مجلة الرسالة/العدد 85/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
مجلة الرسالة/العدد 85/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
7 - تطور الحركة الفلسفية في ألماني
للأستاذ خليل هنداوي
أما الإنسان فهو عند هيجل الكائن الفرد الذي يتوسط بين الكائنات كيف يشاء، ويدرك نفسه بنفسه. الإنسان هو روح: روح ذاتية لا تحس إلا بحريتها الخاصة، ولا تعمل إلا على ما يضمن لها النصر على ما حولها. وروح اجتماعية تحترم حريات الناس وتراعى حقوقهم. وروح مطلقة تسمو على التقاليد المادية، يفني إزاءها كل شيء من كل شيء تواضع عليه الناس. روح تعود إلى نفسها لتجد في نفسها (المثال الإلهي) فلا تجده غرضاً تسمى اليه ولكن تجده حقيقة شاملة أدركتها فيما أدركت. . .
وقد وجد هيجل ثلاث شعب في العلوم: العلوم النفسية، والعلوم الأدبية، والعلوم الدينية. . . وقد شطر العلوم الدينية ثلاثة فروع: الفن، والدين، والفلسفة؛ أما الفن فهو أول تجربة قامر بها الروح ليتشبه بالوجود، فالفنان يذهل عن نفسه حين يتأمل في عمله. والفن - في الحقيقة - هو يقظة من يقظات الوحي ولمعة من لمعات العبقرية. والدين يفسر معاني الألوهية برموز وألغاز. وفي النهاية وجد الإنسان ربه في نفسه، وها هنا تسامى الدين إلى الفلسفة، وولد الآلةفي روح النسان، وتألف العلم المطلق، وبسط به الإنسان سلطته على الكون، وأدرك به غرضه. هذا هو الفيلسوف الذي يستطيع أن يغلق كتاب الوجود دام انتصار مدرسة (هيجل) خمسة عشر عاماً، لا تسمع فيها إلا صوت هذه المدرسة التي ملكت على القوم، وفرت من وجهها كل مدرسة؛ ثم أخذت تهوى عن عرشها لأن العقل المخدر آن أن يصحو، فبدا له ما هو في هذه الآراء - برغم اشتهار صاحبها بقوة عارضته وقوة منطقة - من تناقص واضطراب. ففي عالمه السياسي والإلهي قد ظهر الاختلاف على أشده، وجد (هيجل) في صاحب الديانة المسيحية شخصية سامية يمازجها روح الإله. ولكنه في فصل آخر يقر بأنه لا يجد في الدين إلا تعاليم آخذه طريقها إلى الفلسفة، حيث تفني في الفلسفة كل عناصر الايمان. وأما آراء (هيجل) في التاريخ فهي آراء عقلية، يتحدث بها عن عقل الفرد وعقلية الأمم، ويرى تاريخ الحرية هو تاريخ العالم. أما العصر الشرقي فهو عصر الحكم المطلق، والعصر اليوناني الروماني هو عصر الحرية الجزئ وعصر الأحزاب والاسر والعبودية، والعصر الجرماني هو عصر النهضة والبعث والثورة، ويقبل هيجل على العصر الحديث ويذكر أن الدولة هي هيئة من هيئات الفكر، ولا بد لهذه الهيئة أن تتمثل في صاحب السلطة والسلطان. وهو لا ينصر مذهب توزيع السلطة خشية أن يثير ذلك الضغائن ويخلق الفتن ويوقع العراك في الأهواء. وهو يقدملنا - بعدها الحوار الطويل - حكومته البروسية بعد معاهدة (1815) مثلاً سامياً للدولة. وهكذا لا يمكن للفيلسوف أن يتجرد من نعرته القومية حتى المباحث التي ينبغي لصاحبها أن يكون مجرداً بعيداً عن الهوى
مذهب المثال الكمالي
وأخيراً ماذا ظل راسياً من مدرسة (هيجل) في الصرح الفلسفي؟ أم ماذا بقي من ذلك الاتجاه العنيف نحو فلسفة (الواحد المطلق) الذي جرى وراءه فيخت وشيلنج وهيجل؟
إن (كانت) في كتابه نقد العقل المجرد أجاب بأن معارفنا لا تضع لنا جواباً شافياً عن حقائق الأشياء، ولكنها تقرب لنا صورها بطريق الحواس، وهذا الوجود لا نراه على حقيقته التي هو عليها، وإنما نراه على الحقيقة التي تبدو لنا منه. وجاء فيخت بعده فجعل من (الذات) ملجأ للحقيقة كلها. والأشياء الخارجة عن كياننا لا يُكتب لها الظهور إلا في اللحظة التي تعالجها الذات وتمعن فيها تفكيراً. , والإنسان بما أوتي من عزم وقوة لم يكن يوماً بكائن بسيط يدفع القوى المحدقة به، ولكنه يريد أن يُسيطر على العالم حتى يتمكن من شعوره بنفسه. ولكن ماذا آلت اليه الطبيعة - في مذهب فيخت - ومعانيها المتدفقة الحساسة؟ أنها قد صُرعت وتجردت من كل المعاني، فجاء شيلنج فعمل على مزج الفلسفة بالفن، وجرب أن يوحد بين العالم والكائن المفكر. الإنسان والطبيعة يجب أن يتحدا ويكون واسطة اتحادهما العقل المفكر والإحساس بالجمال. . . . وهكذا عاد مذهب سيينوزا القائل بأن الله إنما هو كل الكائنات، عاد هذا المذهب بصورة أوسع أفقاً من صورته الأولى، يتوسع في الحرية الإنسانية، وينطوي على فكرة فنية
