مجلة الرسالة/العدد 847/أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وأثر رحلته إلى
مجلة الرسالة/العدد 847/أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وأثر رحلته إلى
الديار المصرية
للأستاذ حسني كنعان
- 5 -
كان هبوط القباني مصر في عهد ساكني الجنان المغفور لهم: (الخديوي إسماعيل والخديوي (توفيق) والخديوي (عباس)) وكان هؤلاء يعطفون عليه عطف بعض ولاة الشام ويشجعونه حتى بلغ من شدة عطف الخديوي توفيق عليه أنه طيب الله ثراه ونفر ضريحه كان له في مسرحه حجرة خاصة يؤمها كلما لفست نفسه وتاقت لمشاهدة فن هذا النابغ السوري العظيم.
ومما حببه إليه أن مدة إقامته الطويلة في مصر صادفت هذا العهد التوفيقي الذي كتب له فيه النجاح والفلاح.
ولقد اشتهر نابغتنا في هذا العهد وفي هذه البلاد التي تعرف قيمة الفن وأربابه نال شهرة فائقة لا تقاس بها شهرته في وطنه حتى غدا مسرحه في برهة وجيزة كعبة القصاد وقبلة أنظار عشاقه. وكانت شهرته في سورية مقتصرة على هذا المحيط الضيق، أما هنا فلقد طارت شهرته في كافة أقطار العالم وأصبح بهذا مفناً عالمياً عرف له أهل الخبرة من الفنيين المتكسبين من هذه الصناعة والمتلذذين قدره ولزموا مجالسه - وأقبلوا على مسرحه إقبالاً رائعاً إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار عظمة مصر وتقديرها للنابغين، فأخذ عنه الكثيرون منهم وتتلمذوا عليه - وناصروه وآزروه فانتعشت بذلك آماله وتجددت همته فأرى أبناء الوادي من عظيم فنه وخوارق مواهبه ما صيره موضع الإكرام والإجلال بينهم، فنسى بهذا أيامه السود التي مرت عليه في الشام مجفواً من السلطان ومنبوذاً من الأهل والخلان). وكان (عبده الحمولي) المغني المعروف والمطربة المبدعة (ألماظ) لا يتورعان عن حضور حفلاته ولا يبخلان على الجماهير بعرض بعض أدوارهما وقطعاتهما الموسيقية والغنائية في فترات فصول رواياته، ولهذا كان مسرحه يحوي العبرة والعظة في التمثيل والفن والطرب والإبداع في التغني والإنشاد. . .) وهنا أراني ملزماً ما ورد عنه في كتاب الموسيقى الشرقي لأحد تلاميذه المرحوم (كامل الخلعي) من وصف عام شامل يدرك القارئ منه مقدار المكانة الفنية الرائعة التي كان يتمتع نابغتنا بها في مصر ومقدار تقدير المعاصرين له. قال بالحرف الواحد ما نصه.
فكان مسرحه مورداً عذباً يؤمه الكبراء والأمراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته وجلها من منشآته لما جمعت بين جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها - أرهفت نواحيها بالتهذيب، وطرزت حواشيها بكل غريب - شهد لحسنها الكثير من أهل البلاغة ومنقبي صناعة الصياغة كما شهد من قبل أكابر الموسيقيين وفطاحل الملحنين - وكان بعد انتهاء كل رواية يلقي من القطع الموسيقية