مجلة الرسالة/العدد 845/من ظرفاء العصر العباسي:
مجلة الرسالة/العدد 845/من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة
توفي سنة 161 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(تتمة)
لا ريب أن شذوذ هذا الرجل قد بلغ أشده، فعلى الرغم من كثرة ما كان يصل إلى يده من المال من الخلفاء والأمراء والأغنياء كنت لا ترى عليه إلا سيماء الفقر، إذ لا يعنى بملبسه، ولا يكترث بمظهره، بل ربما بدا أمام الناس بثياب لا تليق إلا بالمتسولين: وقد رأى عليه أبو عبد الله العقيلي مرة فروة في الصيف، فقال له: ألا تمل هذه الفروة! قال: بلى، ورب مملول لا يستطاع فراقه. فنزع العقيلي فاضل ثيابه في موضعه فدفعها إليه.
وما كان ليعجز عن فراق فروته في الصيف على رغم ملله منها وضجره مما تحمله من الحرارة لولا أنه كان يعيش عيشة المحتاجين، وإن أعطى عطاء المترفين. لكنك عرفت أنه كان ينفق أكثر ما يأتيه من المال في شرب الخمر وإتيان الحرمات، فلا غرابة إذا بدا أمام الناس بهذا المظهر الخشن البغيض!
ومع أن رداءة المظهر تصم صاحبها بالازدراء في أعين الناس - فإن لسان أبي دلامة كان من الطول والسلاطة بحيث يمنع الأذكياء من الاستخفاف بشأنه، بل يدعوهم إلى الحذر منه والخوف من طعنه في أعراضهم:
أدلى أبو دلامة بشهادة لجارة له عند أبي ليلى على أتان نازعها فيها رجل. فلما فرغ من الشهادة قال اسمع ما قلت فيك قبل أن آتيك ثم أفض ما شئت. قال: هات؛ فأنشده:
إذا الناسْ فطوبى تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
وإن حفروا بثرى حفرت بئارهم ... ليعلم يوماً كيف تلك النبائث
ثم أقبل ابن أبي ليلى على المرأة فقال: أتبيعينني الأتان؟ قالت: نعم. قال: بكم؟ قالت: بمائة درهم. قال: ادفعوا إليها ففعلوا. وأقبل على الرجل فقال: وهبتها لك. وقال لأبي دلامة: قد أمضيت شهادتك ولم أبحث عنك وابتعت ممن شهدت له، ووهبت ملكي لمن رأيت.
أرضيت؟ قال: نعم. وانصرف
وهكذا أمضى القاضي شهادته ولم يبحث عنه ولم يطلب تزكيته خوفاً من لسانه الفضاح الذي استبان بعض شره في بيتين من الشعر. وقد ترى - من هذا - أن أبا دلامة كان جريئاً لا يخاف أحداً. والحق أن هناك فرقاً عظيماً بين جرأة اللسان وثبات الجنان، فقد كان هذا الظريف جباناً من الطراز الأول يكاد يخاف من ظله ولو خاف جميع الناس لسانه.
أهدى للمهدي فيل، فرآه أبو دلامة فولى هارباً وقال:
يا قوم إني رأيت الفيل بعدكم ... لا بارك الله لي في رؤية الفيل
أبصرت قصراً له عين بقلبها ... فكدت أرمي بسحلي في سراويلي
ورجل يخاف من رؤية الفيل - وهو الحيوان الأليف الذي لا يجزع من ركوبه الأطفال - جبان ما في ذلك ريب. وهو - لجبنه - كان يفر من مبارزة الرجال فراره من الأسود!
كان أبو دلامة مع أبي مسلم في بعض حروب مع بني أمية. فدعا رجل إلى البراز، فقال له أبو مسلم: أبرز إليه. فأنشأ يقول:
ألا لا تلمني إن فررت فإنني ... أخاف على فخارتي إن تحطما
فلو أنني في السوق أبتاع مثلها ... وجدك ما باليت أن أتقدما
فضحك أبو مسلم وأعفاه.
