انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 848/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 848/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 10 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

تعقيب علي مقال في (الثقافة):

كتب الأستاذ أحمد أمين بك في العدد (560) من (الثقافة) مقالاً طريفاً تحت عنوان (نظرية طريفة). وخلاصة المقال، أو خلاصةُ النظرية: أن هناك كتاباً للكاتب الصيني (لن يوتانج) يرى في أحد فصوله: (إن لكل أمة مزاجاً، وهذا المزاج يتكون من عناصر أربعة: عنصر الواقع، أو بعبارة أخرى: النظر إلى الوجود كما هو موجود، وعنصر الحلم أو الخيال أو المثالية، وعنصر المرح أو روح الفكاهة، وعنصر الحساسية أو قوة الشعور بالأحداث. . . واصطلح الكاتب الصيني على أن يجعل كل عنصر من هذه العناصر الأربعة إذا بلغ درجة (4) فشاذ، أعلى مما يلزم، وإذا بلغ (3) فمرتفع، وإذا بلغ (2) فمعتدل، وإذا بلغ (1) فمنخفض. . . وكل أمة لديها هذه العناصر الأربعة ولكن بأقدار مختلفة، وهي تسير في الحياة وتتصرف في الأحداث وفق امتزاج هذه العناصر ومقاديرها. وعلل بعض ما يبدو في الأمم من مظاهر بهذا المزاج؛ فالفرنسيون مثلا يميلون إلى النظريات المجردة وسعة الخيال، كما يتجلى ذلك في أدبهم وفنهم وكثرة حركاتهم السياسية، وذلك ناشئ عن علو درجتهم في المثالية، والصينيون أعرق الناس في الواقعية، والألمان أحوج الناس إلى روح الفكاهة، حتى لقد كدت أعطيهم صفراً. وهذا ما أتعبهم في السياسة في الماضي والحاضر، ولو منحوا قدراً كافياً منها لتغير تاريخهم وتغير وجه الحرب. . . ثم ذكر أن المثل الأعلى لأمة أن يكون قانونها: واقعية 3 مثالية 2 فكاهة 3 حساسية 2، وأقرب الأمم إلى هذا المثل الإنجليزي).

هذا هو رأي (لن يونانج) الذي نقله الأستاذ أحمد أمين بك دون تعقيب أو مناقشة. . . أما نحن فنقول عن تفسير الكاتب الصيني لإخفاق الألمان في ميدان الحرب والسياسة بأنه من أثر النقص في عنصر المرح والفكاهة، نقول عنه إنه تفسير مضطرب يقوم على أسس تفكيرية منحرفة؛ فلو اهتدى (لن يوتانج) بمنطق الحوادث ومنطق التاريخ لوضع النقص في عنصر الواقعية مكان النقص في عنصر الفكاهة. . . ذلك لأن الألمان قد دأبوا على ألا ينظروا إلى الوجود كما هو موجود، ولو أنهم كانوا واقعيين لما أثاروا حقد العالم في ميدان السياسة بتلك النزعة العنصرية التي تنشد الغلبة والتفوق في مجال الفخر والمباهاة، ولو أنهم كانوا واقعيين لما تحدوا العالم كله في ميدان الحرب بتلك النزعة البروسية التي تتمثل أمجاد الماضي البعيد في مجال التطبيق على الحاضر المشهود!. . . ومن العجيب أن (لن يوتانج) قد منح الألمان ثلاث درجات لأنهم واقعيون، وهي نفس الدرجات التي وضعها في مواجهة الواقعية البريطانية!

بعد هذا ينتقل الأستاذ أحمد أمين بك إلى تطبيق هذه العناصر على المصريين منتهجاً نفس الخطة التي سار عليها (لن يوتانج) فيقول: (في نظري أن المصريين يغالون في الواقعية ويقصرون في المثالية، ومن أجل هذا يغلب عليهم احتذاء التقاليد والأوضاع القديمة، حتى التي كانت في عهد قدماء المصريين التزاماً للواقع).

يؤسفني أن أعقب على هذا الرأي فأقول: إن نظرة الأستاذ الفاضل إلى الواقعية تتنافى مع الأساس الذي تعارف عليه الناس ومع الأساس الذي وضعه (لن يوتانج) حين فسر الواقعية بأنها النظر إلى الوجود كما هو موجود، وعلى ضوء هذا التفسير المقبول لا يستقيم التطبيق الذي أورده الأستاذ أحمد أمين بك فيما يختص بالمصريين، فلو مال المصريون إلى الأخذ بأسباب الواقعية لنبذوا تلك النزعة الخيالية التي تدفع بهم إلى التمسح بأنقاض ماض يفصل بينهم وبينه آلاف السنين! ترى هل يمكننا أن نفسر احتذاء المصريين للتقاليد والأوضاع القديمة بأنه التزام للواقع كما يقول الأستاذ أحمد أمين بك؟ أغلب الظن أننا لا نستطيع أن نفسره إلا بأنه التزام للخيال.

