مجلة الرسالة/العدد 849/مسئولية
مجلة الرسالة/العدد 849/مسئولية
الاحتلال الإنجليزي لمصر
في مثل هذا الشهر من عام سنة1882 تم الاحتلال الإنجليزي لمصر. ذلك الاحتلال الذي لم تستغرق حوادثه - منذ ضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليه الى استسلام عرابيبالقاهرة في الرابع عشر من شهر سبتمبر - سوى شهرين اثنين. ولموقعة التل الكبير أهميتها الخاصة بعد تحصينات كفر الدوار في حوادث ذلك الاحتلال مع إنها لم تدم سوى عشرين دقيقة فر بعدها عرابي إلى القاهرة ليستسلم في اليوم التالي.
ولقد دعت السهولة التي تم بها الاحتلال الإنجليزي لمصر إلى الاختلاف حول تحديد المسؤولية في ذلك الاحتلال. أتقع المسؤولية على عاتق عرابي أم على عاتق الدولة العثمانية أم على الإنجليز وجشعهم الاستعماري؟
وهكذا تأرجحت آراء الكتاب حول هذا الموضوع بين هذا الرأي أو ذاك.
عرابي هو المسؤول الأول والأخير. لقد اعتنق بعض الكتاب هذا الرأي وأيدوه بحجج قوية.
ألم يدفع بسلوكه الخديوي إلى الارتماء في أحضان الإنجليز؟ ألم يهمل الدفاع عن حدود مصر الشرقية؟ أما كان من الحكمة أن يلجأ إلى سد القناة فيؤخر الزحف الإنجليزي على الأقل إن لم يعقه؟ يقول له دلسبس في تلغرافه: (إن الإنجليز يستحيل أن يدخلوا القناة، فينخدع بهذا التلغراف وبالتلغراف الذي يليه: (لا تعمل عملاً ما لسد قناتي، فأني هنا ولا تخش شيئاً من هذه الناحية، إذ لا ينزل جندي إنجليزي واحد إلا ويصحبه جندي فرنسي، وأنا المسئول عن كل ذلك).
أي قائد هذا الذي يصدق مثل هذا التصريح الأجوف فيركن أليه في تحصين بلاده؟ ألم يقل فيه صديقه جون نينيه (إن بساطة عرابي جعلته يرتكب أغلاطا كبيرة ظهرت عواقبها بعد، فمقدار ما بذل من الهمة في الدَّفاع عن الإسكندرية وتحصين خطوط الدفاع في كفر الدوار بحيث امتنعت على الإنجليز، قد أظهر منذ ابتداء القتال غفلة بالغة إذ استمع إلى النصائح الكاذبة التي خدعه بها المسيو فردبناند دلسيبس حين زعم أن الإنجليز لا يمكن أن يتعرضوا للعمل الفرنسي، فامتنع عرابي عن سد القناة في الوقت المناسب واستمسك برأيه رغم ما كانت تحتمه الخطط الفنية الحربية، ورغم ما أرتاه زملاؤه وما ارتأيته أنا وكررته عشر مرات تارة بالقول القارس وطوراً بالكتابة في وجوب سد القناة؛ رغم كل ذلك أصرَّ عرابي على رأيه فمهد للجنرال ولسلى نصراً من أسهل ما عرف في تاريخ المعارك. ويحذره جون نينيه قائلا: (إن قناة السويس هي خط الدفاع الوحيد الذي لكم في هذه الناحية، وإذا لم تحتلوه فسيحتله العدو غداً ولن يجد صعوبة في احتلاله) ومع ذلك كله يأبى عرابي إلا أن يصمَّ أذنيه ويقف مكتوف اليدين حتى تساءل كاتب تاريخ الحركة القومية بقوله: (فليت شعري ما الذي جعله يعدل عن هذا الرأي الصواب ويمتنع عن سدَّها حتى احتلها الإنجليز؟) وموقعة التل الكبير!! كيف يخوض تلك الموقعة الفاصلة وهو بعد لم يستكمل وسائل الدفاع؟ لقد أقيمت خطوط الدفاع على عَجل، ولم تكن هيفي ذاتها محكمة الوضع. يقول المستر بلنت في التاريخ السري للاحتلال: إن جيش عرابي بالتل الكبير لم يزيد على عشرة آلاف أو اثني عشر ألف جندي، والباقون كانوا من المجندين الأحداث الذين لم يسبق لهم إطلاق بندقية واحدة. أضف إلى ذلك أن خيرة الجنود لم يكونوا بلتل الكبير بل كانوا في كفر الدوار أو في دمياط، وهؤلاء لم يشتركوا قط في المعركة، وكان من حسن التدبير أن يستدعى عرابي على الأقل الألاي المرابط في دمياط لأنه كان يحتوى على خيرة الجند المدربين، ولكنه لم يفعل. بل لقد عهد عرابي بالقيادة إلى علي باشا الروبي فحضر قبل الواقعة بيوم واحد وهو وقت لا يكفي لتعرف مواقع القتال ووضع الخطط الصالحة.