ولقد حدث أبو دلامة عن نفسه - وفي حديثه إثبات لجبنه - قال: أتى بي المنصور أو المهدي وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه. فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن ذلك إليك، ولآخذنك بالوفاء بشرطك. ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلى، ودعا بغيرهما فاستبدل به. فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، وقد قلت بيتين فاسمعهما. قال: هات، فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهورة ... فتركتها ومضيت في الهراب
ماذا تقول لما يجئ وما يرى ... من واردات الموت في النشاب فقال: دع عنك هذا وستعلم. وبرز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة، فقال: أخرج إليه يا أبا دلامة. فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي. قال: والله لتخرجن. فقلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج. فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف. فلما رآني الشاري أقبل نحوي عليه فرو وقد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل وعيناه تقدان، فأسرع إلي. فقلت له: على رسلك يا هذا كما أنت، فوقف. فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال: لا. قلت: أتقتل رجلاً على دينك؟ قال: لا. قلت أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ قال: لا، فاذهب عني إلى لعنة الله: قلت لا أفعل أو تسمع مني. قال: قل. قلت: هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك علي، أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً؟ قال: لا والله. قلت: ولا أنا، والله لا أحفظ لك إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أراده لك. قال: يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف. قلت: إن معي زاداً أحب أن آكله معك وأحب مؤاكلتك لتتوكد المودة بيننا، ويرى أهل العسكر هو انهم علينا. قال: فافعل. فتقدمت إليه حتى اختلف أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها والناس قد غلبوا ضحكاً. فلما استوفينا ودعني. ثم قلت له: إن هذا الجاهل أن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب؛ فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت. ثم انصرف وانصرفت. فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني، فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك. وخرج آخر يدعو إلى البراز، فقال لي: اخرج إليه، فقلت:
إني أعوذُ بروْح أنْ يُقدمني ... إلى البراز فتخزى بي بنو أَسَدٍ
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرِّق بين الروح والجسدِ
قد حالفتك المنايا إذ صمدت لها ... وأصبحت لجميع الخلق بالرَّصَد
إن المهلب حبَّ الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خُلقت فرداً فلم أجُدِ
فضحك وأعفاني
فأبو دلامة يعترف هنا بجبنه، بل يصفه فيبدع في وصفه! وكأني به لا يجد فيه غضاضة، أو يريد بذكر قصته ما يريده أمثاله من الظرفاء من إضحاك الناس ولو اتهموا أنفسهم بما لا يرضاه مخلوق لنفسه. والجبن خلق قديم في طبع أبي دلامة، فهو حتى في أيام شبابه - والشباب زمن التهور والحماسة - كان لا يخجل من الفرار من الأقران. وإليك اعترافه بذلك في هذه القصة:
كنت في عسكر مروان أيام زحف إلى سِنانٍ الخارجي. فلما التقى الزحفان خرج منهم رجل فنادى: من يبارز! فلم يخرج إليه أحد إلا أعجله ولم يُنهنهْه فغاظ ذلك مروان وجعل يندب الناس على خمسمائة، فقُتِل أصحاب الخمسمائة، فزاد مروان وندبهم على ألف، ولم يزل يزيدهم حتى بلغ خمسة آلاف درهم. وكان تحتي فرس لا أخاف خونه؛ فلما سمعت بالخمسة آلاف ترقبته واقتحمت الصف. فلما نظرني الخارجي علم أني خرجت للطمع، فأقبل إلي متهيئاً وإذا عليه فرو قد أصابه المطر فابتل، ثم أصابته الشمس فاقفعل، وإذا عيناه تقدان كأنها من غورهما في وقبين. فلماذا مني أنشأ يقول:
وخارجٍ أخرجه حبُّ الطمهْ ... فرَّ من الموتِ وفي الموت وقع
من كان ينوي أهله فلا رجَعْ
فلما وقرت في أذني انصرفت عنه هارباً. وجعل مروان يقول: من هذا الفاضح؟ ائتوني به، فدخلت في غمار الناس فنجوت.
فهذه القصة التي يرويها أبو دلامة عن نفسه كانت في أيام شبابه لأنه لم يجاوز عهد الشباب حتى أواخر الخلافة الأموية، ففيها دليل أقوى على جبنه وخوفه. وقد تشم فيها رائحة الوضع لأنَّ فيها صِيَغاً وأوصافاً تقارب ما في القصة السابقة مع روْح المهلبي، حين صور الخارجي المبارز بأن (عليه فرواً قد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل، وعيناه تقدان. . .) الخ. ويمكننا القول بأن الحادثة قد تعددت على هذه الصورة مصادفة، أو أن أبا دلامة أعجبته هذه الأوصاف التي صوَّر بها مبارزه في المرة الأولى فأعادها في وصف مبارزه الثاني ليبرر موقفه في هربه أو فزعه من هذا المنظر الذي يملأ قلوب الجبناء رعباً.