شذوراً تنزو لها الأكباد، ويتحرك لحسن وقعها الفؤاد، حتى أحرزت مصرنا من إقامته فيها فنوناً جزيلة وفضائل جليلة يقدرها حتى قدرها أولو السجايا الحميدة والعقول الحصيفة - ولا ينكرها إلا ذوو الأغراض السافلة السخيفة اه). هذا وقد أفرد له تلميذ بحثاً خاصاً ذاكراً فيه مزاياه الفنية والأدبية والأخلاقية والعلمية يراه القارئ في تراجم عظماء الموهوبين من رجالات الفن على الصفحة (137) من هذا الكتاب التي أشرت إليه آنفاً ونقلت عنه هذه الفقرة من الترجمة مدللاً بها على صحة ما أوردته من تقدير هذا النابغ في مصر العزيزة وهي غيض من فيض ما كتب عنه في هذا الفصل يراه الباحث المنقب الذي يريد أن يعرف عظمة القباني يومئذ في ربوع النيل السعيد، وقد عرف عن الشيخ سلامة حجازي أنه كان يحضر رواياته وهو فتى حدث لم يبلغ الحلم بعد فلفت نظر القباني هذا الفتى المداوم على مشاهدة رواياته كل ليلة فسأل عنه فقيل إنه منشد حدث ينشد في الأزكار والموالد يدعى سلامة حجازي فدعاه لإسماعه فأسمعه إياه فسر به كل السرور وتنبأ له بمستقبل باهر وصيت بعيد. ولقد صدقت نبوءة القباني فيما بعد وأرتنا الأيام أن الشيخ سلامة أمس باقعة عصره في فنه وأن الزمان قل أن يجود بمثله في عصر ضن بالأصوات الكاملة التي تشبه صوته، ولابد أن يكون الشيخ سلامة بهذه المداومة على رواياته كل ليلة قد أخذ عنه الكثير من أصول التمثيل والفن وتتلمذ عليه لأن هذا الفن كان مجهولاً لدى المصريين كما أن أولاد عكاشة عبد الله وأخويه كانوا من تلاميذه المداومين، وعبد العزيز خليل وكامل الخلعي كانا من أنبغ تلاميذه المقربين إليه. وأول من ساعده في عمله من المصريين (أنطون فرح) اشتغل في جوقته بحديقة الأزبكية. ولما طبقت شهرته الآفاق طلب للذهاب إلى معرض (واشنطون) ليعرض بعض رواياته، وقطعاته الفنية فيه، فأبحر مع أفراد فرقته إلى الدنيا الجديدة وكلهم أمل وغبطة لإطلاع زوار المعرض على الذكاء العربي ومقدار ما وصل إليه فنه - بيد أن الدّوارّ الذي اعتراه في طريقه جعله يعدل عن السفر فعاد أدراجه من إيطاليا إلى القاهرة وسافر أفراد فرقته وحدهم إلى (واشنطون) وعرضوا على زواره بعض فصول من قطعاته الموسيقية وبعض رواياته كانت موضع تقدير القوم وإعجابهم هناك.) رأى نابغتنا بعد عودته من إيطاليا أن ينقل مسرحه من الأزبكية إلى قرب دار (الأبرا) الملكية ففعل. وبعد مدة من الزمن احترق مسرحه وعاد الشؤم والنحس بصحبانه من جديد، وكان قد انتشر هذا الفن في ربوع النيل وكشفت غوامضه مما أهاب بصاحبنا أن يهجر القاهرة لتفرق أفراد جوقته وقلة ذات يده ويؤم الأرياف متكسباً مع بعض أفراد جوقته المتخلفين عن السفر إلى (واشنطن) فزاول العمل مدة في الأرياف ثم قل العمل وتاقت نفسه للعودة إلى بلاده التي دفن فيها أحلامه.)