بلى، إن مذهب المثال الكمالي الذي دان به الفكر الألماني مصدره المذهب القائل (بأن الآلة الواحد إنما هو كل الكائنات) وهذا (هيجل) هو الذي ثبت هذا المذهب بدستوره الذي جاء وليد جهود رفيعة تريد أن تشيد العلم الإنساني، ثم تبلغ بهذا العلم نفسه منزل الحقيقة السامية. فتطور الحياة العُضوية في الطبيعة، وتعاقب الأصول البشرية، وتتابع المدنيات في التاريخ إن هي إلا وجوه متقلبة لأصل واحد. وهذه هي الدائرة التي يجوزها الفكر المطلق عاملاً على تحقيق قوته المبدعة، وراجياً في النهاية أن يتم تعارفه مع الروح الإنسانية. . . الآلة لم يكن. . ولكنه عاد. . . ووُلد في الإنسان. إن معنى الوجود هو أضعف معنى؛ وهل معناه إلا أن تبدو لحظة من الزمن على مسرح هذا العالم المتبدل ثم تعود إلى أصلك؟ كل شيء يزول يدل على أن فكرة بزواله تمت، أما حركة الحياة فانها تمهد في معنى مجرد لا تدركها الأنظار
إن فلسفة هيجل حين جعلت من الروح الإنسانية ملجأ كل معرفة ووعاء كل حقيقة، أصبح المتدين بها يعرف الروح الإنسانية، ولا يعرف مما حولها شيئاً؛ هو يزعم أنه يحلل الكون ويعلل حوادثه ويشيد دعائمه بفكره، ولكنه في الحقيقة لا يتخطى - في ذلك - حدود العالم الصغير الذي يضم الإنسان عليه جوانح صدره
لابد لمن أراد أن يلم بتطور الأدب الالماني في منتصف القرن التاسع عشر أن يقع على أسباب تلك السآمة التي تمشت في عروق ذلك الأدب، ففي غرة هذا القرن اقتحم (نابليون) ألمانيا، وعليها على أمرها؛ فأذعنت أو همدت قليلاً والنار تسطع خلل الرماد، وهي في الحقيقة لم تنفض عنها أملاً ولم تدفع مأملاً، والحركة الفكرية التي ولدها اولئك الفلاسفة تدل على ان مرناها لم تزغ عنه الابصار، وان آثارها لم يطمس عليها طامس؛ وبعد حبوط تلك الآمال النازعة إلى حرية الشعب الألماني ولم شعثه بعد التفريق، خيم على الجهة الألمانية شبه سكون لا يتمخض بحياة! ولكن الأدب لا يموت، ولكنه يثور ويتحرك في الأقطار المذللة حيث ترى أصحابها مدفوعين دفعاً إلى الحياة، والتاريخ وحده ظل دائباً ساعياً وراء الغاية دون أن يقف سيره شيء، أما صوت الشعر فقد خفت، والمخيلة نامت إلى حين
في هذا العصر وجدت فلسفة (هيجل) مزاحماً جديداً عنيفاً، هو تشاؤم (شوينهاور) ومما ساعد على انتشاره قوة بيان صاحبه، وهيجل كان أسلوبه غير بياني، فتهافت الناس بعقولهم وقلوبهم على المذهب الجديد
ما قامت فلسفة أذيع وأسير من فلسفة (هيجل)، فقد كانت تياراً قوياً تقذف بالنفوس إلى مسكن (المثل الأعلى) ولكن تأثيرها سرعان ما وهي، وكان لهجيل. أنصار كثيرون أخذوا عنه وحملوا مبادئه إلى أقطار أخرى؛ حتى إذا وافاه أجله ذهب البعض إلى مقارنته بالاسكندر الذي غزا أقاليم مجهولة، وبعضهم ذهب إلى تمثيله بصاحب الرسالة المسيحية، وفكرة (هيجل) هي مذهب التحول المستمر، والعالم - عنده - هو كالنبتة تنجم دائماً من أصلها، وتحمل في بعض الأحيان براعيم وأزاهير وثمرات. . . . .
وبعد موت (هيجل) انشقت مدرسته وقام منها ثلاث فرق: فريق عكف على تحليل مذهبه وتطبيق فروعه على بعض فروع علمية وأدبية، وقد هذب هذا الفريق من أسلوب معلمهم حتى أخرجوا من حلقة الخاصة إلى متناول العامة؛ وفريق سابق، وأن يرد كل أصولها إلى الدين؛ والفريق الثالث نظر إلى (هيجل) نظرة مستقلة، ووجد أن الدين المسيحي قد انتهى به، كما انتهى العصر الوثني اليوناني بأرسطو، والكلمة التي رددها أحد تلاميذه: (لتكمل إرادة الرجل) تعتبر أول قاعدة في بناء شريعة المستقبل
يتبع
خليل هنداوي