتي به فعلمت أن لحياته قصة - قصة شاب اتجه إلى العلم في الأزهر الشريف وتعلق بالأدب فتلقاه على أعذب موارده، ثم تعلم الفرنسية ودرسها على أكبر أساتذتها، وتلقى دراسة الحقوق في مدرسة الحقوق الفرنسية، فكان إعجابي به لا يعدله إلا عجبي منه، إذ كان مثالاً فذاً بين من عرفت من المعلمين. وجمعتنا الصداقة وقربت بين قلوبنا، فكنا نجد في عملنا معاً من المتعة ما جعل صورة ذلك المعهد الأهلي عالقة على مر الأيام بقلوبنا.
وأنا إذ أنظر اليوم إلى الوراء عبر هذه السنوات الطويلة كأنني مسافر وقف حبنا على ربوة يتأمل الفدافد التي قطعها وهي تبدو تحت بصره غامضة يغطيها ستار من الضباب يحجب شعابها الدقيقة ومساربها الصغيرة ولكنه يجمعها في لحظة واحدة في منظر رائق يحرك القلب بروائه.
وقد كان الأستاذ الزيات أحد أفراد قلائل خدموا البلاد أكبر خدمة في التعليم وفي التأليف، كما أنه واحد ممن أحدثوا في اللغة العربية مناهجها الجديدة في التفكير، وأبدعوا لها أساليبه الطريفة في الكتابة والتعبير. ولن نستطيع أن نعرف مقدار ما أدى للبلاد واللغة من الخدمات هو وأمثاله من رواد الأدب والفكر إلا إذا عدنا بالذاكرة إلى أوائل هذا القرن العشرين.
كانت مصر في أول هذا القرن لا تزال خامدة راكدة من أثر ما أصابها من الصدمات في القرن الماضي. ثم دب النشاط فيها شيئاً فتحركت أول حركتها بطيئة ضعيفة وسرى فيها دم الحياة على هينة كما يسري أول نسيم الفجر بعد ليلة طويلة من ليالي القيظ. وكان من أول مظاهر هذا العهد الجديد إعادة الكرامة إلى اللغة العربية الشريفة: بعد أن قضت رَدَحاً من الزمن غريبة في ديارها قد غلبتها الأمية على أمرها ونحتها تفاهة الحياة عن عرشها.
وفي هذه الحقبة الخطيرة من حياة اللغة العربية كان الأستاذ الزيات وصحبه يجاهدون لنصرتها في تلك الدار المتواضعة المطلة على ميدان بيبرس.
وجد أن الأدب يلقن لتلاميذ المدارس على طريقة لا غناء فيها، إذ كانت الدروس لا تزيد على ذكر أسماء الشعراء والكتاب، يساق أحدها بعد الآخر سرداً، ويورد لكل منهم بيت أو بيتان مما قال، وسطر أو سطران مما أنشأ، ولعل هذا لا يكون من خير ما قال أو كتب، ثم يوصف بعبارة مدح عامة تكاد تتكرر بعد كل من تلك الأسماء، حتى لكأني بالطلاب يخرجون من دراستهم على أن الشعراء والكتاب صور تعيش في الوهم في عالم لا علاقة له بهذه الحياة، بل لقد حكم عليها بأن تنزوي في معاهد التعليم ذاتها، فكانت تدرس كمادة ضئيلة من مواد الدراسة، على حين كانت اللغة الأجنبية تحتل مكان الصدارة في سائر الدروس.
وبدأت الأنظار تتجه إلى اللغة الكريمة وارثة التراث العظيم نلتمس فيها ومنها غذاء الفكر وروى القلب، ولكنها كانت في حاجة إلى من يترجمونها.
كان لا بد للغة العربية عند ذلك من أن تجد من بنيها من يجعلونها تستقل بنفسها، وتضطلع بحملها، وتؤدي رسالتها. فكانت أحوج ما تكون اللغة إلى من يطوِّعونها لأغراضها، ويعيدون إليها مرونتها وقوتها. كانوا جميعاً أعظم الكتاب والشعراء شأناً وأعلاهم قدراً، يغوصون على المعاني فيخرجون منها بالدرر، ويبدعون في البلاغة إبداعاً يجب على الطلاب أن يؤمنوا به وإن لم يروا آية تدل عليه. فلم يكن فيما يدرس من آداب اللغة ما يجعل لأحد منهم خصيصة تميزه في فكره أو في أسلوبه، ولا يجعل لأحد منهم مسلكا سلكه رائداً أو سار فيه مقلداً. بل لم يكن الطالب يعرف أي هذه الأسماء جاء أولا، وأيها جاء أخيراً، ولا أيها الذي ابتدع فكان له فضل السبق إلى الطريق وأيها الذي اتبع وتفنن فكان له فضل التهذيب والإبداع والتمام؟!
