مجلة الرسالة/العدد 85/بين القاهرة وطوس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 85/بين القاهرة وطوس

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1935


11 - بين القاهرة وطوس

اصفهان

(نصف جهان)

للدكتور عبد الوهاب عزام

خرجنا من قم والساعة ثلاث بعد الظهر، سائرين إلى الجنوب تلقاء أصفهان، وبين قم وأصفهان 282 كيلا، فما زلنا نضرب في سهوب مترامية تعمرها قرى قليلة، حتى قطعنا 92 كيلا في ساعتين، فبلغنا قرية دليجان، وهي قرية كبيرة على الجادة يبدو عليها الفقر، وبيوتها كغيرها من قرى إيران، مسنمة السقوف، مطينة الجدر، فاذا رأيتها على بعد حسبتها قبوراً عالية. وقفنا في القرية على بناء كتب عليه بالانكليزية، أنه مطعم ومشرب شاي، وهو طبقتان في كل واحدة حجرتان، وللطبقة العالية سلم من اللِبن يهبط إلى الطريق

دخلنا فقدم لنا الشاي والبطيخ، واسترحنا قليلاً، ثم ركبنا سيارتنا وقد كادت الشمس تغرب. قلنا: كم بيننا وبين أصفهان؟ قيل أربع ساعات، وبين دليجان وأصفهان 190 كيلاً. وقال سائق لصاحب المطعم سنمر بك بعد غد، فهيء لنا دجاجة وحساء، قال نعم، ذلك وكل ما تشتهون

ضربنا في أرض بلقع يتخللها عمران قليل، حتى بلغنا بلدا اسمه شاه عباس، بينه وبين أصفهان خمس وعشر دقيقة، فتغير مرأى الأرض، وبدت لنا الأشجار والزروع والمياه، وما زلنا في أرض مخصبة مخضرة حتى دخلنا المدينة والساعة تسع وخمس دقائق من مساء السبت حادي عشر رجب (20 أكتوبر)

أصبهان: مدينة العراق العجمي، عي 431 كيلاً إلى الجنوب من طهران، وعرضها 32 درجة وطولها 49، وارتفاعها 1344. وهي في سهل واسع خصب، حسن الهواء كثير الماء والشجر؛ قال ياقوت: (وكانت مساحة أصبهان (أي الأقليم) ثمانين فرسخاً في مثلها، وهي ستة عشر رستاقاً كل رستاق ستون وثلاثمائة قرية قديمة سوى المحدثة). ولا ريب أن في رواية ياقوت غلواً تابع فيه القوال الشائعة. وقد قال هو عن اصبهان: (مدينة عظيمة مشهورة، من أعلام المدن وأعيانها. ويسرفون في وصفها حتى يتجاوزوا حد الاقتصاد) وقد أدى إلى إغراق الناس في وصف أصفهان وأقليمها استجار العمران هناك، وكثرة القرى، والمياه والزروع. وقد حدثني مهندس ألماني في مدينة أصفهان أن من بقاع اصفهان بقعة يسير فيها السائر خمسة عشر كيلاً بين الأشجار. وبُنيت الأقاليم القطن والتبغ والبطيخ وكثيراً من الفاكهة

والمدينة على نهر زنده رود (النهر الحي)، ويسمى اليوم زايَنده رود (النهر الوَلود). حدثني رجل أنه سمي بهذا لانبجاس مياهه من الأرض في مواضع كثيرة. قال ياقوت: (زند روذ نهر مشهور عند أصبهان، علمه قرى ومزارع؛ وهو نهر عظيم أطيب مياه الأرض وأعذبها). وقال في موضع آخر: (وقد وصفه الشعراء فقال بعضهم:

لست آسي من اصبهان على شي ... ء سوى مائها الرحيق الزلال

ونسيم الصبا ومنخرق الري ... ح وجو صاف على كل حال

ولها الزعفران والعسل الما ... ذي والصافنات تحت الجلال)

وكذلك قال الحجاج لبعض من ولاه اصبهان: قد وليتك بلدة حجرها الكحل، وذبابها النحل، وحشيشها الزعفران.

وقال آخر:

لست آسي من اصبهان على شي_ء أنا أبكي عليه عند رحيلي

غير ماء يكون بالمسجد الجا ... مع صاف مزوق مبذول

ولعل قول كل من هذين الشاعرين (لست آسي) لما تحدث به القدماء من وصف أهل اصبهان بالبخل. وقد حكي عن الصاحب ابن عباد أنه كان إذا أراد الدخول إلى اصبهان قال: من له حاجة فليسألنيها قبل دخولي إلى اصبهان، فانني إذا دخلتها وجدت بها في نفسي شحاً لا اجده في غيرها. وقد روي ياقوت بيتين كتبا في بعض الخانات التي في طريق اصبهان:

قبح السالكون في طلب الرز_ق على أيذج إلى اصبهان

ليت من زارها فعاد اليها ... قد رماه الآلة بالخذلان

وعلى نهر اصبهان اليوم ثلاث قناطر من عجائب الآثار، أكبرها قنطرة (الله ويردي خان) أحد قواد الشاه عباس، وتسمى اليوم (بلِ سي وسه جشمه)، أي القنطرة ذات الثلاث والثلاثين عيناً. وهي مبنية بالحجارة الضخمة، تسير فوقها طريق واسعة لها جدران عاليان. والنصف الأسفل من عيونها يسد بالخشب إذا أريد حبس الماء، وعلى جانبي العون في قاع النهر سنادان من الحجر يسير عليهما الناس حين انخفاض الماء