وكيف لا يشتم رائحة الخيانة في صفوف أعوانه؟! أترسم خطة الموقعة ليلا فلا تستقر في نفس الليلة إلا عند الأعداء؟! ويتحرك الجيش الإنجليزي إلى أن يصل إلى ميدان الموقعة مسافة تبلغ نحو خمسة عشر كيلو متراً دون أن تصادفه طلائع المصريين؟ أيوقع الإنجليز بالجند (على حين كان راقداً فدهشت العساكر وتولاها الانذهال حيث رأوا ضرب النار من خلفهم وأمامهم، فألقوا أسلحتهم وفروا طالبين النجاة) على حد عرابي نفسه في روايته عن تلك المعركة.
وأخيراً كيف يرتضى عرابي لنفسه أن يرخى لفرسه العنان ثم يستسلم بعد فراره هذا الاستسلام الذليل؟ لقد قال الرافعي بك في هذا الموقف الذي ختم به عرابي فصول الثورة: (ولكن عرابي آثر الحياة على الواجب المقدس ففقد روح البطولة والتضحية، ولم يكن هذا عهده للأمة قبل نشوب الحرب، فقد كان يقول أنه لا يخشى تهديد إنجلترا ولا أوربا ولا تركيا وإنهُ مُصرُّ على أن يدافع عن مصر حتى آخر رمق من حياته. فليت شعري لمَ لم يف بعهده فيكون دفاعه على الأقل صفحة بطولة في تاريخه وفي تاريخ مصر، أما إذا كان معتزماً التسليم لمجرد الهزيمة فكان الأولى به أن لا يغامر بالبلاد في حرب أدَّت إلى الاحتلال والهوان، فهزيمة التل الكبير لم تكن هزيمة عرابي وحده أو هزيمة لجيشه بل هي هزيمة لمصر بأسرها إذا كانت نتيجتها الاحتلال البريطاني) بل لقد ذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك في تفسير فرار عرابي فقال أنه لم يفر من الموقعة ليواصل الجهاد ولكن لكي ينجو بنفسه؛ ولو كان مجاهداً حقاً لظلَّ يجاهد حتى آخر نسمة من حياته.
أفلا يرى القارىء العزيز إلى أي حد يذهب بعض الكتاب في إلقاء مسئولية ذلك الاحتلال المشئوم على عرابي والعرابيين؟ إن الاتهام تلو الاتهام ينصب في غير رحمة أو هوادة على العرابيين وعلى رأس عرابي بالذات.
ولكن مهلاً أيها القارئ العزيز فسنستعرض بقية الآراء حتى نعثر على الحقيقة في ثنايا ذلك الاستعراض فتكون الحقيقة والحقيقة وحدها سبيلنا إلى تحديد المسئولية والمسئولين وحتى نستطيع استخلاص العبرة من تاريخ ذلك الاحتلال.
- 2 -
لا، ليس عرابي هو المسئول. ولكن المسئول الأول والأخير هو الدولة العثمانية. تلك الدولة التي دبَّ الضعف والانحلال في جميع أرجائها فاستحقت بذلك لقبها المشهور (الرجل المريض)
ألم تقف الدولة العثمانية عقبة كؤودا في سبيل نهوض مصر؟ ألم تعمل السياسة العثمانية على إبقاء مصر ضعيفة ظناً أن هذا الضعف هو الوسيلة الوحيدة لبقاء مصر داخل نطاقها؟! ثم هذا الموقف المضحك المزري الذي وقفته إزاء الثورة العربية! كيف ترتضى لنفسها الاشتراك في تمثيلية مؤتمر الآستانة؟! وبأي حق تسمح للدول الأوربية أن تقحم أنوفها فيما لا يعنيها؟!