فكان للزيات فضل السبق إلى تأليف كتاب جديد في الأدب العربي سار فيه على نهج واضح، فبين معنى الأدب ومناهجه ومدارسه وتحدث فيه عن كل كاتب وكل شاعر حديثاً طريفاً يصوره فيه تصوير الأحياء الذين عاشوا على هذه الأرض وأصابوا من ضعف البشر وقوتهم ومن سموهم وإسفافهم.
ولست أنسى ساعة دفعني إعجابي بذلك الكتاب إلى أن تحدثت عنه في حماسة الشباب على مسمع من بعض الزملاء، فحسب أحدهم - عفا الله عنه - أنني أقصد التعريض به وأكيل المدح لصديقي لكي أغيظ به لا لكي أعبر عن رأي خالص، فهبت علي منه عاصفة شديدة من الحنق كانت بمثابة احتفال رائع بميلاد ذلك الكتاب الجديد.
وقد مضى الأستاذ الزيات في سبيله بعد ذلك يؤلف في الأدب والنقد، وكان له أثره المشكور في توجيه دراسة الأدب، وفي مقاييس النقد، ومؤلفاته في هذا الباب غنية عن أن أعيد ذكرها في هذا المقام.
ولكن جهاده في خدمة اللغة العربية من هذا الوجه لم يكن كل جهاده الأدبي، بل لقد أحسب أنه لم يكن الجانب الأكبر من نشاطه، فهو مترجم القصتين الخالدتين: (آلام فرتر) و (رفائيل)، والأولى للأديب الألماني العظيم جوت، والثانية للأديب الفرنسي الكبير لامارتين. ثم هو صاحب القلم الدائب الذي يمتاز بالتجويد وحسن البيان يختص به صحيفة (الرسالة) منذ نشأتها سبعة عشر عاماً من عمرها الطويل إن شاء الله.
فإذا كنا اليوم نرى في بلادنا حركة أدبية نامية، ومواهب فنية تتطلع إلى الكمال وتسير نحوه قدماً، فما ذلك إلا من آثار جهاد هذا الجيل العامل - جهاد الأستاذ الزيات وصحبه الذين شقوا سبيلهم ما بين الصخور الوعرة والصحاري المجدبة، وأسالوا عصارة قلوبهم ليحيلوا الوعر المجدب إلى خصوبة وارفة الظلال، وليهيئوا للمستقبل آفاقاً جديدة أرفق جواً وأعذب مورداً.
وإذا كان بعض شباب الأدباء يندفعون أحياناً مع القلق في أحاديثهم عن شيوخ الأدب، فإن عليهم أن يذكروا أن هؤلاء الشيوخ قد أهدوا إليهم من الثروة الفنية ما لم يسعدهم الحظ بمثله في بدء حياتهم، وأن على الشبان واجباً لا يستطيعون أن يتخلوا عنه، وهو أن يبلغوا من الإجادة الفنية أعلى مرتبة، إذ لا عذر لهم في التخلف وقد شق الشيوخ طريقهم من قبل ومهدوها لهم وعبدوها
وقد أضاف الأستاذ الزيات بترجمته لفرتر ورفائيل أثرين عظيمين إلى التراث الفني للغة العربية. ولا أعدو الحق إذا قلت إنهما قد أصبحا قطعتين من الأدب القومي.
وقد نسأل أنفسنا: أكنا أشد حاجة إلى التأليف أم إلى الترجمة في مثل حالنا؟ وقد يقال: إن الترجمة عن اللغات الأخرى تنقل إلينا مشاعر قوم غير قومنا، وتعبر عن خلجات نفوس غير نفوسنا. وقد يقال: إن الشعوب الناهضة أجدر بأن تصور مشاعرها وتتعمق ضمائرها، وأن تنشئ أدبها صغيراً حتى ينمو معها ويبلغ مع الأيام مرتبة التمام في التعبير عن آلامها وآمالها.