ونحن - على كل حال - لا نريد أن نعفي كثيراً من أخبار أبي دلامة من ضعف الرواية، فقد لاحظنا بعض التضارب في قصصه، إذ رأينا مثلاً أن الخيزران هي التي وعدته جارية فاستنجزها بشعر، مع أننا نجد في الأغاني (ص268 جـ10) أن ريطة هي التي وعدته، ورأينا أن أبا دلامة طلب من السفاح كلب صيد ثم تدرج في الطلب إلى أشياء كثيرة، مع أننا نجد الجاحظ يروي القصة على أنها في زمن المنصور لا السفاح، ورأينا أبا دلامة يداعب السفاح فيقطعه خمسمائة ألف جريب غامرة على حين أننا نجده في موضع آخر قد أقطع أمثالها مازحاً للمنصور - وانتحلنا هناك لمنع التضارب علة لعلها غير مقبولة - لكن هذا كله لا يمنعنا من قبول أخبار أبي دلامة - على ما فيها من ضعف في الرواية - لأننا نجزم بأن مثل هذا الظريف لا بد من الزيادة في نوادره، والمبالغة في دعاباته. ومن المعروف أن الرجل إذا اشتهر بالظرف نسب إليه الناس كثيراً مما يستظرفون عمداً أو عفواً؛ بل إن الظرفاء أنفسهم كثيراً ما يجدون رغبة في اختلاق الروايات المعجبة وابتكار الأخبار المدهشة التي تدل على خيال خصيب، وذكاء عجيب، وتدل في الوقت نفسه على ميل إلى إرضاء المسامحين والظفر بإعجابهم. . .
ومن هنا لن نعجب إذا وجدنا في ترجمة أبي دلامة في كتاب (شذرات الذهب): (إنه مطعون فيه، وليست له رواية) ولن نعجب إذا قال مثل ذلك الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد والحافظ ابن حجر التعسقلاني في (لسان الميزان).
وهكذا شابه أبو دلامة أبا العيناء الذي سبق أن كتبنا عنه في الرسالة في الطعن في روايته وعدم الثقة بأخباره. والفرق بين الظريفين من هذه الناحية أن أبا العيناء كان أحياناً ما يروي السنة فكان ضرورياً أن يطيل الحافظ في بيان ضعفه تحذيراً منه بينما اكتفى أَبو دلامة برواية أخباره ووصف نوادره التي تضحك الثكلى.
هذا هو الفرق بينهما من ناحية الرواية، وأما من حيث الشخصية فإننا نرى أن قد كان لأبي العيناء نوع من الفلسفة الخاصة في هذه الحياة، فقد كان معتزاً بنفسه إلى أبعد الحدود، يرى أن الله قد عوضه عن عماه لساناً سليطاً وشعراً متيناً وذكاءاً نادراً، بينما نرى أن أبا دلامة كان يعيش على هامش الحياة عيشة لاهية، فكثيراً ما كان يحقر نفسه ويذل كرامته ليضحك سواه رغباً في عرض أدنى يناله. ثم إن أبا العيناء كان ينتقد مجمعه ويتهكم بأهل زمنه تهكماً يدل على أن الألم كان يعصر قلبه على حين كان أبو دلامة لا ينتقد عيباً ولا يكاد يتألم من شيء، وإنما كان يعيش عيشة فردية همه فيها إرضاء شهواته، وبلوغ مآربه.
ولا شك أن رقة الدين ورداءة المذهب وارتكاب المحارم وتضييع الفروض والمجاهرة بالاثم - من الأوصاف التي توشك أن تجعل من الظريفين شخصاً واحداً لشدة التشابه بينهما فيها. ولا ينتظر الناس من ظريف يضحكهم أن يكون ملاكاً أو قديساً، فإذا كان بعض القدامى قد صرح بأن (أعذب الشعر أكذبه) فإن كثيراً من المحدثين لا يعجزهم أن يزيدوا على ذلك (وأعذب الدعابة أكثرها فضحاً من المستور، وكشفاً للمحجوب).
والطريف في أبي دلامة - وما رأيت فيه إلا طريفاً - أنه عاش حياته كلها ضاحك السن لا يتألم ولا يبكي، ثم مات سنة إحدى وستين ومائة وهو ما زال ضاحكاً لا يتألم ولا يبكي!
فهل كتب الظريف عهداً على نفسه ليضحكن مدى الحياة؟
لعله فعل. . . فما أكثر شذوذ الظرفاء!
صبحي إبراهيم الصالح