مجلة الرسالة/العدد 846/صور من الحياة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 846/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 09 - 1949



جنة الشيطان!

للأستاذ كامل محمود حبيب

(يا لحوم البحر. . . سلخك من ثيابك جزار!)

مصطفى صادق الرافعي

لشد ما شاقني أن أقضي ساعة من العمر إلى جوارك - أيها البحر - ساعة أفزع فيها من وقدة الغيظ إلى ربيعك الغض الرطيب، أسعد بالراحة من عناء العمل، وأسكن إلى الهدوء من صخب الحياة، وأتحلل من دواعي العيش، وأنفض وعثاء الطريق! فأنا - دائماً - أجد فيك هدوء البال، وراحة النفس، وصحة البدن. . . إنني ما زلت أذكر يوم اللقاء الأول - أيها البحر - يوم أن كنت فتى غضَّ الإهاب، ويّق العود، بسَّام الخواطر، لا تشغلني نوازع الحياة، ولا ترمضني صفعات الرزق، لا أرى الدنيا سوى متعة الروح ولذة القلب وفرحة النفس. . . ورأيتك - لأول مرة - فراعني موجك الثائر وهو يتلاطم في قسوة ويتهارش في عنف، وأزعجني هديرك الصاخب وهو يصّاعد في عنفوان لا يهمد، وأخذتني روعة المنظر الهائل حين كلَّ البصر عن أن يحيط بنواحيك، وحين عجز الخاطر عن أن يلم بأطرافك، وسحرتني الشمس وهي تكاد تتوارى خلف الأفق، فتندفع تبكي أفولها بعبرات من دم أحمر قان يتألق على صفحة اللجة التي توشك أن تتردَّى فيها. . . فوقفت أتأمل في صمت، وقد غلبتني الحيرة، وسيطر عليَّ الذهول. . . فما استطاعت الكلمات أن تتحدث عن بعض خلجات فؤادي، لأن عالمك أدهشني يوم اللقاء الأول، أيها البحر. . . وكنت حينذاك شاباً عزباً أحتال للأمر فأنفذ إليه في غير غناء وأبلغه في غير عنت. وللشباب أساليب شيطانية ماكرة تؤرثها عزيمة جياشة لا يعبث بها وهن ولا يقعدها ضعف، فانسربت في مسالك الطيش أنعم بأفانين اللذة وأرشف رضاب السعادة، هنا. . . هنا على شاطئك الجميل الجذاب، أيها البحر.

والآن - وقد انطوت سنوات وسنوات منذ يوم اللقاء الأول - وما زلت أحس بالذكرى الرفافة تتقد في خاطري، لأنني كنت شاباً عزباً أحتال للأمر فأنفذ إليه.

واليوم جئت إليك بقلب الرجل وعقل الفيلسوف، فماذا رأيت فيك، أيها البحر؟

وجلست بازائك أياماً استشف حكمك من خلال الموج وأقرأ خواطرك من ثنايا الزبد وأتسمع كلماتك من بين الصخب، وإن قلبي ليفتقد جمالك الأول لأنه شاب فلم يعد يحس سحرك القديم.

وأخذ القوم يغدون إليك أرجالا خلف أرجال وزمراً من وراء زمر، فغطى لغطهم على همساتك وتلاشت نبرات صوتك الرقيقة خلال الضجة العنيفة على الشاطئ. فغاظك أن تعجز - وأنت عظيم - عن أن تسكت هذا اللجب، ففار موَّارك واضطربن أمواجك، ووقف الجمع حيالك ينظرون في عجب ومن أمامهم (الراية السوداء) تنذرهم بالخطر العظيم. ثم استخفك الطرب حين رأيتك تظفر بهذا الجمع فتنفث في نفوسهم الفزع والرهبة، فغبرت أياماً تقهقه بضحكات ساخرة مخيفة، وطالت ثورتك فرحت أحدث نفسي: (غداً، حين ينفرط عقد الصيف، يعود إليك - أيها البحر - الهدوء وتشملك السكينة لأنك تكون - إذ ذاك - قد نفضت عن نفسك همَّ هذا المشهد.

وسمعتك - أيها البحر - تحدثني من خلال ثورتك قائلاً:

(هذا الشاطئ كان هاجعاً يغط في نومه فلما دبت في جنباته أول سمات النشاط والحركة هب الشيطان من سباته العميق ينشر زخرفه على أعين الناس وهو يترنم بالنشيد الأرضي الساحر فانطلق الحشد صوبه يتهافتون على بضاعته في غير وعي ولا عقل، وما زخرف الشيطان إلا اللذة والشهوة والفجور. . .

(هذا الشاطئ هو الجنة الشيطانية التي تضم ألف آدم وألف حواء، ولكنها لا تبسم عن نبتة واحدة ولا تزدهر بثمرة، إلا ورقة التوت. . . ورقة صاغها الشيطان بيده الصناع ليتوارى خلفها ثم يندفع من بين ثناياها يبذر فراس الإثم في القلوب الفاجرة فتؤتي أكلها - بعد حين - ندماً وحسرة. والشاطئ في الصيف ملعب الفجور ومسرح الفسق ومرتع اللهو

(لا عجب، فإن حرارة الشاطئ لا تصهر إلا الفضيلة والإباء، وإن مائي - ماء البحر الملح - لا يغسل إلا الشهامة والكبرياء، وأن نسماتي اللطيفة لا تزيح عن الأنفس سوى الأنفة والعفة!. . .