وكيف تنخدع هي الأخرى بهذا المؤتمر وبسراب الخطب التي ألقيت فيه؟ يضع مندوبو الدول في هذا المؤتمر ما أسموه: (ميثاق النزاهة) وفيه تتعهد الحكومات التي يوقع مندوبوها على هذا القرار بأنها في كل اتفاق يحصل بشأن المسألة المصرية لا تبحث عن احتلال أي جزء من أراضى مصر ولا الحصول على امتياز خاص ولا على نيل امتياز تجارى. . الخ)
أحقاً هذا؟! أحقاً ينخدع الباب العالي ويؤمن بنزاهة الميثاق وتنجح السياسة الإنجليزية في اتخاذه مخلب القط أثناء الاحتلال. خطب اللورد دفرين سفير إنجلترا وممثلها في المؤتمر فعرض لتفاصيل الحالة في مصر قائلاً: (إن وزارة راغب باشا هي أداة في أيدي الثائرين، وأن الخديوي لا حول له ولا قوَّة. ثم أهاب بالدول أن تأخذ الثورة المصرية - على حدَّ قوله - بالشدة حتى لا يستعمل نفوذها فلا يعود من السَّهل استئصال شأفتها. وقال إن الوسائل الفعالية التي يجب اتخاذها لإعادة حكومة منتظمة إلى مصر يجب أن تصدر عن الحضرة السلطانية.
وهكذا نجحت إنجلترا في إقرار مبدأ التدخل في شئون مصر الداخلية. بل إن جمود الدولة العثمانية كان سبباً في تمكين الإنجليز من التدخل بمفردهم بعد أن خلقوا (الحالة القهرية) التي استدعت في زعمهم ضرب الإسكندرية.
ألم تكن مهزلة المهازل أن يتم ضرب الإسكندرية واحتلالها ومؤتمر الآستانة مع ذلك موجود ولا يستحي المندوبون فيه من مواصلة عقد الجلسات بعد أن تمًّ ذلك العدوان؟ ألا تكون الدولة العثمانية مسئولة عن هذا الاحتلال وهي التي مكنت - سواء بضعفها أو غفلتها أو جمودها - من التدخل الإنجليزي باسمها وباسم الخديوي؟!
كيف ترضى الوقوف في جانب الإنجليز - وهي تعلم سياستهم ونياتهم فتؤيدهّم بنفوذها الروحي والسَّياسي ويُجارها في ذلك الخديوي فيطعن الحركة العرابية في الصميم بإيقاع الانقسام بين رجالها وبالتالي في القضاء عليها؟ كيف ترضى الدولة لنفسها هذا الموقف العجيب فتؤيد دهاقنة الإنجليز ضد عرابي. . . عرابي الذي كانت تعلم حق العلم حقيقة نواياه وأطماعه. أليس من العجيب أن يكون عرابي من الخطورة على الدولة العثمانية وعلى الخديوي بحيث يضطرها إلى الاستعانة بإنجلترا في القضاء عليه؟ أما كانت الدَّولة العثمانية بتصرفها هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ والله يعلم أن حركة عرابي والعرابيين كانت على الدولة وعلى مصر أبعد شيء عن الرمضاء، وأن الإنجليز كانوا على البلاد وعلى الدولة أشد خطراً من النار.
ألم يكن موقف الخديوي من الحركة العرابية معولاً قوياً من معاول هدمها؟ كتب الخديوي إلى الإمبراطور سيمور بعد ضرب الإسكندرية يقول على لسان رئيس وزرائه: (كونوا إذن على علم بأن الجناب الخديوي عزم على عزل عرابي من وظيفته، فهو لذلك وحده المسئول عما يحدث) ويرسل الخديوي تلغرافاً إلى عرابي بكفر الدوار يأمره بالكف عن الاستعدادات الحربية ويؤيد بذلك وجهة النظر الإنجليزية في ضرب الإسكندرية (اعلموا أن ما حصل من ضرب المدافع من الدوننمة الإنجليزية على طوابي الإسكندرية إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفائها وإنكارها) ثم يعزله في النهاية (لقد عزلناكم من نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم بما ذكر ليكون معلوماً) ويكتب الخديوي بعد ذلك منشوراً إلى الأمة يحذرها فيه من الانضمام إلى عرابي وإلى مناصرة الجيش الإنجليزي والامتناع عن معاونة العرابيين.