ولقد أعجبت بمنطق الأستاذ أحمد أمين بك حين تناول عنصر المثالية في حياة المصريين بقوله: (. . وحتى الأدب والفنون عندهم تنقصها الأحلام والخيالات، ولذلك ضعفت القصة في أدبهم وكثرت الحكم، لأن الحكم واقعية والقصة خيالية.

والأدب المصري يسير سيراً تقليدياً، إما تقليداً للأدب العربي القديم أو للغربي الحديث، وقل فيه الابتكار، لأن الابتكار خلق والخلق يحتاج إلى تصميم والتصميم يحتاج إلى خيال أو مثالية. ولعل هذا هو شأن الشرق بأجمعه لا المصريين وحدهم، فإن صح هذا وجب على المصلحين أن يؤسسوا إصلاحهم وبرامجهم على الإقلال مما يسبب الواقعية والإكثار مما ينمي المثالية). ويلاحظ هنا أن الأستاذ أحمد أمين بك يدعو إلى الإقلال من الواقعية لأنه كما قلنا ينظر إليها نظرة خاصة تجعل منها أداة تأخر ورجعية، ولو استخدم الأستاذ منطق (لن يوتانج) لأدرك أن الواقعية هي سر هذا التوفيق الذي لازم الأمة البريطانية في تاريخها الطويل، ومن هنا استقام منطق الكاتب الصيني حين منح الإنجليز ثلاث درجات في هذا المجال

أما في مجال الفكاهة والحساسية، فقد بلغ الأستاذ أحمد أمين فيه التوفيق، وقد وقع في شيء من التناقض حين قال: (أما روح الفكاهة فهي نامية عند المصريين، وقد خففت عنهم كثيراً من متاعبهم، بل وقد تكون حفظت عليهم وجودهم، فما تحملوه من ضغط آلاف السنين كان يكفي للقضاء عليهم ولولا روح الفكاهة، فأنا أقدر روحهم الفكاهية بثلاث درجات على الأقل. . . ثم إن المصريين كالفرنسيين ينالون ثلاث درجات في الحساسية، فهم سريعو الغضب سريعو الانفعال في شدة، وقد يلاحظ عليهم أنهم ينفعلون لدواعي الحزن أكثر مما ينفعلون لدواعي السرور)!. . . إن التوفيق هنا مرجعه إلى تقرير الواقع في كثير من الدقة بالنسبة إلى الفكاهة في حياة المصريين، ولكن التناقض يظهر عندما يقال إن المصريين ينفعلون لدواعي الحزن أكثر مما ينفعلون لدواعي السرور. كيف نوفق بين قول يسجل الغلبة لعنصر الفكاهة والمرح وقول يسجل هذه الغلبة نفسها لروح الحزن والاكتئاب؟

ويمضي (لن يوتانج) في تطبيق نظريته على الكتاب والشعراء، ثم ينتهي آخر الأمر إلى تقدير بعض الشعراء بهذه المقاييس:

شكسبير: واقعية 4 مثالية 4 فكاهة 3 حساسية 4

هايني: واقعية 3 مثالية 3 فكاهة 4 حساسية 3

شلي: واقعية 1 مثالية 4 فكاهة 1 حساسية 3

ويسلك الأستاذ أحمد أمين بك طريق الكاتب الصيني ليصل إلى حقيقة تلك العناصر عند المتنبي وابن الرومي فيمنحهما هذه الدرجات:

المتنبي: واقعية 3 مثالية 3 فكاهة 2 حساسية 3

ابن الرومي: واقعية 2 مثالية 3 فكاهة 3 حساسية 4

ونقف قليلا لنعترض على تقدير (لن يوتانج) لعنصر الحساسية عند شلي وهايني وشكسبير. . . إن الميزان قد اهتز في يد الكاتب الصيني اهتزازاً شوه معالم الذوق الأدبي السليم وجنى على حقيقة القيم الفنية عند الشعراء الثلاثة؛ ذلك لأن رفاهة الحس أو قوة الشعور عند الشاعرين الإنجليزيين لا يمكن أن ترقى إلى مثيلتها عند الشاعر الألماني. . . إن استكناه دخائل النفس واستشفاف حقائق الحياة شيء وتلقي الموجات الشعورية من أعماق هذه وتلك وصبها في انعكاسات تعبيرية شيء آخر، وهذا هو الخلط الذي يبدو لي أن الكاتب الصيني قد وقع فيه حين نظر إلى عنصر الحساسية عند الشعراء الثلاثة، وهو نفس الشيء الذي وقع فيه الأستاذ أحمد أمين بك حين نظر إلى ملكة السخرية في شعر ابن الرومي على أنها عنصر الفكاهة الذي يقصد إليه (لن يوتانج) إن هناك فارقاً كبيراً بين الفكاهة والسخرية من ناحية الدلالة اللفظية، فقد يكون الكاتب أو الشاعر على نصيب وافر من روح المرح في إنتاجه الأدبي ثم لا يستطيع أن يبلغ هذا المدى في مجال السخرية؛ السخرية التي تهدف أول ما تهدف إلى تناول مظاهر الحياة والأحياء بالتهكم اللاذع والتعريض المقذع والتجريح المرير، وتستطيع أن تلمس هذا الفارق الكبير بين طابع الفكاهة وطابع السخرية في إنتاج كاتبين كبيرين هما مارك توين وبرناردشو، ذاك في المجال الأول وهذا في المجال الأخير.

