انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 844/من ظرفاء العصر العباسي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 844/من ظرفاء العصر العباسي:

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 09 - 1949



أبو دلامة

توفي سنة 161هـ

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

- 6 -

وأبو دلامة - مرحه وهزله - كان يلتزم مع المهدي الجد، فيسري عنه بغير الدعابة إذا وجد الموقف يستدعي الوقار: وما ذاك من هذا الظريف إلا دليل جديد على حسن تفهمه لنفسية الخليفة ومهارته في استخدام الأساليب المرضية له حسب الظروف والمناسبات:

كان المهدي رجل من بني مروان، فدخل إليه وسلم عليه. فأتى المهدي بعلج فأمر المروانيَّ بضرب عنقه، فأخذ السيف وقام فضربه فنبا السيف عنه، فرمى به المروانيَّ وقال: لو كان من سيوفنا ما نبا. فسمع المهدي الكلام فغاظه حتى تغير لونه وبان فيه. فقام بقطين فأخذ السيف وحسر عن ذراعيه ثم ضرب العلج فرمى برأسه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن هذه سيوف الطاعة لا تعمل إلا في أيدي الأولياء، ولا تعمل في أيدي أهل المعصية. ثم قام أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين، قد حضرني بيتان أفأقولهما؟ قال: قل. فأنشده.

أيهذا الإمام سيفك ماض ... وبكف الولي غير كهام

فإذا ما نبا بكف علمنا ... أنها كف مبغض للإمام

فسرى عن المهدي وقام من مجلسه، وأمر حجابه بقتل المرواني فقتل.

وهذه المواقف التي كان يقفها أبو دلامة جاداً على هزله، وقوراً على مرحه، حببت تصرفاته إلى المهدي فرضى عنه ود لله مثل أبيه أو أكثر: فإذا كان المنصور قد أعفاه من صلاة الجماعة بالقصر ومن لبس السواد والقلانس دون الناس وأخرجه من حبس الدجاج رغم سكره - فإن الخليفة المهدي عجل جائزة كان قد أمر له بها حين كتب إليه رقعته يشكو فيها أذى الحر والصوم، وهي:

أدعوك بالرحم التي هي جمعت ... في القرب بين قريبنا والأبعد

ألا سمعت، وأنت أكرم من مشى ... من منشد يرجو جزاء المنشد جاء الصيام فصمته متعبداً ... أرجو رجاء الصائم المتعبد

ولقيت من أمر الصيام وحره ... أمرين قيسا بالعذاب المؤصد

وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ... مما يناطحني الحصا في المسجد

فامنن بتسريحي بمطلك بالذي ... أسلفتنيه من البلاء المرصد

فلما قرأ المهدي رقعته غضب وقال: يا عاض كذا من أمه أي قرابة بيني وبينك؟ قال: رحم آدم حواء، أنسيتهما يا أمير المؤمنين؟ فضحك وقال: لا والله ما نسيتهما. وأمر بتعجيل ما أجازه به وزاد فيه.

فنفهم من القصة أنه لولا شديد عطف المهدي على أبي دلامة لما أحسن جزاءه رغم شكواه من الصوم، ونفهم منها أن أبا دلامة كان رقيق الدين، فهو يلقي من أمر الصيام وحره أمرين لا يعيشهما إلا بالعذاب المطبق، وهو يتضجر من كثرة ما سجد حتى ليدعي أن جبهته قد شجت مما يؤثر فيها من الحصى المنتثر في أرض المسجد: وما كان ليعترف بهذا مظهراً ضجره وملاله لولا رقة دينه، وضعف يقينه.

وكيف لا يكون رقيق الدين ضعيف اليقين وهو مدمن على شرب الخمر لا يكاد يصل إلى شيء من المال حتى يسكر به. وكثيراً ما كان يعطي المال ليقوم بفريضة دينية يستغفر بها من ماضيه، ويصلح بها حاضره، فلا ينثره إلا في المعصية التي أحاطت به ورانت على قلبه واستحوزت على فؤاده!

عزم موسى بن داود علي الهاشمي على الحج. فقال لأبي دلامة: أحجج معي ولك عشرة آلاف درهم. فقال هاتها؛ فدفعت إليه، فأخذها وهرب إلى السواد فجعل ينفقها هناك ويشرب بها الخمر. فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشى فوت الحج فخرج. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجاً من قرية أخرى وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده وطرحه في محمل بين يديه ففعل ذلك به. فلما سار غير بعيد أقبل على موسى وناداه:

يا أيها الناس قولوا أجمعون معاً ... صلى الإله على موسى بن داود

كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا لك أثوابه السود

إني أعوذ بداود وأعظمه ... من أن أكلف حجاً يا ابن داود

خبرت أن طريق الحج معطشة ... من الشراب وما شربي بتصريد والله ما في من أجر فتطلبه ... ولا الثناء على ديني بمحمود

فقال موسى: ألقوه لعنه الله عن المحمل ودعوه ينصرف، فألقى وعاد إلى قصفه بالسواد، حتى نفذت العشرة آلاف درهم.