وهكذا نجح الإنجليز في صبغ تدخلهم بالصبغة الشرعية تلك الصبغة التي أخذت تزداد كلما توالت المنشورات وهي لا تفتأ تردد عصيان عرابي وتتوعده هو ومن ينحز إليه بالعقاب. وحين فتح الإنجليز الجبهة الشرقية كان الخديوي في الوقت الذي يتوعد فيه عرابي يرسل كتب التهنئة إلى أركان حرب الجيش الإنجليزي بما يحرزون من انتصارات! وهكذا مكن موقف الدولة العثمانية وموقف الخديوي قائد الجيش الإنجليزي من أن يعلن المصريين بأن جيشهم إنما هو تجريدة عسكرية إلى القطر المصري ليست إلا لتأييد سلطة الحضرة الخديوية؛ وأن قائد الجيش يُسرُّ جداً من زيارة مشايخ البلاد وغيرهم من الذين يودون المساعدة لردع العصيان الذي هو ضد الحضرة الخديوية الحاكم والوالي الشرعي على القطر المصري المعين من لدن الذات الشاهانية.
وقد كان محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب نائباً عن الخديوي في مرافقة الجنرال ولسي في زحفه على العاصمة، بل لقد كان الخديوي قد أعطى للإنجليز ترخيصاً باحتلال القناة.
وجاءت الدولة العثمانية فأعلنت عصيان عرابي والحرب قائمة ونشر ذلك الإعلان في جريدة (الجوائب) التي كانت تصدر باللغة العربية بالآستانة، وقام سلطان باشا بتوزيع نسخ تلك الجريدة بين الأهالي والأعيان بل وبين كبار الضباط.
حقاً لقد كانت الدولة العثمانية بتصرفاتها طابوراً خامساً طعن الحركة العرابية طعنة نجلاء ومهد لرسوخ قدم الاحتلال. ولكن مهلاً أيها القارىء العزيز حتى نستعرض الرأي الثالث والأخير.
(البقية في العدد القادم)
كمال السير درويس
نقص
القول بنفي الصفات إلى القول بأن الله تعالى محال أن يعلم نفسهلأن من شرط المعلوم عنده أن يكون غير العالم به، وهكذا يكون العالم متميزاً عن المعلوم. ولكن معمر رد هذا التمييز بينهما خوفا من أن يؤدى بنا إلى الاعتقاد بأن علم اللَّه مميز حقيقة عن ذاته فرفض القول بأن اللَّه يعلم نفسه وقال بأن العالم والمعلوم واحد أي أن علم اللَّه هو ذاته (أي ذات اللَّه) وعلى ذلك لا يكون العلم منفصلا في اللَّه ولكنه دائماً فيه قديم وغير مميز عن ذاته.
لذلك قال جمهور المعتزلة: إطلاق العلم لله غز وجل إنما هو مجاز لا حقيقة، وإنما معناه أنه تعالى لا يجهل فتكون المعادلة خالصة كاملة تامة بين ماهية الله وعلمه، كما أن هذه المعادلة كاملةأيضاً بين الماهية وأي صفة من الصفات الأخرى والتي هي في نظر المعتزلة اعتبارات ذهنية ليس إلا -
مصدر هذه الفكرة:
يقول أرسطو في مقالته الثانية عشرة من كتاب ما بعد الطبيعة أن الله علمُ كله؛ قدرةٌ كله؛ حياةٌ كله؛ سمعٌ كله؛ بصر كله. وقرأ أبوالهذيل والنظام في بغداد ترجمة مؤلفات أرسطو وأفلاطون فيكون أبوالهذيل قد أخذ هذا القول عن أريسطو على حسب ما جاء في مقالات الإسلاميين للاشعرى وحسَّن أبوالهذيل اللفظ من عند نفسه وقال: علمه هوهو، وقدرته هي هو - ويؤكد الشهرستانى ذلك بقوله إن أبا الهذيل اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة اللذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثيرة فيها بوجه، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته. والمعروف أن هذا هو قول أرسطو.
وهناك سبب آخر جعل أبا الهذيل أولا ثم المعتزلة ثانياً يردون الصفات إلى الذات. يقول أبو الهذيل: هناك فرق بين قول القائل إن الله عالم بذاته لا يعلم، وبين القائل إن الله عالم يعلم هو ذاته، وهو أن القول الأول نفى الصفة والثاني إثبات ذاته هو بعينه صفة أو إثبات صفة هي بعينها ذات؛ وإذا أثبت أبوالهذيل هذه الصفات (العلم والقدرة والحياة والعدل) وجوهاً للذات فهي بعينها أقانيم النصارى - لذلك نفى القول الثاني القائل بأن الله عالم يعلم هو ذاته حتى يرد الأقانيم عند النصارى.