ولكن الأدب العالمي تراث مشترك بين الشعوب جميعاً، والأديب النابغ لا يكتب لأمة من الأمم دون الأخرى، فهو إنسان يكتب لبني الإنسان، ومن حقه وحق الإنسانية عليه ألا يعد في أمة من الأمم أجنبياً. وقد كانت اللغة العربية في أمس الحاجة إلى جهاد الأستاذ الزيات في ترجمته، بل إنها ما تزال إلى اليوم في حاجة إلى تأمل هذا المثال الذي ضربه في الترجمة والحرص على احتذائه عند نقل الآداب الأجنبية. ما زلنا إلى اليوم ننقل من تلك الآداب ولن نستغني عنها في يوم من الأيام، بل إن حاجتنا إلى الترجمة تزداد كلما زادت ثروتنا الأدبية اتساعاً وغزارة، وكلما زاد اتصالنا بالفكر الإنساني في أنحاء الأرض قوة ولكن هذا النقل لا يضيف شيئاً إلى ثروتنا الفنية إلا إذا توفر عليه من كان له أهلاً من خاصة الأدباء الذين يملكون ناصية البيان.
قال الدكتور طه حسين بك في مقدمته لترجمة آلام فرتر (والترجمة في الفن والأدب ليست وضع لفظ عربي موضع لفظ أجنبي، إذ الألفاظ شديدة القصور عن وصف الشعور في اللغة الطبيعية فكيف بها في لغة أخرى. إنما الترجمة الفنية والأدبية عبارة عن عملين مختلفين كلاهما صعب عسير: الأول أن يشعر المترجم بما شعر به المؤلف وأن تأخذ حواسه وملكاته من التأثر والانفعال نفس الصورة التي أخذتها حواس المؤلف وملكاته إن صح هذا التعبير. والثاني يحاول المترجم الإعراب عن هذه الصورة والإفصاح عن دقائقها وخفاياها بأشد الألفاظ تمثيلا لها وأوضحها دلالة عليها.
وخلاصة القول أن المترجم يجب أن يجتهد ما استطاع لا أن ينقل إلينا معنى الألفاظ التي خطتها يد المؤلف بل في أن ينقل إلينا نفس المؤلف جلية واضحة تتبين فيها من غير مشقة ولا عناء ما أثر فيها من ضروب الإحساس والشعور).
وقد وفى الأستاذ الزيات حق الترجمة بما لا مطمع بعده لمستزيد؛ فكانت عنايته باللفظ ودقة أدائه، لا يعدلهما إلا عنايته بالتركيب وبلاغة تعبيره.
وهو ممن يعرفون للألفاظ حقها. وقد بين رأيه في هذا الأمر بياناً وافياً في كتابه (دفاع عن البلاغة) إذ قال:
(وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة، دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر عليها اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة.
وللكلمات أرواح كما قال موباسان وأكثر القراء، وإن شئت فقل أكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي أعد لها وهندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد إليها الحياة وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعةوالوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة؛ وذلك في الجهاد الفني غير قليل).
ولا شك في أن الأستاذ قد أصاب في هذا القول لب الحقيقة ووضع به أول حد للبلاغة.
وإذا كنت أحب أن أضيف إلى هذا القول شيئاً فذلك أن أخلص منه إلى نتيجة. فاللفظ كما قال لا يزيد على أن يكون جماداً ما بقي في المعجم، ولن تدب فيه الحياة إلا إذا وضع في موضعه من العبارة فأدى المعنى الذي يقصده الكاتب منه. ولن يستطيع كاتب أن يقحم لفظاً على غير المعنى الذي تعود أن يمثله. بل أنه لن يستطيع أن يعيد الحياة إلى لفظ إلا إذا كان قد اتخذ من قبل صورة بعد صورة جعلته أهلا لأنيعبر عن المعنى الذي يريده الكاتب. فالاستعمال يخلع على الألفاظ هالة من المعاني التي لا تستطيع المعاجم أن تصورها، وبراعة الكاتب إنما تظهر في ترويض اللفظ حتى يلقي على العبارة كل ظلال معناه فيمكنه من إثارة الشعور الذي يريد إثارته في نفوس القراء إذا ما أدركته الأبصار ووعته الأسماع.
ومن الألفاظ طائفة تقبع جامدة بين صفحات المعاجم قد حاول اللغويون أن يحددوا المعاني التي فهموها منها إذ كانت حية تؤدي واجبها في التعبير والبيان. ولكنها بقيت هناك دفينة مدة عصور طويلة لم تنبعث فيها الحياة في كتاب ولم يستخدمها أحد في بيان معنى من معاني الحياة. فمن عمد إلى إعادة الحياة إلى هذه الألفاظ لم يأمن أن يقحمها في غير مادتها فتبقى جامدة ميتة لا تبعث في أحد معنى ولا شعوراً.