(هذه اللحوم البشرية العارية جاءت تطلب الصحة والعافية والجمام فارتدغت في حمأة الرذيلة، وتلك النظرات الزائغة تطوِّف بأرجاء المكان وفيها نهم ما يشبع وبها قحة ما تترفع، وهي - دائماً - لا ترعوى من حياء ولا ترتدع من خجل. وهذه المباذل الإنسانية تنحط إلى حوانيتها حين تتعرى عن الدين والشرف

(إنني أتقزز من هذا الفتى الذي جاء يغسل قاذورات جسمه ليكشف عن أدران نفسه

(وأمقت هذه الفتاة الطائشة حين تنفلت - بين الحين والحين - من بين يدي الرقيب، وهو هين لين، لتسمر ساعة إلى فتى من فتيان الشاطئ؛ تعرفت إليه في نزوة من نزوات القلب، واطمأنت إليه في ثورة من ثورات الشباب، فاغترها بحديثه، وخلبها بشبابه. والتاث عليها الأمر فعميت عن أن تراه وهو يجرها إلى هاوية من العبث والخطيئة، والشيطان من بينهما يُزوق الحديث ويمهد السبيل). وقلت لي، أيها البحر:

(أما هذا الرجل، فهو قصة الشاطئ وروح الشر وبلاء الإنسانية. هو رجل جاوز سن الشباب، فلمعت في فوديه شعرات بيض علامة العقل في رأس أحمق، وعبثت أنامل الأيام بنضارته فسطرت خطوط الرزانة على جبين فارغ. هو أب وزوج، ولكن أنانية عاصفة دفعت به إلى هنا ليعيش وحده عمراً من عمره ينبغي الفراغ من أعباء الحياة وينشد الراحة من قيود الأسرة ويطلب النجاء من أغلال الدار. ومن ورائه زوجته وأولاده يتلهبون في لظى القاهرة، ويتحرقون في عذاب الوحدة، ويتقلبون في ألم الفراق

(وبهره منظر البحر وهو يموج في آذِّيه، وخلبته هبات النسيم وهي عليلة ندية، وسحرته الأجسام العارية وهي تتألق في ضياء الشمس، ووسوس له الشيطان فانطلق الرجل فيتبانة يذرع الشاطئ وإن في عينيه الظمأ والفجور

(يا لضعة الإنسان إن خلع إنسانيته ليصبح وحشاً كاسراً لا يؤمن إلا بشريعة الناب والظفر!

(واطمأن الرجل - بعد لأي - إلى فتاة من فتيات الشاطئ. . . فتاة في ريعان الشباب ةرونق الحياة وجمال الأنوثة، تقضي سحابة يومها بين طفلين تحت مظلة، فهو يرمقها بنظرات شرهة جامحة، وهي تختلس إليه نظرات متكسرة. وابتسم هو وابتسمت. ثم انطوت الأيام فإذا الفتاة قد أسهلت وانقادت، وإذا هي إلى جانب صاحبها يتحدثان في غير رقبة ولا حذر رغم أنها زوجة وأم؛ زوجة موظف صغير طارت عن بيته لتنعم هنا بالحرية بين طفليها. لقد نبذت زوجها هناك في القاهرة يذوق مرارة الوحدة والحرمان في الدار؛ ويعاني عنت العمل في الديوان ويقاسي لظى الهاجرة في المدينة. نبذته هناك ليدخر للذاتها ثمرات جهده وكدَّ عقله وراتب شهره.

(ليت شعري، ماذا عسى أن تقول الخائنة لزوجها إن هي جلست إليه في خلوة تحدثه حديث البحر؟ وماذا عسى أن الزوج الوضيع لزوجته المسكينة؟

غداً تعود الزوجة إلى دارها وفي قلبها ذكرى، ويعود الزوج إلى أهله وفي فؤاده هوى).

ثم تلاشت همساتك - أيها البحر - بين صيحات الجمع الزاخر وهو ينادي: أن أنقذوا الغريق. فنظرت فرأيت كهلاً من كهول الشاطئ تصفعه الأمواج في غير رحمة ويجرفه البحر في غير شفقة، وقد خارت قوته ونفذ جهده، وأبناؤه على الشاطئ يصرخون في لوعة وأسى: أبي. . أبي! وزوجته تصك وجهها في جزع وحزن. وتدافع الشباب يشقون أمواج البحر في قوة وعزيمة، ثم حملوا الرجل إلى الشاطئ بعد جهد فإذا هو جثة هامدة

يا لقلبي! لقد جاء الناس يطلبون الصحة والعافية والجمام فإذا هم بين غريق في الشهوات وغريق في اليم. . .

كامل محمود حبيب