قدم علم الله:
لما كان علم الّه هو الله، ولما كانت ذاته تعالى تتصف بالقدم، فإذاً علمه قديم أيضاً. وهذه نقطة في غاية الأهمية عند المعتزلة. ولا ينفك أبوالهذيل والنظام يرددان القول يقدم العلم. ويقول هشام الفوطي إن الله لم يزل عالماً لنفسه لا يعلم سواه قديم ولا يعلم محدث وإن الله لم يزل عالماً بأنه سيخلق الدنيا ثم يفنيها ثم يعيد أهلها (فريق في الجنة وفريق في السعير).
تضيف المعتزلة على قولها إن الله لم يزل عالماً بنفسه قولها بأنه تعالى عالم لذاته أزلا بما سيكون (والمستقبل لا يوجد إلا بالنسبة لنا وليس له وجود عند الله). وهناك فارق كبير بين علم الله وعلم الإنسان: فعلمنا بما سيكون هو علم بشيء جائر، على عكس علمنا بما يكون فإنه علم بشيء متحقق واقعي. ولكن علم الله هو علم بشيء حقيقي لا بشيء جائز، لأنالجائز يمكن أن لا يتحقق وعلم الله لا يتعلق به.
اعتراض على هذا القول: اعتراض هشام بن الحكم:
بما أن الله لم يزل عالماً بالأشياء حتى قبل وجودها ولم يزل قادراًً عليها فهل ما يعلمه الله وما يقدر عليه قديم أيضاً؟ هذا سؤال وجهه هشام بن الحكم (الرافضي) إلى المعتزلة قائلا لهم: إن كان الله عالماً بدقائق الأمور وجلائلها لنفسه فهو لم يزل يعلم أن الجسم متحرك لنفسه لأنهالآن عالم لذلك وما عَلمهالآنفهو لم يزل عالماً به. فإن كان هذا هكذا فلم يزل الجسم متحركا لأنه لا يجوز أن يكون الله يزل عالماً بأن الجسم متحرك إلا وفى الوجود جسم متحرك على ما وقع به العلم.
رد المعتزلة:
يبدوا هذا الاعتراض وجيهاً في أول وهله. ولكن المعتزلة وجدت فيه نقصاً وضعفاً كبيرين - يوجد أولا نقص منطقي في الاعتراض نفسه لأنالله في مذهب هشام بن الحكم جاهل بالأمور غير عالم بها وهو يعلمها عند وقوعها. وهذا تشبيه شنيع لله بخلقه يناقض كماله تعالى.
ثم هناك ضعف آخر في الاعتراض وهو إن كان الله لم يزل عالماً بالأشياء قادراً عليها فهذا لا يعني أن الأشياء المعلومة والمقدور عليها موجودة منذ القدم - لأن الفاعل لابد من أن يكون قبل عالماً يكيف يفعله وإلا لم يجز وقوع الفعل منه، كما أنه إذا لم يكن قادراً على فعله قبل أن يفعله لم يجز وقوع الفعل منه أبداً. ألا ترى أن من لم يحسن السباحة أو الكتابة لم يجز منه وقوعهما؛ فإذا تعلمهما وعلم كيف يكتب أو يسبح جاز وقوعّ الكتابة أو السباحة منه. وهذا حكم كل فاعل: لابد من أن يكون قبل فعله عالماً به وإلا لم يجز وقوعه منه - وبناءً على ذلك تقول المعتزلة إن الله كان ولا شئ معه، وأنه لم يزل بعلم أنه سيخلق الأجسام وأنها ستتحرك بعد خلقه أياما وتكن. وإنه لم يزل يعلم أنها متحركة إذا حلتها الحركة وأنها ساكنة إذا حلها السكون؛ وهو لنفسه لم يزل يعلم أن الجسم قبل حلول الحركة فيه يتحرك، وأنه في حال حلول الحركة فيه متحرك - فلا ماض ولا مستقبل في علمه تعالى لأن علمه هو ذاته وعلمه سابق للمعلومات. فتكون هكذا الأشياء أزلية في علم الله، محدثه في الزمان المعين والمحدد لها من الله. وحدوثها في الزمان لا يضيف ولا يبدل شيئاً في علم الله لأن هذا العلم سابق لها.
تبقى مسألة جواز وجود ما يعلمه الله أنه لم يوجد، ومسألة حرية الإنسان في فعل المعاصي مع معرفة الله الأزلية لما يفعله الإنسان، وهذه المسألة الأخيرة في غاية الدقة لأن المعتزلة تفخر بأنها ليست (أهل توحيد) فحسب بل أيضاً (أهل عدل) - وسنبحث إن شاء الله في مقالنا القادم هذه المسألة الخطيرة.
(البقية في العدد القادم)
ألبير نصرى نادر دكتور في الآداب والفلسفة