ثم إننا لو منحنا ابن الرومي على عنصر الفكاهة ثلاث درجات لأضفناه إلى قائمة الظرفاء من أمثال أبي دلامة وأبي العيناء، وهذا هو الأمر الذي لا يستطيع التاريخ الأدبي أن يهضمه حين يضع في بوتقة النقد معادن الشعراء. . . وإذا وافقنا على أنه يستحق على عنصر الحساسية تلك الدرجات الأربع، فإننا لا نستطيع أن نوافق على أن المتنبي مثلا يستحق على هذا العنصر تلك الدرجات الثلاث.

حرية الرأي العلمي بين طلاب الجامعة:

بالأمس شكا إلي طالب في كلية الآداب ظلماً وقع عليه، ظلماً يتمثل في مظهر من المظاهر التي لا تتفق وطبيعة التعليم الجامعي كما يفهمه الجامعيون، لقد فقد هذا الطالب الممتاز درجة امتيازه التي حصل عليها بجهده وعلمه لأنه أراد أن يكون جامعياً، أي أن يكون حر الرأي مستقل النظرة في بحث المسائل العلمية التي تعرض عليه في صفحات كتاب وعلى لسان أستاذ. . . وتتلخص قضية الطالب المظلوم في أنه عارض آراء أساتذته في ورقة الامتحان لأنه يثق بعقله إلى الحد الذي يحول بينه وبين الإيمان بكل ما يقال، وذنبه أنه لا يريد أن يكون ذلك (الإنسان الآلي) الذي يردد بعض الحروف والأرقام دون وعي أو إرادة، ومن هنا ضاق الأساتذة المصححون بتلك العقلية التي تنشد حرية الفكر واستقلال الرأي فحرم صاحبها درجة الامتياز!

هذه هي القضية، وهي ليست قضية هذا الطالب وحده فيما أظن ولكنها قضية الألوف من طلاب الجامعة، أولئك الذين يراد لهم أن يخرجوا إلى الحياة مزودين بأسلحة فكرية مفلولة لا تقرها النظم الجامعية في العالم. . . إن المفروض في التعليم الجامعي أنه مرحلة ينتقل فيها طالب المدارس الثانوية إلى آفاق علمية جديدة، جديدة في مناهج البحث وطرائق التفكير وحرية التناول العقلي لشتى المشكلات العلمية والأدبية والفنية. فإذا ألغينا كل هذه القيم ليكون الطلاب أبواقا للأساتذة فقد قضينا على المثل العليا الفكرية التي ينشدها كل نظام جامعي قويم!

نحن لا ننكر أن بين جدار الجامعة أساتذة ممتازين، ولا ننكر أيضاً أن بين تلك الجدران أساتذة يعلم الله اين يجب أن يكون مكانهم. . . ولقد قلنا من قبل إن العبرة ليست بما يحمل المرء في يده من شهادات ولكن بما يحمل في رأسه من ثقافات! وإذن فمن الظلم أن يحال بين الطالب المجتهد وبين حرية الرأي العلمي إذا أراد أن يجهر به، وبخاصة إذا كان يتلقى معلوماته من هذا الفريق الأخير. لقد كنا ننتظر أن يظفر مثل هذا الطالب المجتهد بتقدير أساتذته بدلاً من أن يبوء منهم بمثل هذا الخذلان، ولكن أساتذته غفر الله لهم قد نظروا إلى طبيعة عقليته الجامعية الأصيلة على أنها ضرب من الخروج على كرامة علمهم الغزير. . . وفي سبيل هذه الكرامة المزعومة تلغى الكرامة العقلية في حياة جيل جامعي ومن بعده أجيال.

لتكن الجامعة جامعة وإلا فلنعلن أننا ما زلنا نأخذ بنظام الكتاتيب. . . إن وجه الشبه بين طالب الجامعة اليوم وطالب الكتاب بالأمس أن طالب الكتاب كان يئن تحت عصا الأستاذ إذا نسي منطق الترديد أو انحرف لسانه عن طريقة الببغاوات، وأن طالب الجامعة يقف اليوم نفس الموقف وإن كان بلوغه مبلغ الرجال قد صرف عنه العصا وأحل محلها قلم الأستاذ في أوراق الامتحان.

بقية الرسائل في حقيبة البريد: في العدد (846) من الرسالة كنت قد أشرت إلى أنني سأعرض بالتعقيب لبقية الرسائل التي تلقيتها من القراء في العدد الذي يليه، ولكن ضيق النطاق في العدد الماضي قد حال بيني وبين هذه الأمنية، وكذلك في هذا العدد. . . فإلى العدد القادم إن شاء الله حيث أعقب أيضاً على بعض الرسائل الجديدة.

أنور المعداوي