ولاريب أن أبا دلامة لم يكذب في وصف نفسه، فما فيه أجر فيطلبه أحد، وليس الثناء على دينه بمحمود، فعلام يكلف بالحج وسواه من الفروض؟

لذلك قال صاحب الأغاني في وصفه: (كان فاسد الدين، رديء المذهب، مرتكباً للمحارم، مضيعاً للفروض، مجاهراً بذلك. وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محله).

وهو - لفساد دينه - لم يكن يكتفي بشرب الخمر والعربدة، وإنما كان يقضي أكثر أوقاته في أسواق النخاسين الذين يبيعون الرقيق، ليستمتع برؤية الجواري الحسان. وكان كثير الزيارة للجنيد النخاس، إذ كان يتعشق جارية له ويغضبه، فجاءه يوماً فقال: أخرج لي فلانة. فقال: إلى متى تخرج إليك ولست بمشتر؟! قال: فإن لم أكن مشترياً فإني أخ يمدح ويطري. قال: ما أنا بمخرجها إليك أو تقول فيها شعراً. قال: فاحلف بعتقها أن ترويها إيان وتأمرها بإنشاده من أتاك يعترضها ولا تحجبها. فحلف لا يحجبها. فقال أبو دلامة:

إني لأحسب أن سأمسي ميتاً ... أو سوف أصبح ثم لا أمسي

من حب جارية الجنيد وبغضه ... وكلاهما قاض على نفسي

فكلامهما يشفي به سقمي ... فإذا تكلم عاد لي نكسي

فما قولك بهذا الشيخ الذي لم يمنعه العجز والكبر من خروج الجواري الحسان إليه ليملأ عينيه من جمالهن الجذاب، وسحرهن الخلاب؟

وإنك لترى صورة من أخلاق أبى دلامة في مسلكه مع الناس ومعاملته لهم - ولا سيما العاديين منهم - فهو يقسم كاذباً، وهو يلفق الأحلام، وهو يبالي بأية وسيلة يصل إلى مبتغاه: مر أبو دلامة بتمار (بالكوفة) فقال له:

رأيتك أطعمتني في المنام ... قواصر من تمرك البارحة

فأم العيال وصييانها ... إلى الباب أعينهم طامحه!

فأعطاه جلتي تمر وقال له: إن رأيت هذه الرؤيا ثانية لم يصح تفسيرها. فأخذهما وانصرف.

وللتمار الحق في ألا يصدق منامه مرة ثانية، فإنه مستعد للتحلم وتلفيق الرؤى في كل يوم ما دام يأخذ جلات التمر وقواصره، ومستعد للكذب أمام كل مخلوق ما دام ينتظر من ورائه منفعة، لأنه كان نفعياً بكل ما في الكلمة من معنى، ولم يكن يخجل من التماس المنفعة والعمد إليها حتى مع الذين لا ينتظرون أن يخدعهم ولو خدع الناس جميعاً.

دخل أبو دلامة على إسحاق الأزرق يعوده، وكان إسحاق قد مرض مرضاً شديداً، ثم تعافى منه وأفاق، فكان من ذلك ضعيفاً، وعند إسحاق طبيب يصف له أدوية تقوى بدنه، فقال أبو دلامة للطبيب: يا ابن الكافرة! أتصف الأدوية لرجل أضعفه المرض! ما أردت والله إلا قتله. ثم التفت إلى إسحاق فقال: أسمع أيها الأمير مني. قال: هات ما عندك يا أبا دلامة. فأنشأ يقول:

تنح عنك الطبيب وأسمع لعنتي ... إنني ناصح من النصاح

ذو تجاريب قد تقلبت في الصنعة دهراً وفي السقام المتاح

غاد هذا الكباب كل صباح ... من متون الفتية السحاح

فإذا ما عطشت فأشرب ثلاثاً ... من عتيق في الشم كالتفاح

ثم عند المساء فاعكف على ذا ... وعلى ذا بأعظم الأقداح

فتقوى ذا الضعف منك وتلغى ... عن ليال أصح هذي الصحاح

ذا شفاء ودع مقالة هذا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونسكت عن الشطر الثاني من البيت الأخير لأن فيه ألفاظاً ينبو عنها الذوق، وننزه عنها القلم. لكنها - على كل حال - أضحكت إسحاق وعواده فأمر لأبي دلامة بخمسمائة درهم. وكان الطبيب نصرانياً فقال: أعوذ بالله من شرك ياركل (يريد يا رجل) ثم قال الطبيب لإسحاق: إقبل مني أصلحك الله ولا تسألني عن شئ قدامه. فقال أبو دلامة: أما وقد أخذت أجرة صفقتي وقضيت الحق في نصح صديقي، فأنعت له الآن أنت ما أحببت.

فهل من النصيحة أن يدعو المريض إلى مجانبة الطبيب وأكل الكباب والعكوف على شرب الخمر وهو ما زال ضعيفاً يطلب أن يتقوى، أم رغبة أبي دلامة في إضحاك إسحاق وعواده هي التي حملته على هذا النعت العجيب، ليصل إلى شئ من النفع القريب؟ ولكن لا تنس أن الناصح ظريف، وبمثل هذا ينصح الظرفاء!

(النهاية في العدد القادم)

صبحي إبراهيم الصالح