ومدينة اصبهان قديمة ذكرها بطليموس. وكانت ذات مكانة عظيمة قبل الأسلام؛ ولم تزل في الإسلام معدودة من أمهات المدن الفارسية

وقد تقبلت بها غيرٌ كثيرة واهتمت بالسيطرة عليها ل الدول الإسلامية الشرقية، فتولى أمرها السامانيون والبويهيون والغزنويون والسلاجقة، وكان السلطان ملكشاه السلجوقي يحب المُقام بها. ولما سالت على المسلمين كوارث التتار، ساروا اليها سنة 625 فدفعهم عنها البطل العظيم جلال الدين خوارزمشاه، ولما كانت الدولة التيمورية ثار أهل أصفهان على الجبار تيمورلنك سنة 790 فقتلهم حتى قيل إنه جمع سبعين ألف رأس فبنى بها أهراماً

وامجد عهود أصبهان عهد الدولة الصفوية، ولا تزال آثارها ناطقة بما كان لما من جلال وجمال في ظل هذه الدولة

وقد بلغ سكانها في ذلك العهد ستمائة ألف، وكان بها ثمانية وثلاثون ألف دار، واثنان وستون ومائة جامع، وثمان وأربعون مدرسة، وثلاث وسبعون ومائتا حمام، وثمانمائة وألف خان، (كاروانسراي) وكان محيطها فيما يقال أربعة وعشرين ميلا

ولما أغار الأفغانيون على إيران وقضوا على الدولة الصفوية، ثم صارت طهران دار الملك تناقص عمران المدينة، ودالت دولتها، وسكانها اليوم ثمانون ألفاً، ومحيطها ميلان، ولكن لها شأناً عظيماً في التجارة والصناعة

دخلنا المدينة ليلاً، فأوينا إلى فندق اسمه (فندق الفردوس). وكان يسمى الفندق الأمريكي، وهو في شارع واسع مشجر قديم يقال إن أشجار من عهد الشاه عباس الكبير، وهو أعظم شوارع المدينة. وجاءنا بعد قليل رئيس البلدية فحيانا وقال إنه يود أن ننزل داراً خاصة في ضيافة الحكومة، فشكرنا له وللحكومة هذه الحفاوة، وآثرنا أن نبقى في الفندق، فأبلغنا دعوة الحاكم إيانا إلى العشاء في داره غداً

لم يمكنا الأعياء من التجول في المدينة تلك الليلة، ولكن نعمنا بمرأى أشجار الحور الباسقة تنثر على الأرض ضوء القمر، كما تتناثر في خيالنا ذكرى الماضي المجيد من هذه البلدة الخالدة، التي نشأت من علماء الإسلام الأعلام أمثال أبي الفرج الأصفهاني وداود بن علي صاحب المذهب الظاهري، وأبي نعيم صاحب الحلية، وحمزة المؤرخ

وكنا نسمع في الحين بعد الحين جلجلة الأجراس في أعناق الابل أو الثيران السائرة في المدينة. وهذا صوت مطرب في جوف الليل، ولكنه يذهب بالنوم. وغدونا إلى دار الحكومة فقابلنا حاكم أصفهان وهو أحد الوزراء السابقين، ورجال الصحافة القدماء، وكان له جريدة تسمى صور أسرا فيل فغلب اسمها عليه فهو اليوم يسمى قاسم صور اسرافيل، ويتسمى هو بهذا الاسم ويكتبه على بطاقته، وكذلك جاء إلى دار الحكومة نفر من الألمان، منهم الدكتور شميت الصحافي الذي ينشر جريدة في أنقرة الآن، وكان مندوباً إلى مؤتمر الفردوسي ولكنه تأخر

خرجنا لرؤية آثار اصفهان الرائعة. وإني أشفق على القارئ أن أصف المساجد والقصور التي رأيناها وصفاً مفصلاً، فمن شاء أن يرى صور هذه الآثار فليذهب إلى الجمعية الجغرافية ليرى قاعة المحاضرات مزدانة بصور كثيرة من الآثار الفارسية، أعظمها وأجملها آثار اصفهان

في المدينة ميدان كبير قال لنا مهندس ألماني إنه أكبر من ميدان الكنوكورد في باريس ومن كل ميدان في مدينة

وان هذا الميدان للعب الكرة والصولجان على ظهور الخيل (الجوكان)، ولا تزال فيه العمد الخشبية التي تُعلم غاية الملعب. وفي وسطه حوض كبير تنبجس منه نافورات قوية؛ وهي من ثار الصفويين، وقد أصلحت أخيراً

ويحيط بالميدان آثار الصفويين: مسجد الشاه ومسجد الشاه لطف الله والباب العالي والسوق

مسجد الشاه من أجمل مساجد المسلمين، بل من أعظم آثار العالم قاطبة، بناء ضخم وهندسة محكمة، وصنعة الكاشاني والكتابة والنقش لم تدع مزيداً لصانع أو ناظر. ولا يرى مقدار شبر في جدر المسجد أو إيواناته أو قبابه خالياً من هذه الصنعة، فقد أفرغ الجمال على هذا المسجد كتابة ونقشاً وتلويناً

وفوق إيوان القبلة قبة شاهقة تعلوها قبة أخرى، وبينهما ستة عشر متراً، فاذا توقف الإنسان في مركز القبة وصفق بيديه صفقه خفيفة، أو تكلم بصوت خافت، أو حك الارض برجله انبعث الصدى عالياً مدوياً مردداً في القبة أكثر من عشر مرات

ومسجد الشاه لطف الله أصغر من هذا، ولكن فيه من الفنون دقائق عجيبة، وفيه طبقة تحت الأرض للصلاة في الشتاء

(يتبع)

عبد الوهاب عزام