فأجد الألفاظ بالتعبير الصحيح الفني هي أقربها إلى الحياة في استعمال أهل هذه الحياة.
ومن الكتاب من يذهب إلى أن من الألفاظ ما هو شريف ومنها ما هو مبتذل.
ولا شك في أن هذا صحيح من وجه واحد، فالسر في شرف الألفاظ أو ابتذالها ما هو إلا تاريخ حياتها السابقة وما خلعه عليها الاستعمال من ظلال المعاني في التراكيب التي استخدمت فيها والصور التي اختصت بأدائها.
ولكن الشرف لا يقوم باللفظ من أجل غرابته أو ضخامة جرسه؛ فما ذلك سوى شرف زائف يشبه شرف السوقي الذي يعمد إلى غرائب الثياب ليخلع على صورته ما يجذب إليه الأنظار. فمن الألفاظ ما يعده بعض الكتاب كريما فإذا عمدوا إلى استخدامه في بيانهم بقي في عزلة لا يؤدي المعنى المقصود منه أو يبقى نافراً شامساً يضيع جهد الكاتب هباء.
والأديب إذا كان صادق الحس ممتلئ القلب من المعنى الذي يريد أن يعبر عنه لا يستخدم في عبارته لفظاً إلا وهو يقصد من ورائه صورة.
وليس من السهل على المقلد أن يخلع على أسلوبه الجلال بأن يستعير ذلك اللفظ في عبارته، بل أن ذلك يعرضهلأنيخطئ البيان إذا لم يكن في اختياره للفظ منبعثاً عن إحساس صادق يهديه سبيله. ففي هذا الإحساس وصدق التعبير عنه يكمن الإعجاز في الأداء الفني. هذا الإحساس الصادق هو الذي هدى شوقي إلى تعبيره الرائع إذ قال:
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوان فهذا البيت وإن كان يفيد في جملته أن الحياة الإنسانية زائلة فانية يحمل فوق ذلك فيضاً من الأحاسيس الدقيقة التي تدرك من ظلال المعنى. فدقات قلب المرء لا تكون إلا مع العاطفة المشبوبة والأشجان الثائرة. ووحي الشاعر يحمله في سرعة البرق إلى تأمل بطلان الحزن وإلى أن كل شيء زائل حتى هذه الآلام الشديدة التي تنزلها الكوارث الفادحة، والحزن وإن كان شديداً عند فقد الأحبة يحمل معه خاطرة أخرى أكثر تحريكا للقلب من الحزن نفسه، وذلك أن كل شيء فإن، وأن الوجود دائب على تقريب الإنسان من الفناء لحظة بعد لحظة في غير توقف ولا هوادة.
وقال شاعر آخر:
وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالاً منك يلقي خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلني ... أحدث عنك النفس بالليل خاليا
فما بين هذه الألفاظ هالات مختلفة من المعاني وهي سر ما تحدثه من الأثر في النفوس. فهذا المحب يستغشي وليس به نوم؛ وهو يخرج من بين الجلوس فجاءة كما يفعل من كان مضطرب الخاطر لا يأنس إلى المجامع الصاخبة؛ وهو يطلب خيال الحبيبة ليلقى خياله؛ وهو يحدث نفسه إذا ما خلا إليها - أليست هذه صورة رجل قد سلب لبه واختل عقله ونسي كل شيء في الحياة إلا صورة الحبيبة التي استولت على فؤاده؟ فهو لا يخبر الناس بحقيقة يريد أن يطلعهم عليها، بل يرسم صورة لما أصابه من الاضطراب والقلق والخيل.
ولأضرب مثلاً قصيراً آخر للدلالة على أن شرف الألفاظ كامن في ظلال معانيها، وأن هذه الظلال لا يستطاع نقلها في تعسف من عبارة إلى أخرى.
