مجلة الرسالة/العدد 847/الاستقلال في الأدب
مجلة الرسالة/العدد 847/الاستقلال في الأدب
للأستاذ راجي الراعي
الأدب قديم يعود إلى ذلك اليوم البعيد الذي بدأ الدماغ ينسج فيه خيوطه الأولى وله دولته ذات الهياكل والأبراج والعروش وهي أعظم الدول وأضخمها وأجملها وأبعدها مدى وأغناها.
الأدب عظيم له كلمته الفيحاء الفينانة الخلابة الشاملة أتناولها فيعرض أمامي الأدب القديم مواكبه ويأتي امراؤه الذين ضخمناهم وأطلنا قاماتهم خلال القرون ويتربعون في ساحتي قائلين:
نحن أرباب الأدب ودعائمه وأساطينه كتبنا الآيات الرائعات واحتللنا في قصور التاريخ أفخم القاعات وغردنا في جنان الأدب على كل غصن فيه فلم نبق غصناً لطائر وحمنا حومتنا في جميع آفاق الفن واستقطرنا النجوم نجمة نجمة فلم نترك لغيرنا أفقاً ونجمة في كأسها خمرة وحي وإلهام فما أنت كاتب بعدنا؟ ما هذا الجنون فيك تأتي بالدواة وقد استنفدنا مدادها وتكتب المقال وترسل الآية وتؤلف الكتاب ونحن أمامك لم نبق لك جديداً، أنسيت أن العالم قديم وأن الذين فكروا وأحسوا قبل أن ولدت جيوش لو عرضت كلها أمام عينيك لسحقتك أمجاد القلم وأعماك غبار العباقرة عما أنت فيه، لقد عصروا رأس الأدب وقلبه ولم يدعوا لك قطرة.
نحن هنا أيها الدعي المغرور ولم نمت بعد وهذه أصواتنا المدوية في الدهور فقل، فل أنك تردد أصداءها.
أجل، أجل. . . أن لكم ذهبكم الذي يبرق في الأدب القديم ولكن ليس كل ما أخرجتموه للناس ذهباً ففي جواره نحاس كثير، ولكم نفائسكم ولكن ليس ما عرضتموه في المتاحف كل ما يمكن أن يعرض فيها، وأنتم أغنياء في الأدب ولكنكم لم تحتكروا الثروة الأدبية فهناك دنانير لم تضرب في أيامكم وأسواق للأدب تعرض فيها بضاعة لم تعرفوا حريرها. . . أجل، لقد عصرتم رأس الأدب وقلبه وأسكرتم الناس ولكن خمرة الروح لم تفرغ دنانها فهي دنان الزمان الذي لا يفرغ كأسه. . . أنت يا (هيجو) نسر في الخيال عظيم ولكنك لم تحتل الآفاق كلها ولم تقو على إخضاع أثير الشعر لمشيئتك فلا يحمل غير روحك ولا يطر لغير صوتك. . . وأنت يا شكسبير لست الفن كله. . . وأنت يا (روسو) لست رب النثر. . . وأنت يا من نظر الأعمى إلى أدبك لست وحدك الذي ينظر إلى أدبه العميان. . . أنتم ورفاقكم القدماء موجات في بحر الأدب والفن والخيال الذي لا ساحل له، وفي وسعي أن آتيكم اليوم وغداً وبعد غد وأنا أصف هذه الشمس في شروقها وغروبها بصورة جديدة لم تخطر لكم وأن ألبس ما أراه وأسمعه ثوباً جديداً ليس فيه خيط واحد من خيوطكم.
أن الوجوه التي أراها والأصوات التي أسمعها هي غير وجوهكم وأصواتكم، والأدب ليس وقفاً على جيل من الناس وإنما هو مرعى للأنسانية لكل أديب مفكر موهوب قطيعه فيه. . . أنتم في الأدب بشر ونحن الذين الهناكم وأقمنا لكم الهياكل وجعلنا الكلمة لا صدى لها إلا إذا خرجت من أفواهكم.
نحن الذين خلقنا لكم وجوهاً لم يعرفها لكم معاصروكم، لقد أقصاكم عنا تعاقب الأجيال في لجة القدم نقام الخيال ينسج نسيجه ويلبسكم الأثواب الفضفاضة التي خاطتها الأساطير والأوهام. . . أنتم أسياد في الأدب ولكننا لا نعترف بكم طغاة مستبدين.
أن للأدب تاجاً يطمح كل أديب موهوب إلى درة فيه، وهذا النير، نير الأدب العتيق يجب أن نتحرر منه فليس في الأدب أنيار وإنما فيه أنهار تتدفق من ينابيع الألهام الذي ينزله الله على من يشاء في أي وقت شاء.
تلك هي اللغة التي يجب أن يخاطب بها أديب اليوم أديب الأمس، إن ما نطلبه من أديب اليوم هو الجرأة في التفكير والثقة بالقدرة على الإبداع والطموح بالعاطفة والخيال إلى آخر نجمة في أقصى الآفاق وغمس القلم في مداد حر ورفع البناء بحجارة جديدة فكم هو جميل أن تبنى بناءك وتقول: هذا حجوي، وما الفائدة من القلم وأين جماله وجلاله إذا غمس في دواة قديمة.
لقد اجتازت بنا قوة التفكير والإحساس مراحل لا تعد واتسعت عيوننا وجباهنا فتكشفت لنا آفاق لا عهد للأمس بها ووعينا ما لم يكتب للأقدمين أن يقفوا عليه وغصنا إلى أعماق الوجدان وعرضنا مواكب السماء والأرض موكباً موكباً وجئنا بالكهرباء وما وراء الكهرباء. . . أبعد هذا كله نظل أتباعاً لشاعر قديم أو ناثر مفكر موهوب بيننا وبينه ألف جيل.
أن ما نطلبه من أديب اليوم هو الاستقلال في الأدب فلا وصاية ولا انتداب للأدب القديم على الأدب الحديث.
أن الاستقلال هرم له جوانبه الثلاثة فإلى جانب الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي يقوم الاستقلال الأدبي الذي لا رقابة فيه ولا قيود.
خلقت الفكرة طليقة شامخة وولد الفن عزيزاً حراً وجمال الفكر والشعور يطلع علينا في كل صباح ومساء بوجه جديد واللانهاية في الأفاق هي في الأدب أيضاً فشموسه وكواكبه وسياراته ونجومه تشع في الدهور وما وراءها.
أن هياكل الأدب أوفر عدداً من النجوم والرمال والأمواج
ولكل منا مذبحه الأدبي إذا كان في روحه دم يهرق فلنرفع الرأس في معابد الأدب والخيال أحراراً مستقلين ولننفض يدنا من الخانعين المستبدين
راجي الراعي