وحببّ أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا
وفي نزوة من نزوات النفس الأمّارة وموجبةٍ من موجبات الشوق المبرح المضني عاد القباني إلى دمشق بعد أن نشر رسالة الفن في القطر الشقيق، وكانت الحال قد تبدلت في وطنه ومات من مات من عشاق فنه ورواد مجالسه، وهلك من هلك من حساده ومناوئيه. وكان المشيب يومئذ قد أشعل رأسه وكلل جبينه بهالة بيضاء من نور الشيخوخة والوقار فلم يجد في نفسه الهمة الفتيّة والكفاءة للقيام بأي عمل فني فأقام في دمشق مدة كان معتزلاً العمل خلالها زاهداً في بيته منقطعاً إلى صلاته ونسكه حتى أتاه رسول أحمد عزة باشا العابد) يدعوه باسمه للشخوص إلى الآستانة ليمهد له سبل المثول بين يدي الذات الشاهانية، فتجددت عزائمه بهذا الطلب وعاد الأمل يداعبه من جديد وقد نسي أن لكل زمان دولة ورجالاً، وقد هتف به هاتف من نفسه أن يعتذر عن هذه السفرة؛ بيد أن شبح (البروفسور) وآفاته التي تبتلع أشلاء الضحايا مثل أمامه ودفعه إلى إجابة الباشا إلى طلبه، وفور وصوله الآستانة استقبل من قبل الحاشية استقبالاً فخماً وحل ضيفاً على الوزير الغابه صاحب الدعوة، وكان يتقن اللغتين التركية والفارسية فبقى هناك ضيفاً يتمتع بعطف مضيفه مدة من الزمن حتى احتال الوزير الداهية على المماليك بوعد لمقابلة القباني، وكان من شروطها الدخول على السلطان وهو محني الرأس ومطرقاً إجلالاً وإكباراً مقبلاً الأعتاب بين يديه، وهي مراسيم كانت تطبق على كل من يريد المثول أمام هذا الطاغية الجبار، ومن يخالفها لا يكتب له الحظوة بهذه المقابلة. وعندما عرضت على صاحبنا القباني رفضها بشمم وإباء قائلاً: أنا رجل نسيج وحدي لا أحني رأسي لغير خالقي الذي يميتني ويحييني ويطعمني ويسقسني وبيده ضري ونفعي؛ فإن شئت يا سيدي الباشا أن تكون مقابلتي لمولاي المعظم كمقابلتي لكل إنسان آخر من الناس فعلت، وإن أبيت إلا هذه الشروط فاعفني من هذه الزيارة التي فيها المذلة والمهانة).
فلم يكد الباشا يسمع من صاحبه هذه العبارات حتى كاد يجن لشدة ما عراه من الغضب والحنق، فغض الطرف عن هذه الزيارة ثم صدف القباني عنه قائلاً أرجوك رجاءً حاراً ألا تذكر ما دار بيني وبينك من حوار إلى أي مخلوق لئلا يصل ذلك إلى مسامع السلطان فتكون الطامة الكبرى علينا نحن الأثنين، كما أني آمرك أن ترحل من هذه الديار على الفور دون أن يشعر بك إنسان، وقد خصص له بعد سفره معاشاً من خزينة الدولة يكفيه هو وأفراد أسرته.
بقى القباني يتقاضى في دمشق هذا الراتب منحة من الوزير المشجع لكل موهبة حقبة من الزمن كان فيها معتزلاً الناس إلى أن اختاره ربه إلى جواره، فانطفأت بانقضائه تلك الشعلة الفنية التي أضاءت النور للشرق عامة ونفذ إشعاعها إلى ديار الغرب، وكانت السبب في انبعاث هذه النهضة الفنية التي قامت في ربوع الشام والنيل والتي لا يزال أثرها ماثلاً للعيان يذكرها أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة كابراً عن كابر). . .
وكانت وفاته في دمشق سنة 1320 هجرية ودفن في مقبرة الباب الصغير. قضى كما يقضى عظماء الرجال دون أن يترك لأسرته من بعده سبداً ولا لبداً ولم يبق لأسرته سوى بيت للسكن تقطنه الآن ابنتاه الكهلتان. ومما يجدر ذكره هنا في هذه الترجمة إقراراً بالجميل أن معاشه ظلت ابنتاه تتقاضيانه حتى موت الوزير العابد ولم ينقطع عنهما إلا في عهد زوال الدولة العثمانية وظهور الدولة الكمالية.
هذا ما بدا لي أن أكتبه خدمة للتاريخ والحقيقة عن القباني الممثل راجياً أن تتاح لي فرصة أخرى وأكتب نبذة عن القباني الموسيقي الملحن الذي أضاف إلى رقصة السماح نوعاً آخر في هذه الرقصة وهي الإيقاع بنقل الأرجل وتقديم الصدر وتأخيره في جولات الرقص. ولهذا النابغ موشحات وقدودٌ وأما دبح نبوية لا تزال متداولة بين المنشدين في مسجد بني أمية وما فتئت مستعملة حتى الآن يتبارى بها أرباب هذه الصناعة في حفلات الأذكار - وفي المساجد في ليالي رمضان وغيرها من الأيام المباركة كليلة النصف من شعبان وليلة القدر وغيرها وسنفرد لهذا البحث صفحة كاملة.
حسن كنعان