قال الأبيرد اليربرعي في رثاء صديق اسمه (بُريد):
أحقاً عباد الله أن لست لاقياً ... بريداً طوال الدهر ما لألأ العفر
فهو يسأل في لهفة أحقاً لن يرى صديقه مرة أخرى وأنه سوف يقضي سائر أيامه وحيداً محروماً من صحبته وإيناسه. ولكنه لا يقول في ذلك أنه لن يراه ما طلعت الشمس ولا ما هبت الريح ولا ما انعقد السامر في الحي، بل يقول أنه لن يراه طوال الدهر ما لألأت الظباء العفر بأذنابها. فأين وجه البلاغة هناك؟ أليس ذلك أنه كلما تذكر صديقه عادت إليه ذكرى ساعات المتعة الصريحة القوية التي كان يحسها في صحبته إذ يخرجان معاً إلى الصيد، حتى إذا ما لاحت لهما الظباء العفر تحرك أذنابها وثب قلباهما طرباً وسددا إليها السهام حتى يظفرا بصيد منها ثم يجلسان معاً يطربان سائر يومهما بما أصابا من لذة الصيد والفتوة؟ فلو أراد كاتب آخر أن يستعير ذلك اللفظ في تعبيره عن الألم لفقد صديق حميم لم يكن يخرج معه إلى صيد الظباء في الأيام الصافية لكان جديراً بأن يخطئه التوفيق. فليس هذه الألفاظ بعينها التي تخلع البلاغة على عباراتها وإنما هي ظلال المعاني الخفية التي جعلت لتلك الألفاظ دلالة وأكسبتها شرفاً. ومن الألفاظ الأخرى ما لا يقل في الأداء روعة عنها إذا لم يزد عليها في التعبير عن الحسرة للمتعة المفقودة في مواطن أخرى. فالصديق الذي كان يحس المتعة في صحبة صديقه إذ يمرحان على شاطئ البحر مثلاً لا يزيد على أن يكون سخيفاً إذا رثى صديقه قائلاً (أحقاً أني لن أراك طوال الدهر ما لألأ العفر) وإنما البلاغة في أن يقول مثلاً (ما لمعت أمواج البحر الفاترةُ في أيام الصيف الوديعة) فإذا كان الصديقان ممن يرتادون مجاهل الصحراء معاً أو يجولون بين الغابات العاتية، كان الأجدر بمن يريد أن يعبر عن حزنه لفقد صاحبه أن يقول (أحقاً لن أرى صديقي ما هبت الرياح بين الأغصان، أو ما غابت الشمس وراء الكثبان.
ويمكن أن نخلص من هذا إلى أن خير الألفاظ وأشرفها ما كان جديراً بتأدية المعنى واضحاً في غير عسر، وما كان فيه ظلال من المعاني توحي بالأثر النفسي الذي يريد الكاتب أن يبعثه في نفس قارئه. وذلك لا يتأتى إلا إذا كان اللفظ حياً تحيط به هالة من المعاني يستمدها من الاستعمال في الحياة. وإذا كانت الكلمات غريبة بعيدة عن الاستعمال كانت أحرى بالتقصير عن تأدية حق البلاغة في التعبير.
وقد سار الأستاذ الزيات على هذه السنة في أسلوبه سواء أكان ذلك في ترجمته أمفي إنشائه. غير أنني أقول في شيء من التردد أنه يحاذر أن يستخدم لفظاً يظنه سوقياً أو يظن أن القارئ يراه سوقياً. فهو إذا تحدث عن الماء البارد قال الماء الخِصر، وإذا ذكر عبوس الوجه قال ابتساره وهو يقول: لو عَرفَت لهذا الخطب لتبدد يأسها، يقصد أن يقول لو صبرت للخطب وتجلدت ويقول: اليوم وجدت بي إقهاء عن الطعام؛ وانماث قلبي كما ينماث الثلج؛ وفرقتهم عُدواء الدار. وإني أرى للوزير صَوْرة إلي منذ زمن طويل. وما أظنه يعمد إلى هذا إلا لغاية مضمرة في نفسه؛ فقد رأى بعض الكتاب إذا ترجموا قطعة من آيات الفن أسفّوا في اختيار ألفاظهم بدعوى التسهل، وما هم من السهولة في شيء سوى التقصير عن شأو البلغاء؛ فإنهم لا يختارون السهل الفصيح ولا يجعلون اللفظ في موضعه الذي خلقه الله له، بل يقحمون الألفاظ في غير مواضعها فتنفر منهم ولا تجود لهم إلا بصور تافهة تضيع لب المعنى وتشوه المشاعر العالية التي يدعون أنهم ينقلونها. فهذا التحري الذي يتحراه الأستاذ في اختيار ألفاظه ليس سوى احتجاج على من يقحمون أنفسهم فيما لم يكونوا له أهلا. على أن الأستاذ الزيات مع هذا التخير لألفاظه سهل واضح عذب في الإسماع دقيق الدلالة على معناه.
والآن أختم كلمتي كما بدأتها بالترحيب بالأستاذ الجليل والابتهاج بالعودة إلى مزاملته في هذا المجمع الموقر. وأسأل الله تعالى أن يسدد خطاه وخطانا في خدمة لغتنا العربية الشريفة.
والسلام عليكم ورحمة الله.
محمد فريد أبو حديد